كريتر نت – متابعات
الطاقة الاندماجية تشكل مستقبلا واعدا للطاقة النظيفة، حيث تعتمد على دمج ذرات خفيفة لإنتاج طاقة كبيرة دون نفايات نووية خطرة. وتتنافس الدول الكبرى على قيادة هذه التكنولوجيا التي ستغير موازين القوة العالمية وتعيد تشكيل العلاقات الجيوسياسية في عالم ما بعد النفط.
ومع تراجع الهيمنة العالمية لمصادر الطاقة التقليدية كالنفط والغاز، برزت الطاقة الاندماجية كخيار مستقبلي واعد يفتح آفاقًا جديدة في مجال الطاقة النظيفة والمستدامة وفي نفس الوقت وسيلة للنفوذ الجيوسياسي.
والطاقة الاندماجية هي نوع من الطاقة يتم توليدها من خلال عملية دمج نوى ذرات خفيفة، مثل ذرات الهيدروجين، لتكوين نواة أثقل، وفي هذه العملية يتم إطلاق كمية هائلة من الطاقة. وتختلف هذه العملية عن الطاقة النووية الانشطارية التي تعتمد على تقسيم نوى الذرات الثقيلة مثل اليورانيوم أو البلوتونيوم.
وتُعد الطاقة الاندماجية مصدرًا نظيفًا ومستدامًا للطاقة لأنه لا ينتج عنها نفايات نووية طويلة الأمد، كما أنها لا تنطوي على خطر حدوث تفاعلات نووية خارجة عن السيطرة، مما يجعلها خيارًا واعدًا لتلبية احتياجات العالم المتزايدة من الطاقة بطريقة آمنة وصديقة للبيئة.
ويرى الباحثان عبد الصبور شيخ و أوكان يلديز في تقرير نشرته مجلة ناشونال أنتريست الأميركية أن هذا التطور التقني لم يعد مجرد قضية علمية أو اقتصادية بحتة، بل أصبح أداة محورية للنفوذ الجيوسياسي في عالم ما بعد النفط، حيث تنافس الدول الكبرى على السيطرة على هذه التكنولوجيا الحيوية التي ستحدد موازين القوى في العقود المقبلة.
وتمثل الطاقة الاندماجية فرصة إستراتيجية للدول التي تسعى إلى تأمين مصادر طاقة مستقرة ومتجددة بعيداً عن التقلبات السياسية والاقتصادية المرتبطة بسوق النفط التقليدي.
ومن هنا، تتجه الولايات المتحدة إلى مضاعفة جهودها في تطوير هذه التكنولوجيا، من خلال استثمارات ضخمة في البحث والتطوير، ودمج القطاع الخاص مع المؤسسات الأكاديمية والبحثية، بالإضافة إلى بناء تحالفات دولية مع دول ذات مواقع جغرافية وسياسية محورية مثل تركيا ودول الخليج.
ولا تخدم هذه التحالفات الأهداف التقنية فقط، بل تشكل إطارا دبلوماسيا وإستراتيجيا يعزز النفوذ الأميركي في مناطق حيوية تتقاطع فيها مصالح عدة قوى عالمية. وتمثل تركيا نقطة تماس حيوية في هذا السياق، فهي تقع على مفترق طرق بين أوروبا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وتحظى بأهمية جيوسياسية عالية.
ورغم علاقاتها الوثيقة مع روسيا في مجال الطاقة النووية التقليدية، وخاصة عبر مشروع محطة أكويو التي تعتمد على التكنولوجيا الروسية، إلا أن تركيا طورت قاعدة علمية متقدمة في مجالات الفيزياء والإلكترونيات من خلال مؤسسات بحثية مرموقة مثل جامعة الشرق الأوسط التقنية.
وتجعل هذه القدرات منها شريكا مهما في منظومة الطاقة الاندماجية، خصوصا إذا ما انخرطت في مشاريع أميركية مشتركة تتيح لها تقليل الاعتماد على الشراكات الروسية وتعزيز تحالفاتها مع الغرب.
وعلاوة على ذلك، تعمل تركيا على توسيع تعاونها الدولي في مجالات الفضاء والدفاع، وهي مجالات متصلة بشكل مباشر بتقنيات الطاقة الاندماجية، مثل نظم التحكم والمواد المتقدمة، مما يوفر فرصا متعددة الأبعاد لتعزيز النفوذ الأميركي من خلال دعم القدرات التقنية التركية وربطها بالشبكات البحثية والصناعية الغربية.
ولا يهدف هذا التكامل الإستراتيجي فقط إلى التطوير العلمي، بل هو وسيلة لخلق روابط أعمق بين تركيا والولايات المتحدة، تساهم في إعادة تشكيل توازنات النفوذ في منطقة الشرق الأوسط. أما في دول الخليج والشرق الأوسط، فهناك توجه متزايد نحو إدماج التكنولوجيا النووية والاندماجية في خطط التنمية المستقبلية.
