مروة محيي الدينِ
كاتبة مصرية
لم يكن الفن يومًا بعيدًا عن الجدل في المجتمعات العربية، لكنّ حدّة هذا الجدل ازدادت مع صعود الحركات الإسلامية منذ عشرينيات القرن الماضي، وخاصّة مع ظهور جماعة الإخوان المسلمين.
ففي الوقت الذي كانت فيه السينما والمسرح والموسيقى تنتشر بسرعة في المدن العربية، نظر الإسلاميون إليها بريبة وشك.
اعتبروا أنّ الغناء والمسرح أدوات لهو، وأنّ السينما بريق زائف يجذب الناس بعيدًا عن الدين والالتزام.
ومع ذلك، لم يكن الموقف موحدًا؛ إذ ظهرت أصوات داخل الجماعة تدعو إلى استغلال الفن بدلًا من تحريمه.
حسن البنا نفسه، مؤسس تنظيم الإخوان، لم يرفض الفن كليًّا، بل رأى أنّ المشكلة تكمن في محتواه، فكتب في إحدى رسائله أنّ “الفن إذا خلا من الرذيلة يمكن أن يكون وسيلة لنشر الفضيلة”.
هذا الموقف فتح الباب لاحقًا أمام مشروع أكبر هو “تطويع الفن”، أي استخدامه في خدمة القيم الإسلامية كما تراها الجماعة.
ومع تزايد حضور الإخوان في الحياة العامة في السبعينيات والثمانينيات، بدأنا نشهد أولى محاولات صناعة “بدائل فنية” مثل الأناشيد الإسلامية التي قُدّمت في المهرجانات الجامعية والمساجد، وكانت تهدف إلى منافسة الأغاني العاطفية والوطنية.
وهكذا، أصبح الفن بالنسبة إلى الإسلاميين ليس مجرّد وسيلة للتعبير الجمالي، بل أداة لنشر أفكارهم والتأثير في الوعي الجمعي.
ولادة مصطلح “السينما النظيفة” في مصر
برز مصطلح “السينما النظيفة” بقوة في التسعينيات، وهي الفترة التي شهدت تغييرات سياسية واجتماعية عميقة في مصر والعالم العربي.
كانت الجامعات المصرية حينها مسرحًا لنشاط الإسلاميين، وكان المجتمع يعيش حالة من التذبذب بين الانفتاح الاقتصادي والاجتماعي من جهة، وتصاعد المدّ المحافظ من جهة أخرى، في هذا السياق، ظهر شعار “السينما النظيفة” ليعكس هذا التناقض.
لم يكن المقصود بالسينما النظيفة مجرد الابتعاد عن المشاهد الجريئة، بل كان المشروع أوسع من ذلك بكثير.
فقد مثّل محاولة لإعادة تعريف السينما بوصفها فضاءً أخلاقيًا ملتزمًا بالقيم الدينية والاجتماعية، لا مجرد مرآة للحياة بواقعها وتناقضاتها.
واللافت أنّ الفكرة لم تُطرح في البداية من قِبل مؤسسات رسمية، بل جاءت نتيجة ضغط اجتماعي وإعلامي، حيث رفع بعض النقاد المحافظين والفنانين الشباب هذا الشعار، فلاقى صدى واسعًا بين الجمهور.
أفلام مثل “إسماعيلية رايح جاي” و”صعيدي في الجامعة الأمريكية” في أواخر التسعينيات اعتُبرت جزءًا من هذه الموجة، فقد جمعت بين الكوميديا العائلية والبُعد الأخلاقي، وابتعدت عن أيّ مشاهد مثيرة.
وقد حققت هذه الأفلام نجاحًا جماهيريًا كبيرًا، وهو ما شجع المنتجين على الاستمرار في تقديم هذا النوع.
لكن خلف هذا النجاح الجماهيري، كان هناك مشروع إيديولوجي يفرض نفسه: مشروع يهدف إلى قولبة السينما في إطار ضيق يخدم توجهًا ثقافيًا محافظًا.
