محمد زكاري
كاتب مغربي
ظلّ سؤال العدالة، في سياقنا العربي الفلسفي، معلّقاً؛ لأنّه مرتبط – في تقديرنا – بأفق لم نلجه بعد. درجت أغلب الدراسات الفلسفية على النظر في مفهوم العدالة من جهة تاريخ الفلسفة، واتخذت من المقاربة النصيّة سبيلاً من أجل فهم تحولات المعنى القائمة في دواخل المفهوم ومكامنه.
غاب عنا النظر في الشروط الموضوعية التي انبرى فيها هذا المفهوم في سياقنا المعرفي والفكري، بل لم يتحقق ما نستطيع به أن نتعاطى مع هذا المفهوم خارج تجربة تاريخية، بعينها، هي التجربة التاريخية الأوروبية.
كان سؤال العدالة، في تاريخنا المعاصر، نابعًا من حاجة مُلحّة فرضها الاحتكاك بالمدنية الغربية في جانب كبير منها، والاستفادة من التقدم المهول الذي حققته العقلانية المؤسساتية في تطوّرها الكبير.
لكنّ هذا المسار لم يكن سوى شرط من شروط تفكير طويل خيّم على الوعي العربي، ومنح النخب القدرة على التفكير في واقع متحوّل. ولكنّ المسألة العويصة لم تقف عند هذا الحد، وإنّما استمرت في شكل الخطاب الذي يقيم نفسه بين الأصالة والمعاصرة، أي ذلك الخطاب الذي ما يفتأ ينظر إلى العدالة وفق تصوّر يرفض القطع مع الماضي التاريخي والسياسي للجماعة، ويرفض الانخراط في نقد راديكالي للمفهوم كما هو متجلٍّ في واقعنا اليوم.
من المؤكد أنّ المجازفة بإخراج هذا المفهوم من قالبه التقليدي والسير به رأسًا نحو أفق العصر سيتطلب النظر في العلاقة القائمة بين العدالة والقانون، وفهم الأصول النظرية التي تجعل من تحقيق العدالة أمرًا ممكنًا ضمن واقعنا العربي المعاصر.
بصرف النظر عمّا إذا كان الواقع متغيرًا ومتحوّلًا، فإنّ المنظور القانوني يجب أن يظلّ ثابتًا وقارّاً، ولا يمكن أن يتحوّل إلى آليّة تتوافق مع العناصر المتغيرة، بمعنى أنّه متى كان النظر إلى القانون بحسبانه نظامًا متكاملًا في ذاته، كانت الضمانات الاجتماعية مكفولة بذاتها، وهذه القاعدة مكفولة في الاتجاهين.
والاختلال في أيّ طرف من أطراف هذه المعادلة يؤدي حتمًا إلى انهيار في شبكة التوازنات التي تجسّدها السلطة المشرفة على استمرارية القانون وبقائه، أي الدولة.
بهذا المعنى فإنّه لا وجود لدولة خارج القانون، ودورها هو الإبقاء عليه وضمان استمراريته، بما يؤدي إلى حفظ شبكة العلاقات الاجتماعية.
ولمّا كان الأمر كذلك، صارت العدالة صورة لهذا النظام المتكامل والمستقر الذي يحدد العلاقات بين الأفراد والمواطنين، استجابة لمبدأ “أنّ كلّ الناس سواء أمام القانون”، وأنّ قوة القانون وصلاحيته تتمثل في كونه ملزمًا للجميع من دون استثناء، وهذا هو النطاق الذي يكون بموجبه القانون ضامنًا للعدالة وأساسًا لاستمراريتها.
ولعلّ هذه العلاقة الجدلية بين العدالة والقانون تعطي نموذجًا متداخلًا ومعقدًا، وذلك إذا ما نظرنا إلى حالنا الراهن، وإلى ضعف النظام القانوني أو غياب العمل به، وهو ما يفتح ورشًا فكرية ونقدية تجاه هذا النظام الذي بوساطته يمكن أن تتحقق العدالة في أسمى صورها.
لكنّ حصر العدالة في هذا التصور الوضعاني الدقيق لا يعفينا من إمكانية النظر في مستوياتها الأخرى، التي تقتضي ـ في ما تقتضيه ـ الأخذ بسؤال القيم وجعله محورًا لكل تفكير ممكن في العدالة.
وببساطة يمكن أن نلخص المعادلة في الصورة التالية: لا تتحقق العدالة إلا بوجود نظام قانوني متكامل وعقلاني ووجود نظام قيمي وأخلاقي يضمن التزام الأفراد ذاتيًا بما هو ملزم لهم.
ولو تأكد لدينا أنّ سؤال القيم معطى ضروري ولا محيد عنه، فإنّ القيم المؤدية إلى العدالة هي الأساس الذي ينشأ عليه الأفراد، والذي تربّى عليه الأجيال، بمعنى أنّها الاختبار العياني الذي يمكن لكل فرد أن يختبره منذ نعومة أظافره، داخل الأسرة، والمدرسة، والشارع، والمؤسسات، إنّه نظام موازٍ للنظام القانوني، ولنقل إنّه صوت الإنسان الذي يتحرك وفقًا لإنسانيته.
