كريتر نت – متابعات
أظهر التطور التقني كيف يمكن للتكنولوجيا الحديثة، خصوصا الطائرات المسيرة والذكاء الاصطناعي، أن تعيد تشكيل طبيعة الحروب وتغير قواعد الاشتباك، وهو ما يجعل القدرة على التحكم في الأدوات الحديثة عاملا حاسما في النجاح العسكري.
وعندما شنت روسيا غزوها الشامل لأوكرانيا في أواخر فبراير 2022، بدت الحرب في مظهرها الأولي وكأنها إعادة إنتاج لصراعات القرن العشرين. سيطرت الدبابات وناقلات الجند والمدفعية والخنادق على المشهد، وكان تقدم القوات مشروطا بالأساليب التقليدية في الحرب البرية. لكن بمرور الوقت، وتحديدا بعد ثلاث سنوات من القتال المستمر، تحولت هذه الحرب إلى نموذج مختلف كليا عن بقية الحروب.
وفي صيف عام 2022 كشف قائد وحدة الطائرات المسيرة التابعة للواء الهجومي الثالث الأوكراني عن سلاح جديد قلب موازين المعركة، وهو الطائرات المسيرة التي تعمل برؤية الشخص الأول (أف بي في).
وتتميز هذه الطائرات رباعية المراوح وصغيرة الحجم ورخيصة الثمن بقدرتها العالية على المناورة ونقل لقطات فيديو فورية إلى مشغليها، ما يمنحهم تحكما دقيقا ومباشرا في المهام القتالية.
وتتميز هذه الطائرات أيضا بهجماتها الانتحارية التي تستهدف الأهداف بدقة متناهية، ما يجعلها سلاحا فعالا ومغيرا لقواعد الاشتباك. وغمرت أوكرانيا الميدان بالآلاف من هذه الطائرات المسيرة، وسرعان ما تبعتها روسيا في استخدامها وتطويرها، حتى باتت مئات الآلاف من هذه الطائرات تملأ سماء أوكرانيا، ما أدى إلى تطور نوع جديد من الحرب يمكن تسميته “حرب الطائرات المسيرة”.
ويرى الباحثان إيريك شميدت، مهندس الكمبيوتر والرئيس التنفيذي السابق لشركة غوغل، وجريج جرانت، الباحث الزميل في برنامج الدفاع بمركز الأمن الأميركي الجديد، في تقرير نشرته مجلة “فورين أفيرز” أن استخدام الطائرات المسيرة أصبح محورا أساسيا في تحديد قوة أي وحدة عسكرية على الأرض، حيث باتت الترسانة التقليدية من الدبابات وناقلات الجنود المدرعة والمدفعية أقل أهمية مقارنة بقدرة الوحدة على تشغيل ونشر الطائرات المسيرة بشكل فعال.
وسمحت هذه الطائرات، بكلفتها المنخفضة وسرعتها ودقتها، بتحقيق إنجازات عسكرية غير مسبوقة على صعيد تدمير الأهداف الحيوية والقيام بهجمات مفاجئة ومعقدة. ووفقًا لشميدت وجرانت، فإن هذا التطور يمثل تحولا جذريا في مسار الحرب، حيث أصبحت الطائرات المسيرة أداة لتعويض نقص الأسلحة التقليدية، لاسيما في ظل القيود التي فرضها نقص الإمدادات وكلفة الأسلحة الثقيلة.
وفي أول حرب تُخاض بشكل واسع باستخدام الطائرات المسيرة، أصبح واضحا كيف تؤثر هذه التكنولوجيا على ميدان القتال.
فمثلاً، كانت الطائرات المسيرة الأوكرانية مسؤولة عن 90 في المئة من خسائر الدبابات والمركبات المدرعة الروسية، و80 في المئة من خسائر الأرواح الروسية.
وتعكس هذه الأرقام مدى تأثير هذه التقنية الحديثة، والتي أظهرت قدرة على إحداث دمار واسع النطاق حتى من دون الحاجة إلى التفوق الجوي التقليدي الذي يتطلب طائرات مقاتلة وسيطرة كاملة على الأجواء.