الأخلاق كواجهة والإيديولوجيا كجوهر
ما يجعل مصطلح “السينما النظيفة” إشكاليًا هو أنّه قُدّم على أنّه دفاع عن الأخلاق والقيم، لكنّه في العمق كان محاولة لفرض إيديولوجيا معيّنة على الإبداع.
فقد استُخدمت فكرة “حماية المجتمع من الانحلال” لتبرير فرض رقابة صارمة على السينما والمسرح والأدب، بل اتهام الفنانين الذين يخرجون عن هذا الإطار بأنّهم ينشرون الفساد.
هذا الأمر يعكس طبيعة تعامل الإسلاميين مع الثقافة بشكل عام؛ فهم لم ينظروا إلى الفن كفضاء حر للتعبير، بل كأداة يجب أن تُسخّر في خدمة مشروعهم السياسي.
ولعل ظهور “الأدب الإسلامي” في الفترة نفسها خير مثال على ذلك، حين شُجعت الروايات والقصائد التي تتحدث عن القيم الدينية والبطولات الإسلامية، بينما وُصفت الأعمال الأخرى بأنّها “أدب هابط”، وبذلك لم تعد المعايير الجمالية هي المقياس، بل المعايير الإيديولوجية والدعوية.
أثار مصطلح السينما النظيفة جدلًا واسعًا في الأوساط الفنية. المخرج يوسف شاهين، أحد أبرز المدافعين عن حرية الإبداع، اعتبر أنّ الفكرة ما هي إلّا “رقابة مقنّعة” تهدد روح الفن. في مقابلات متعددة هاجم شاهين هذا المصطلح قائلًا: إنّ الفن لا يمكن أن يُختصر في ثنائية “نظيف” و”غير نظيف”، لأنّ الحياة نفسها مليئة بالتناقضات التي يجب على الفن أن يعكسها.
في المقابل، وجد المنتجون في هذه الموجة فرصة تجارية مربحة، فقدّموا أفلامًا عائلية آمنة تحقق نسب مشاهدة عالية دون الدخول في صدام مع الرقابة أو المجتمع. ومع ذلك، فإنّ هذا الاتجاه أدى تدريجيًا إلى تراجع الأعمال الجريئة التي تناقش قضايا حساسة مثل الفقر، والطبقية، والسياسة، والجنس، وبذلك أصبح الإبداع محاصرًا بين ضغوط الرقابة الرسمية وضغوط المجتمع المحافظ الذي تبنّى خطاب “النظافة”.
إلى جانب السينما، شهدت الدراما التلفزيونية في التسعينيات ومطلع الألفية إنتاجًا واسعًا لمسلسلات تاريخية ودينية.
مثل: “عمر بن عبد العزيز”، و”الإمام الشافعي”، وأعمال أخرى تناولت شخصيات إسلامية مؤثرة.
ورغم أنّ هذه الأعمال قُدّمت في صورة توثيقية أو تعليمية، إلا أنّها كانت تحمل رسائل سياسية ضمنية، فقد سعت لترسيخ النموذج الإسلامي المثالي في مواجهة ما اعتُبر انحرافًا ثقافيًا أو أخلاقيًا.
كانت هذه المسلسلات تحظى بدعم رسمي أحيانًا، لكنّها في الوقت نفسه خدمت الخطاب الذي يروّجه الإسلاميون حول ضرورة العودة إلى “الأصول” لمواجهة تحديات العصر.
وهكذا تحوّل الفن إلى ساحة معركة إيديولوجية، حيث يُستخدم التاريخ والدين كأدوات لإعادة تشكيل وعي الجماهير.
التجارب العربية والإسلامية: من إيران إلى السودان
ظاهرة أسلمة الفنون لم تقتصر على مصر وحدها. ففي إيران، وبعد الثورة الإسلامية عام 1979، جرى فرض ضوابط صارمة على السينما، حيث أصبح ارتداء الحجاب إلزاميًا على الشاشة، ومنع أيّ مشاهد رومانسية.
