فؤاد مسعد
إن أسوأ ما فعلته الحرب باليمنيين أنها تسببت – بشكل مباشر حيناً، وغير مباشر أحياناً أخرى – في إحداث انشطار داخل المجتمع اليمني، بدأ مع اندلاع الحرب وظل يتعزز خلال السنوات الماضية.
فعوضاً عن الانقسام السياسي والفكري الذي ظل سمة ملازمة للتركيبة الحزبية اليمنية لعقود طويلة، بات الانشطار الأخطر هو الملمح الأبرز والأكثر حضوراً في الوقت الراهن، وهو انشطار يتجاوز السياسة والفكر، ليضرب عمق البنية الاجتماعية والإنسانية.
لقد أفرزت الحرب فريقين لا ثالث لهما: فريق طحنته الحرب، وفريق استفاد منها.
فريق يدفع فاتورة الحرب من دمه وعرقه ولقمة عيشه، وآخر يستلم نفس الفاتورة لكن على شكل امتيازات ومناصب وأموال، بل وصفاقة تجعله في حل من تأنيب الضمير، إذ يرى أن ما يحصل عليه ليس سوى القليل مما يستحق “جزاء نضاله” المزعوم ودفاعه عن الوطن!
لم يعد الخلاف بين اليمنيين خلاف برامج سياسية أو تصورات فكرية، بل أصبح خلافًا حول القيم نفسها.
• فريق يرى أن البقاء لا يتحقق إلا عبر التنازل عن المبادئ، والانحناء للعاصفة.
• وفريق آخر يصر على التضحية والمقاومة، حتى لو كانت النتيجة فقدان الحد الأدنى من مقومات الحياة، أو الحياة نفسها.
وهكذا انقسم اليمني إلى نصفين: نصف يتعايش مع الحرب كقدرٍ محتوم، ونصف يتشبث بكرامته مهما كان الثمن.
وفيما يخص الذاكرة فإن الحرب مزّقت الذاكرة الجماعية لليمنيين.
وبات كل طرف يكتب روايته الخاصة، ويصوغ بطولاته، وبهذا يترسخ الانشطار في العقول والذاكرة، قبل أن يترسخ في الجغرافيا، وفي هذا السديم ستجد الأجيال القادمة نفسها غارقة في متاهة من السرديات المتناقضة.
في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية ولّدت الحرب طبقة جديدة لم تكن معروفة من قبل، إنها طبقة ثرية مترفة باتت تعيش في أبراج عالية، تحصي مكاسبها اليومية، مقابل أغلبية مسحوقة تغالب الجوع والفقر والحرمان من أبسط مقومات الحياة.
ففي حين يتضاعف ثراء التجار الجدد وأمراء الحرب، يقف ملايين اليمنيين في طوابير طويلة في انتظار المساعدات والمنح الغذائية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وفي هذا السياق يتعزز الانشطار الاقتصادي والاجتماعي، وهو لا يقل خطورة عن الانشطار السياسي، لأنه سيزرع بذور صراع قادم لا يمكن التنبؤ بشكله ولا نتائجه.
أما عن الانشطار الجغرافي فقد تكفلت الحرب في تمزيق الجغرافيا نفسها مع القاطنين فيها، إلى كتل صغيرة، ولكل كتلة هويتها وملامحها الخاصة، ففي الداخل يجد اليمني نفسه ممزقاً بين مدن محاصرة وطرقات مقطوعة وأسواق سوداء مفتوحة لتجار الحرب وأثرياء اللحظة الراهنة. وفي الخارج يتوزع مئات الآلاف بين المناطق والولاءات والارتباطات المختلفة والمصالح المتصارعة.
في المحصلة بات الانشطار واضحاً، ولا يحتاج اكتشافه والوقوف عليه لكثير من الجهود، فثمة غالبية واسعة أصبحت تعيش على حافة اليأس والإحباط، بعدما فقدت الأمل في الجميع، وفي المقابل يوجد منتفعون يعيشون حالة من الثقة المفرطة بذواتهم ومكاسبهم التي يبررونها ببطولات زائفة ومصطنعة.
ولا تقف الانشطارات والانقسامات التي أحدثتها الحرب هنا، ولكنها تطال تعريف الوطن نفسه، فالوطن يعني لأحد الفريقين الأرض والهوية والذاكرة والكرامة، بينما يراه الفريق الآخر غنيمة للاقتسام ومشروع للاستثمار، وكل ذلك باسم الوطن نفسه. والفرق واضح بين من يرى الوطن قيمة كبرى تستحق التضحية، ومن ينظر إليه مجرد صفقة أو شركة مساهمة، بين قلة من المنتفعين، ولو كان ذلك على حساب أغلبية يدفعون حياتهم في محراب الدفاع عن الوطن ذاته.
ونخلص هنا إلى أن الخطر الذي يهدد اليمن ليس استمرار الحرب فقط، ولكن ترسيخ الانشطار الذي لن يزول بانتهاء الحرب، وسيبقى شاهداً عليها، وفي طليعة تداعياتها النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وربما يصبح شرارة لاندلاع حروب وصراعات جديدة.
الخلاصة
لقد صنعت الحرب باليمنيين ما هو أبشع من القتل والتدمير، إذ حوّلتهم إلى مجتمع منقسم على نفسه، تمزقه الرايات والروايات المتناقضة، وتتوغل فيه الهويات الضيقة والمتصارعة.
وإن البنيان الذي يتشظى لا يجتمع بالحجارة والإسمنت وحدهما، كما أن المجتمع الذي ينشطر على نفسه لا يمكن لكل مشاريع الإعمار أن تعيده إلى سابق عهده.
وعوداً على بدءٍ: إن أخطر ما فعلته الحرب باليمنيين أنها جعلت بعضهم وقوداً لها، وبعضهم الآخر يقتات عليها، وبين الفريقين وطنٌ لا يزال ينزف.