لا تكون طاعة القانون عمياء، ولا تكون القيم وحدها كافية من أجل بناء دولة.
السبب الذي يؤدي إلى نشوء هذه المفارقة بسيط، ومؤداه أنّ ما يدخل في مجال القيم يكون بالضرورة نسبيًا ويقبل الاختلاف بين الأفراد على المستوى الجزئي والذري، لكن عادة ما يميل القانون إلى خلق الائتلاف والوحدة.
لا يعني ذلك أننا أمام طريقين مختلفين، بل يعني ذلك، ببساطة، أنّ اختلافنا لا يمكن أن يؤدي إلى تفكيك بناء القانون ونظامه وبالتالي تفكيك الدولة، وإنّما العكس هو الصحيح، إنّ مدار اختلافنا في أمور جزئية لا ترقى إلى أن تصير مسائل صراع.
لا بدّ للعدالة أن تتأسس على نظام للقيم، وذلك لأنّ المعنى الذي يكون به الفرد عادلًا سيتحقق، إذا، وفقط إذا تلقى تربية على العدالة، فلا عدالة من غير مواطنين عادلين، ولا يمكن أن يوجد نظام قانوني عادل من غير وجود مواطنين تهيأت لديهم الشروط من أجل الدفاع عن روح العدالة بما هي إنصاف لكل الأفراد، لا بالمعنى البسيط الذي يضعها عند مستوى المساواة.
كلّ فرد مهيّأ لأن يكون قادرًا على الدفاع عن العدالة من خلال مشاركته في إدارة شؤون دولته، ولا يمكن أن يتحقق هذا الأمر إلّا إن هو جسَّد مثالًا للعدالة في ما هو موكول إليه القيام به؛ فالطبيب ـ مثلًا ـ عادل، وعدالته في أن يشخّص ويعالج الأسقام وألّا ينظر في أحوال الناس الاجتماعية، فوظيفته قائمة على حفظ الأنفس، ولو أنّه انتقى واصطفى من هم أولى بالعلاج؛ فإنّ ذلك سيؤدي لا محالة إلى فساد هذه الوظيفة وسيضيع شرفها.
وكذلك الأمر في سائر الوظائف، فلو أنّ المرء يراعي ما يقوم به وفقًا لنظام قيم متحقق، فإنّ ذلك سيؤدي حتمًا إلى تحقيق العدالة من أجل الآخرين.
يمكن القول بناء على ذلك إنّ أيّ مجتمع يسعى إلى تحقيق نظام قانوني عادل فإنّ أولى أولوياته أن يؤسس لنظام قيم، وأن يعمل على ترسيخه بين الأفراد والجماعات، وما دام هذا الأمر بعيدًا وقصيًّا عن التحقق بالنسبة إلى أيّ مجتمع أو دولة، فإنّ العدالة ستصير معدومة.
هكذا إذن، يمكن القول إنّ الطريق الأساس الذي تتحقق من خلاله العدالة داخل كل مجتمع متأصل في رؤية قانونية وأخلاقية.
ولا يمكن – بأيّ حال من الأحوال – أن نظل جاثمين عند نقد الاستبداد، وكأنّ هذا النقد سيصير هو المفتاح السحري من أجل إحداث التحول، إذ لا تحول من غير نظام قانوني حقيقي، ونظام قيم يعطي الأولويّة للناشئة، ويحمل نظرة استشرافية ثاقبة نحو المستقبل.
تحققت في التجارب الآسيوية نماذج حقيقية استطاعت أن تزاوج بين التقدم ونظام القيم، وتبين بعد حين أنّ الرهان الأكبر في العدالة الاجتماعية إنّما يكمن في التركيز على قاعدة الهرم، وأنّ العدالة الحقيقية تكمن في إنصاف القواعد الاجتماعية، ومنحهم الأولوية للولوج إلى القطاعات الحيوية كالصحة والتعليم… إلخ. هذا النظام العادل قانونيًا وأخلاقيًا، هو الذي يحقق العدالة في ما وراء حجاب الجهل، ويجعلنا قادرين على معرفة ما يمكن أن يكون سببًا في إنصاف الأفراد كلهم من دون استثناء.
قد يبدو هذا الأمر مستبعدًا لأننا نرى في واقعنا كلّ ما من شأنه أن يرسخ مظاهر الاستبداد والتأخر والتخلف، لكن لنقل بشيء من الموضوعية إنّ هذا الوضع ليس شيئًا يُذكر أمام ما عاشته أوروبا القرون الوسطى أو آسيا غداة الحرب العالمية الثانية، لكنّها حققت نهضتها الخاصة، وسيكون من المفيد بالنسبة إلينا أن نستفيد من هذا الدرس التاريخي، وأن نستوعب التجارب في العدالة، والديمقراطية، والحداثة، غير النموذج الأوروبي الذي وصل إلى أفق مغلق وإلى حال من التقهقر لم يسبق لها مثيل.
نقلا عن حفريات