ومع ذلك، استطاع مخرجون مثل: عباس كيارستمي وأصغر فرهادي تقديم سينما عميقة تحصد جوائز عالمية رغم القيود. لكنّ تلك السينما ظلت دائمًا محكومة بسقف لا يمكن تجاوزه.
أمّا في السودان، فقد فرض نظام عمر البشير قيودًا واسعة على الفنون، حيث جرى إغلاق دور السينما وتشجيع المسرح الإسلامي والأناشيد الدينية كبديل.
وفي السعودية، قبل الانفتاح الأخير، كانت السينما ممنوعة بالكامل، وكانت الأناشيد الإسلامية تُستخدم كبديل ترفيهي للشباب. هذه التجارب تؤكد أنّ الإسلاميين لم يكتفوا بالتحذير من الفنون، بل سعوا إلى هندسة المجال الثقافي برمته بما يتوافق مع رؤيتهم.
الفنون كأداة سياسية للإسلاميين
رغم خطابهم النقدي الدائم تجاه الفن، فإنّ الإسلاميين كانوا من أكثر من استغل الفن لأغراض سياسية.
فقد استخدموا المسرحيات القصيرة في الجامعات، والأناشيد في الحملات الانتخابية، والقصص والروايات لتقديم صورة بطولية لأتباعهم.
وفي بعض الأحيان سعوا لاستقطاب نجوم الفن لدعم خطابهم.
فكما كان الأدب أداة للتأثير الثقافي، كانت السينما والموسيقى والمسرح أدوات للتعبئة السياسية.
هذا التناقض يكشف أنّ موقف الإسلاميين من الفن لم يكن مبدئيًا بقدر ما كان وظيفيًا. فإذا خدم الفن مشروعهم استُخدم ودُعم، وإذا عارضهم وُصف بأنّه “منحل” و”خارج عن القيم”.
أدى انتشار خطاب السينما النظيفة إلى نتائج بعيدة المدى على المجتمع والإبداع الفني. فقد عمّق الرقابة الذاتية لدى المخرجين والكتّاب، وأدى إلى نوع من “الانكماش الإبداعي”، حيث صار الفنانون يخشون من ردود الفعل الاجتماعية والإعلامية أكثر ممّا يخشون الرقابة الرسمية.
وبمرور الوقت أصبحت الأسئلة حول أيّ عمل فني لا تتعلق بجودته الفنية، بل بمدى توافقه مع “القيم والأخلاق”.
هذا الوضع أثّر على نوعية الإنتاج الفني، فقد تراجعت الأعمال الجريئة التي تناقش موضوعات حساسة مثل حرّية المرأة، والعلاقات العاطفية، أو الصراع الطبقي، وأسهم في تكريس صورة نمطية للفن باعتباره “وسيلة ترفيه نظيفة”، بدلًا من كونه مساحة للتساؤل والنقد وكشف التناقضات الاجتماعية.
تجربة “السينما النظيفة” وأسلمة الفنون تكشف عن محاولة متواصلة للهيمنة على المجال الثقافي والسيطرة على أدوات التعبير الفني. وبينما قُدّم المشروع باعتباره دفاعًا عن الأخلاق والقيم، إلا أنّ جوهره كان سياسيًا إيديولوجيًا بامتياز.
فالفن في نظر الإسلاميين ليس غاية في ذاته، بل وسيلة لخدمة مشروع أكبر.
غير أنّ تجارب العالم تؤكد أنّ الفن حين يُترك حرًا قادر على التعبير عن إنسانية البشر بكل تناقضاتها، وأنّه حين يُؤدلج يتحول إلى مجرد دعاية سياسية.
ورغم النجاحات المؤقتة لمشاريع “السينما النظيفة” و”الأدب الإسلامي” و”الدراما الدينية”، إلا أنّ الفن الحر ظلّ يجد طريقه دائمًا، لأنّه الأقدر على التعبير عن حياة الناس بصدق، بعيدًا عن وصاية السياسة أو الدين.
نقلا عن حفريات