وأتاح هذا النوع من الطائرات أيضا إجراء هجمات على قواعد روسية بعيدة جدا عن خط المواجهة، حيث تمكنت أوكرانيا من ضرب قواعد جوية على بعد 5000 ميل من كييف في يونيو 2023 عبر تهريب الطائرات المسيرة وإطلاقها من شاحنات على الحدود.
ومن ناحية أخرى كانت موسكو قد تأخرت نسبيا في تطوير وتعزيز قدرتها على استخدام الطائرات المسيرة بأعداد كبيرة، لكنها سرعان ما ضاعفت جهودها لإنتاج الطائرات المسيرة من نوع “أف بي في” وغيرها، بالإضافة إلى طائرات القصف الإستراتيجي مثل “شاهد” إيرانية التصميم.
وطورت روسيا نماذج متعددة ذات كفاءة عالية مثل “أورلان” المستخدمة للمراقبة و”لانسيت” التي تحوم فوق الهدف ثم تنفجر فيه عند الاصطدام، ما يواكب القدرات الأوكرانية ويخلق سباق تسلح تكنولوجي متواصلا في ساحة المعركة.
وجعل هذا التطور المتسارع في الأجهزة والبرمجيات والتكتيكات الحرب ساحة متغيرة باستمرار.
وأدى الانتشار الواسع للطائرات المسيرة إلى جعل تحركات القوات مكشوفة تمامًا أمام المراقبة، ما يعني أن أي تحرك بالقرب من خط المواجهة يمكن أن يتعرض للهجوم في غضون دقائق.
وقد أصبح مشغلو الطائرات المسيرة أهدافا رئيسية في هذا الصراع، كما أن تكافؤ القوة أصبح يعتمد على القدرة التقنية في استخدام هذه الطائرات بفاعلية، ما أظهر بداية تحول نحو “حرب آلية” تتراجع فيها الأدوار البشرية التقليدية.
وأدى هذا الواقع إلى تغيرات كبيرة في أنماط تحرك القوات، فلم تعد القوات قادرة على التنقل بسهولة خلال وضح النهار، نظرا لانتشار كاميرات الطائرات المسيرة والرصد الدائم.
وفي هذه الحرب لا يقتصر التنافس على التفوق العسكري التقليدي، بل يتعداه إلى التفوق المعلوماتي الذي أصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى.
فالقدرة على بناء شبكات استشعار مرنة قائمة على الطائرات المسيرة والحفاظ عليها تعد مسألة حيوية لاستمرارية العمليات العسكرية. وإذا فقدت هذه الشبكات قدرتها على تشغيل طائرات استطلاع مسيرة فوق مناطق معينة، تصبح هذه المناطق عرضة لخطر كبير.
ويعمل نحو 3000 جندي أوكراني بشكل مستمر لتشغيل هذه الطائرات على طول خط مواجهة يمتد 750 ميلاً، مع بث مستمر يصل إلى 60 فيديو مباشرا لمراكز قيادة الألوية الأوكرانية. وبما أن الطائرات دون طيار أصبحت مركزية في العمليات القتالية، صار تدميرها هدفا أوّل وأساسيا في المعارك.
ويبلغ عدد الطائرات الاستطلاعية الروسية التي تنشط خلف الخطوط الأوكرانية نحو 1200 طائرة في يوم واحد، ما دفع أوكرانيا إلى تطوير أول نظام دفاع جوي يعتمد على الطائرات المسيرة لاعتراض هذه الطائرات.
وتستخدم أوكرانيا طائرات “أف بي في” لمطاردة الطائرات الأكبر والأبطأ، ما أجبر روسيا على تغيير تكتيكاتها بزيادة ارتفاع تحليق الطائرات لتفادي الاعتراض.
ورغم ذلك يتم إسقاط حوالي 80 في المئة من هذه الطائرات، سواء الروسية أو الأوكرانية، بواسطة دفاعات جوية تقليدية واعتراضية، ما يؤكد شدة المنافسة والتطور السريع في تقنيات الحرب الجوية الصغيرة.
واستجابت روسيا لهذا الواقع بتطوير طائرات استطلاع أصغر وأسرع ومموهة، مزودة بكاميرات خلفية تساعد المشغلين على مراقبة الطائرات الملاحقة والهروب منها، ما يعكس دورة مستمرة من الابتكار والمنافسة التقنية.
