كريتر نت – متابعات
الطائرات المسيّرة منخفضة الكلفة وحملات التضليل المدعومة بالذكاء الاصطناعي وازدياد نفوذ المرتزقة والشركات العسكرية الخاصة أصبحت عناصر حاسمة في صراعات أفريقيا المعاصرة. ففي ظل ضعف الدولة وفراغ السلطة تسهم هذه الأدوات في تغيير قواعد الحرب، وخلق تهديدات أمنية جديدة تقلل فرص السلام وتزيد من هشاشة الوضع الإقليمي.
باماكو – تشهد أفريقيا اليوم تحولا جذريا في طبيعة الصراعات، مع بروز أدوات غير تقليدية باتت تشكّل المشهد الأمني والعسكري في القارة.
وأصبحت الطائرات دون طيار الرخيصة والفعالة، والتضليل الإعلامي المدعوم بالذكاء الاصطناعي، وانتشار المرتزقة والشركات العسكرية الخاصة، جميعها عناصر مركزية في النزاعات المعاصرة.
وفي بيئة تتسم بضعف الدولة وفراغات السلطة تسهم هذه الأدوات في إعادة تشكيل موازين القوى، وتُحدث خللًا أخلاقيا وإستراتيجيا يقلل فرص السلام ويضاعف التحديات أمام الحكومات.
ويرى محللون أن هذا التحول لا يعكس فقط تطور أدوات الحرب، بل يكشف عن عمق التداخل بين التكنولوجيا والمصالح الجيوسياسية وانهيار الأطر التقليدية للصراع.
ولم تعد هذه العوامل الثلاثة هامشية أو طارئة، بل أصبحت مكوّنا بنيويا للصراعات الحديثة، لاسيما في البيئات الهشة التي تعاني من ضعف الدولة وفراغ السلطة.
وأصبحت الطائرات دون طيار، والتي كانت في السابق حكرًا على القوى الكبرى، الآن متاحة على نطاق واسع.
وفي أفريقيا تكرّست هذه الظاهرة منذ الحرب الأهلية الليبية، حيث استُخدمت المسيّرات بشكل غير مسبوق لتوجيه ضربات دقيقة ومفاجئة، في خرق واضح لحظر السلاح الذي فرضته الأمم المتحدة.
وقد أثبتت المسيّرات قدرتها على تقويض معادلات القوة التقليدية، إذ تبلغ كلفة الطائرة الانتحارية بضعة آلاف من الدولارات فقط، مقارنةً بملايين تُصرف على الدبابات أو الطائرات المقاتلة، ما يجعل الصراعات أكثر دموية وأقل كلفة للمهاجمين.
وما يفاقم خطورة هذه الأدوات هو استخدامها من قبل كيانات غير حكومية. وفي السودان مثلًا، استُخدمت المسيّرات لقصف ميناء بورتسودان في أوائل 2025، في خضم المعارك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
وبما أن هذه الأخيرة لا تمتلك سلاحًا جويا رسميا، فإن اعتمادها على الطائرات المسيّرة منحها قدرة غير متماثلة لتوجيه ضربات مدمرة.
ويعيد هذا النمط من “الضرب عن بُعد” تشكيل أخلاقيات وتكتيك الحرب، ويوفر وسيلة فعالة للفصائل المسلحة للسيطرة أو الردع. لكن الصراع لا يُخاض فقط في الجو أو على الأرض، بل يمتد إلى الفضاء الرقمي.
وتحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى ساحات حرب موازية، تُستهدف فيها المجتمعات الأفريقية، ولاسيما الشباب، بحملات تضليل منظمة ومدعومة بتقنيات الذكاء الاصطناعي.
وتقول آنا كولارد، الخبيرة في أمن المعلومات، إن “المنصات المزيفة قادرة على خلق اضطرابات مجتمعية حقيقية عند استخدامها لنشر معلومات كاذبة في الحملات السياسية أو النزاعات،” وتضيف أن “الديب فيك أصبح تهديدًا أمنيًا خطيرًا في أفريقيا.”
ولا تُخفى المخاوف من أن هذه التقنيات تُستخدم بالفعل للتأثير في الانتخابات والصراعات الداخلية، خصوصًا في ظل ضعف التعليم الرقمي.
وقد عبرت لينديوي مازيبوكو، النائبة السابقة في جنوب أفريقيا، عن قلقها من “أننا في القارة الأفريقية متأخرون في التعامل مع التقنيات الرقمية، ما يجعلنا أكثر عرضة لحملات التضليل والديب فيك.”
وتلقى هذه التحذيرات صدى عند خبراء القانون أيضًا. ويشير يوهان ستاين، أستاذ علم البيانات في جامعة ستيلينبوش، إلى أنه “كلما تطورت أدوات التزوير الرقمي، ازدادت القدرة على إلحاق الضرر بشكل أُسّي،” مضيفًا أن “الدليل الرقمي لم يعد قابلًا للتحقق بسهولة، ما يخلق أزمة في الإثبات القانوني ويفتح المجال أمام من يملكون التقنية لتشكيل الرأي العام أو تبرير العنف.”
وفي موازاة ذلك تستمر الشركات العسكرية الخاصة والمرتزقة في لعب أدوار محورية في النزاعات، مستغلين الفوضى وهشاشة الدولة.
وتمثل مجموعة فاغنر الروسية أبرز مثال، حيث نشطت من ليبيا إلى مالي مرورا بجمهورية أفريقيا الوسطى.
وقد اتُهمت هذه الجماعة بارتكاب المئات من الانتهاكات بحق المدنيين، لاسيما في مالي، حيث أودى وجودها بحياة أكثر من 900 مدني في عام 2024 فقط، بحسب تقارير استقصائية غربية.