وطورت الإمارات العربية المتحدة، التي بنت محطة براكة النووية، إطارا تنظيميا متقدما، ما يجعلها شريكا مثاليا في مشاريع تطوير الطاقة الاندماجية، لاسيما في مجالات التدريب والسلامة والطاقة.
وتبرز السعودية، بمواردها المالية الضخمة وطموحاتها التنموية، كلاعب رئيسي يمكن للولايات المتحدة استثماره في مشاريع الطاقة المتقدمة، لتعزيز رؤيتها نحو اقتصاد متنوع ومستدام.
ومن جانبها، تلعب مصر والأردن دورا مكملا، حيث تمتلك الأردن مفاعل أبحاث لأغراض تعليمية وإنتاج نظائر طبية، بينما تبني مصر محطة الضبعة النووية وتعمل على إنشاء سلسلة إمداد داعمة، ما يجعل هذه الدول محاور مهمة في إستراتيجية النفوذ الأميركي عبر الطاقة الاندماجية. ولا يعزز هذا النمط من الشراكات التقنية والسياسية فقط البنية التحتية للطاقة النظيفة في المنطقة، بل يشكل أيضا قاعدة لتعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي.
ومن خلال تشابك مصالح الدول في مشاريع تقنية متقدمة، يصعب على القوى المنافسة مثل روسيا والصين اختراق هذه التحالفات أو التأثير في سياساتها، مما يعزز من قدرة الولايات المتحدة وحلفائها على فرض معايير مشتركة وإدارة التوازنات الإقليمية.
ويمتد النفوذ الجيوسياسي للطاقة الاندماجية إلى مستويات متعددة، فهو يضمن للدول التي تسيطر عليها أمنا طاقيا إستراتيجيا، ويعزز من مكانتها الاقتصادية عبر تطوير صناعات تقنية متقدمة، ويدعم بناء تحالفات دبلوماسية وعسكرية قائمة على المعرفة والتكنولوجيا. كما أن هذه السيطرة تمكّن الدول من التأثير في وضع المعايير الدولية المتعلقة بالطاقة النظيفة والحوكمة التكنولوجية، وهو أمر حيوي في عالم تزداد فيه أهمية التشريعات الدولية والتنسيق بين الدول حول التكنولوجيا.
كما أن التطبيقات المتعددة للطاقة الاندماجية، من إنتاج النظائر الطبية إلى تطوير تقنيات الفضاء والدفاع، تعزز من موقع الدول الرائدة في هذا المجال، وتوسع من نطاق نفوذها في مجالات إستراتيجية أخرى. فالطاقة الاندماجية، بقدرتها على تمكين تطورات علمية وتقنية غير مسبوقة، تجعل الدول التي تستثمر فيها في صدارة السباق نحو قيادة المستقبل.
وفي المقابل هناك تحديات كبيرة تواجه تحقيق الاستفادة الكاملة من هذه التكنولوجيا، منها الحاجة إلى استثمارات ضخمة، وبحوث طويلة الأمد، وبناء كوادر بشرية متخصصة، وتأهيل بنى تحتية متقدمة.
وإذا لم تحرك الولايات المتحدة وحلفاؤها خطوات حاسمة لتعزيز مكانتهم في هذا المجال، فإن روسيا والصين، اللتان تمتلكان علاقات نووية متينة مع دول المنطقة، ستوسعان نفوذهما من خلال استغلال هذه الثغرات ودعم مشاريع الطاقة التقليدية والمتقدمة في الشرق الأوسط.
ومن خلال تطوير هذه التكنولوجيا ودمج شركاء جيوسياسيين في شبكة بحث وتطوير مشتركة، تعيد الولايات المتحدة ترتيب أوراق النفوذ، وتضمن قدرة حلفائها على المشاركة الفاعلة في صياغة القواعد والمعايير العالمية للطاقة المستقبلية. وهكذا، تتحول الطاقة الاندماجية إلى سلاح جيوسياسي حيوي، يكسر هيمنة النفط ويعيد رسم الخريطة السياسية العالمية في عصر ما بعد النفط.
وفي النهاية، ستحدد القرارات التي تتخذها الدول اليوم حول الاستثمار في الطاقة الاندماجية وشبكات التعاون المصاحبة لها ملامح القوة والنفوذ في المستقبل، مع بروز أفق جديد تتحكم فيه التكنولوجيا النظيفة كعامل أساسي في توازنات القوى الدولية. المستقبل لمن يهيمن على الطاقة الجديدة وليس فقط على مصادرها التقليدية، وهو ما يجعل من الطاقة الاندماجية مركز الصراع القادم على النفوذ العالمي.