وتعكس سرعة التكيف والابتكار قوة عسكرية جديدة قائمة على التكامل الوثيق بين المشغلين في الخطوط الأمامية والمهندسين في مراكز البحث والتطوير القريبة من ساحات القتال. ويتم إصدار تحديثات البرامج والأجهزة بشكل شبه يومي، وتطوير أجهزة راديو وهوائيات جديدة لتحسين التحكم والطيران.
هذه المرونة والتكرار المستمر أساسيان لمواجهة خصم يتكيف بنفس السرعة، ما يجعل هذه الحرب سباقًا مستمرًا بين الفعل ورد الفعل.
أما التطورات التقنية في الطائرات المسيرة نفسها فقد شهدت تحولات كبيرة من الطائرات التقليدية إلى طائرات هجومية مزودة بكابلات ألياف ضوئية تسمح بنقل صور واضحة لمسافات تصل إلى 25 ميلاً.
وهذه الطائرات مقاومة للتشويش ولا تصدر إشارات لاسلكية يمكن تعقبها، ما يجعلها ملائمة للقتال في التضاريس الجبلية والحضرية، حيث الدقة العالية وسرعة الاستجابة حاسمة.
ويمثل هذا النوع من الطائرات تقدما ثوريا في الحرب، حيث يوفر حماية أفضل لمشغلي الطائرات ويقلل فرص اكتشافهم. ولم يقتصر الابتكار على تحسين الأداء، بل شمل أيضا تقليل الكلفة بشكل كبير.
فاغلب الطائرات المسيرة الهجومية الحديثة مثل “مولنيا” الروسية و”دارت” الأوكرانية يقل سعرها عن 3000 دولار، وهو مبلغ زهيد مقارنة بالطائرات المسيرة باهظة الثمن التي كانت تُستخدم سابقاً مثل “لانسيت” الروسية و”سويتش بليد” الأميركية اللتين تتراوح أسعارهما بين 65 و150 ألف دولار.
ويسمح هذا الخفض في التكاليف بإطلاق أعداد كبيرة من الطائرات في هجمات منسقة، حيث يمكن إطلاق 15 طائرة على هدف واحد لتعزيز فرص الإصابة والتدمير.
وفي ما يخص الذكاء الاصطناعي، فإنه يشكل مستقبل العمليات بالطائرات المسيرة، حيث يمكن أن يحل العديد من المشكلات التي تواجه المشغلين البشر، من أخطاء وتحديات في مواجهة التشويش والتزييف الإلكتروني المتزايد في ساحة المعركة.
وتعمل الأنظمة القائمة على تسهيل اكتشاف الأهداف وتتبعها بدقة أكبر، وتوجيه الطائرات نحوها، حتى في ظل الظروف القتالية الصعبة والتمويه الروسي.
ويجري تطوير هذه الأنظمة في أوكرانيا ودول غربية، ويهدف إلى تقليل الحاجة إلى مشغلين ذوي مهارات عالية، ما يزيد من سرعة وكفاءة العمليات.
وتسعى شركات الصناعات العسكرية أيضا إلى تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي تنسق هجمات سرب من الطائرات دون طيار بشكل مستقل، بحيث يمكن لمشغل واحد توجيه العديد من الطائرات التي تحلق في مسارات مستقلة، لتجاوز الدفاعات وإغراق الهدف.
وتمثل هذه التقنية قفزة نوعية في القدرات القتالية، وتفتح آفاقا جديدة لإستراتيجيات الهجوم والدفاع، حيث يمكن تنفيذ ضربات دقيقة ومعقدة دون الحاجة إلى عدد كبير من المشغلين.
ويمثل استخدام الطائرات المسيرة في الحرب الأوكرانية نموذجا لتحول جذري في كيفية خوض الحروب.
فقد أصبحت العقائد العسكرية والتكتيكات والتنظيمات التقليدية غير كافية، وستحتاج الجيوش في المستقبل إلى إعادة بناء إستراتيجياتها بالكامل، والاعتماد بشكل أكبر على التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي والتنسيق المعلوماتي لضمان التفوق.
إن أفضل استعداد لهذا المستقبل هو الاستماع إلى من يخوضون هذه الحرب على الأرض ويعيشون تفاصيلها بشكل مستمر، للاستفادة من دروسها وتحدياتها التي تعكس التحول الحقيقي في طبيعة الحروب الحديثة.