وهذا يوضح كيف يمكن لقوة شبه عسكرية مرتبطة بدولة كبرى أن تشكل سياسة دولة هشة أو تجرّها إلى صراع مستمر.
وعلى النقيض من ذلك، تبرز الشركات الأمنية الصينية التي تعمل في الغالب على حماية الاستثمارات والمواطنين الصينيين في أفريقيا، خصوصًا في بيئات غير مستقرة مثل السودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية.
ومع ضعف القوات المحلية باتت هذه الشركات تمثل طرفًا أمنيا موازيا. ويشير رافائيل أفاني، الخبير القانوني في مجال القانون الرقمي، إلى أن “غياب الشفافية وتعدد الفاعلين غير الرسميين في الأمن يجعلان الدولة رهينة مصالح خارجيّة لا تخضع لأي نوع من الرقابة القانونية أو السياسية.”
ويؤدي التقاء هذه العوامل الثلاثة -التكنولوجيا الجوية الرخيصة والتضليل الرقمي المتقدم والأسلحة المأجورة- إلى إعادة تشكيل غير مسبوقة للصراعات في أفريقيا. فالأدوات التي كانت بالأمس تُعتبر هامشية أصبحت اليوم مركزية في إدارة الحرب، وهي تنتج حالة جديدة من الحروب الموزّعة: حروب بلا جيوش نظامية واضحة، بلا خطوط أمامية محددة، وبلا وضوح في هوية الأطراف الفاعلة.
ويتطلب هذا الواقع الجديد تفكيرًا إستراتيجيًا من قبل الحكومات والمؤسسات الإقليمية. ولا يكفي التعامل مع المرتزقة كخطر أمني تقليدي، بل يجب أن يُنظر إليهم كعنصر من عناصر التأثير الجيوسياسي.
ولا يمكن مكافحة التضليل إلا من خلال بناء قدرات رقمية محلية وتعزيز الوعي الجماهيري، فضلًا عن وضع أطر قانونية وتقنية للكشف عن المحتوى الزائف.
وفي مواجهة الانتشار السريع للطائرات المسيّرة، يصبح من الضروري تطوير تقنيات دفاعية وتعاون استخباري إقليمي للحد من قدراتها التدميرية.
وتؤكد تقارير من المنتدى الاقتصادي العالمي أن “المعركة المقبلة ستكون حول السيطرة على أدوات المعلومات، وليست فقط على الأرض. التحدي الأخلاقي والسياسي يكمن في ضمان ألا تُستخدم هذه الأدوات لإدامة العنف أو كتم الأصوات.”
وتعكس التحولات التي طرأت على طبيعة الصراعات في أفريقيا بوضوح مدى تأثير التداخل بين التكنولوجيا المتقدمة، الفاعلين غير الحكوميين، والمصالح الجيوسياسية على المشهد الأمني والعسكري في القارة.
ولم يعد ظهور الطائرات المسيّرة الرخيصة والفعالة مجرد مسألة تقنية، بل أصبح أداة إستراتيجية تعيد رسم موازين القوى بين الأطراف المتنازعة، خاصة في بيئات تتسم بهشاشة الدولة وفراغ السلطة، حيث يمكن للجهات غير الرسمية تحقيق مكاسب عسكرية واقتصادية دون تحمل أعباء الصراعات التقليدية.
وفي الوقت نفسه تُظهر موجات التضليل الرقمي المدعومة بالذكاء الاصطناعي أن الحرب لم تعد محصورة في الميادين التقليدية، بل امتدت لتشمل الفضاء السيبراني، الذي يُستخدم كأداة لإضعاف النسيج الاجتماعي، وزرع الشكوك، والتأثير على العمليات السياسية والاجتماعية بشكل مباشر. وهذا يشكل تهديدًا مزدوجًا: أمنيًا من جهة، وقيميًا وأخلاقيًا من جهة أخرى، حيث تُهدد المصداقية والثقة بين الشعوب والحكومات، ما يعمّق حالة الضعف والاضطراب.
ومن جهة ثالثة يُبرز الدور المتزايد للشركات العسكرية الخاصة والمرتزقة كيف أن الفوضى الأمنية توفر بيئة خصبة لتوسع هذه الجهات التي تعمل خارج إطار القوانين الوطنية والدولية، ما يعقّد عمليات حفظ السلام ويهدد سيادة الدول ويجعلها رهينة لأجندات خارجية قد لا تتوافق مع مصالح الشعوب الأفريقية. كما أن غياب الشفافية والرقابة على هؤلاء الفاعلين يفتح الباب أمام انتهاكات حقوق الإنسان وتدهور الوضع الإنساني.
وتؤكد المعطيات أن الصراعات في أفريقيا لم تعد مسألة تقليدية يمكن معالجتها بأساليب قديمة، بل هي قضية مركبة تتطلب فهمًا عميقًا للتقنيات الجديدة، وآليات العمل غير الرسمية، والأبعاد الجيوسياسية التي تحركها.
ولذلك لا بد من تبني إستراتيجيات شاملة ترتكز على تعزيز القدرات الوطنية والإقليمية في مجال التكنولوجيا والدفاع السيبراني، بالإضافة إلى تطوير أطر قانونية قوية تُنظم عمل الفاعلين العسكريين غير الرسميين، وتقوي نظم العدالة لحماية المدنيين ومنع الانتهاكات.
وفي نهاية المطاف يبقى التحدي الأكبر هو بناء وعي جماهيري ومجتمعي قادر على مقاومة التضليل الإعلامي، وتعزيز ثقافة السلام والشفافية، وإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة. فمن دون هذه المقومات ستظل أفريقيا مسرحًا لصراعات موزعة تستفيد من نقاط الضعف والهشاشة، وستظل أدوات الحرب الحديثة تهدد استقرارها وأمنها على المدى البعيد.