كتب .. لبنى القدسي
كانت الحرب مستعرة على أشدها، الناس تفر من المدينة مفزوعة لتنجو بحياتها، قرر أبي أن نعود لقريتنا البعيدة عن خطر المواجهات، والقابعة بأحضان الجبال الشاهقة.
وقع الخبر كالصاعقة علينا، وساد الوجوم جو المكان، لكن سرعان ما استدركت أمي وهي تتصنع الابتسامة لنا لنطمئن: “هي أيام قلائل ونعود، هيا عليكم أن تذهبوا وتجهزوا ملابسكم”، أخذ عبدالله يرتب ملابسه، ووضع بينها مجموعة من الكتب والقصص، فهو مغرم بالقراءة، جنى جمعت كل ألعابها، عمر هو الآخر أراد أن يأخذ معه البلايستيشن، والشاشة الصغيرة، والدراجة الهوائية، أما أنا فقد أخرجت من دولابي ملابس كثيرة، فأناقتي هي الأهم.
أقنعتنا أمي أنه لا مكان في سيارة عمي لكل هذه الأشياء، فالسيارة صغيرة، والطريق بعيدة ووعرة، وعلينا فقط أخذ بعض الملابس التي سوف نحتاجها لمدة أسبوع أو أسبوعين بالكثير.
رتبنا حاجاتنا، وذهبنا لمساعدة أمي في تغطية الأثاث لكيلا يتراكم فوقها الغبار، وأخذنا نتسابق ونحن نساعدها في تغطية الكنب والسرائر بالملايات، ونرتب كل شيء في مكانه بإتقان كما تريد أمي، حتى تبقى مرتبة إلى حين عودتنا.
جاء أبي ونحن على هذا الحال، وقف يتأمل بفرح رغم حزنه الذي يحاول أن يخفيه عنا، وهو يقول: “أنا مسرور بكم أنكم تساعدون أمكم، أنا الآن مطمئن عليها”.
جلس أبي في مكانه المعتاد، تجمعنا حوله، عمر وجنى يتسابقان على حضنه، أخذهما الاثنين وضمهما وهو يضحك: “أحبكم معًا”.
كنا نحكي عن السفر، وعن الحرب، وعن قصصنا زمان ونحن نضحك على كثير من مواقفنا.
أمي تنظر للساعة وتطلب منا أن نذهب إلى النوم لأن السفر في الصباح الباكر.
أبي يضم جنى وعمر لحضنه وهو يقول: “والله ولا أشبع منهم ولا أشتي أفارقهم لحظة”.
ترد عليه أمي: “قرر السفر معنا يا محمد، واترك العمل، سلامتك أهم عندنا”.
أبي: “لا، هذا عمل والتزام يا أم علي، وبالكثير أسبوع أسبوعين وترجعوا بإذن الله”.
جنى: “لكن أنت وعدتنا أنك تسافر عندنا بعدما تكمل عملك”.
يحاول أبي أن يقنعها: “الآن انهضوا حان وقت النوم، وأكمل شغلي والحق بكم إن شاء الله”.
توجهنا لغرف نومنا وكل واحد برأسه تخيلات.
أمي لم تنم، وظلت مع أبي يتبادلان الحديث إلى وقت أذان الفجر.
جاء أبي يوقظنا لأجل الصلاة والاستعداد للسفر.
شعور مؤلم تملكنا، لا نريد السفر بدون أبي.
عمر أكثرنا تعلقًا به، رفض أن يسافر إلا إذا جاء معنا.
عمي: “الوقت لا يسمح للتأخير”.
أمي تسحب عمر وهو يتمسك بحضن أبي بقوة.
كان أبي حائرًا بين تركه وبين أخذه معه.
أمي: “هذا الوقت لا ينفع يبقى معك ولا تدلعه أكثر، علينا السفر قبل أي مواجهات أو قصف، يا ليتك تسافر معنا وتترك كل شيء، خذ ابنك واصعد يا محمد”، كانت أمي تترجى أبي وعيونها تمتلئ بالدموع، لا تريد أن يبقى وحده.
عمي يطلب من أمي أن تأخذ عمر، لننطلق قبل طلوع الشمس.
تسحب أمي عمر بالقوة وهو يبكي ويتمسك بأبي بكل قوته، يحاول أبي أن يبعده عنه عنوة وعيونه تدمع، لقد شاهدنا دموع أبي وهو يودعنا، كان يحضننا أكثر من مرة ويقبلنا، وكأنه لن يرانا ثانية، وما إن تمكنت أمي من أخذ عمر، حتى أرادت جنى أن تضع قبلة أخيرة على جبين أبي، وهي تؤشر له بأصابعها: “آخر مرة يا بابا تعال أبوسك”، انحنى أبي لها، فوضعت له قبلة على خديه، ثم بكت: “يا بابا تعال معنا هيا تعال، إذا ما في مكان لك خلاص أستغني عن ألعابي وأنت تعال جنبي”، تمسكت به ورفضت أن تتركه، لحظات صعبة وشعور موجع لا نملك فيها إلا الدموع.
عمي يصيح: “يا محمد هيا أنت وأولادك، يا أخي ليس وقت الدلال”.
حاولت أن آخذ جنى وأبعدها عن أبي بالقوة، كنت أيضًا أريد أن أقبل جبينه، أن أحضنه، ألا أتركه وحده، لكن أنا الكبير، وعليَّ أن ألتزم بالاتزان والهدوء في هذه الأثناء.
أشر أبي بيده مودعًا، ودموعه تتساقط على أجمل خدود في هذا الكون.
لأبي وجه جميل، دائري، أبيض كالبدر المنير، تزينه لحية ذات شعر خفيف بدأت فيها بعض الشعيرات البيضاء في الظهور لتزيده بهاء وجمالًا.
كان أبي إذا شاهد أمي تنظر إلى لحيته وتبتسم، يفهم نظراتها، ويقول وهو يضحك: “هذا هو الوقار والهيبة يا أم علي، وإن حاول البياض أن يغزونا فالقلب يظل في شباب دائم”، وعندما تغار أمي يحضنها وهو يهمس لها: “ولا تزعلي أنت وحدك مالكة هذا القلب يا حبيبتي، ولا شريكة لك فيه”.
ودعنا أبي، وتركنا كل ما نملك، وانطلق عمي بالسيارة كأنه يسابق الرياح، بكاء عمر وجنى لم يتوقف ونحن نحاول تهدئتهما، أمي تبكي بصمت وهي تردد: “استودعتك الذي لا تضيع عنده الودائع يا محمد، استودعتك يا الله زوجي وكل ما نملك”.
أمي تمسح دموعها، ولا تريد أن ينتبه لها أحد، لكني كنت أشاهدها من المرآة، كان قلبي يتمزق، كنت أريد أن أصرخ وجعًا: ما هذا الفراق؟ ما هذه الحرب؟
أبي ضابط في الأمن، لم يتخلَّ يومًا عن عمله، محافظ على صلاته، علمنا الصلاة في أوقاتها والصيام، أبي رجل مستقيم، الكل يحترمه ويقدره، هو حنون جدًا، كل العائلة تستغرب كيف لكل هذه الحنية أن تجتمع برجل أمن وهم المعروفون بقوتهم وقساوتهم، وكأنهم لا يعرفون للإنسانية مكانًا في قلوبهم أو هكذا يتخيل للبعض، لكن أبي وحده كأنه الإنسانية بأبهى صورها.
هكذا عرفت أبي قلبًا طيبًا لم نره يومًا يرفع صوته على أمي، أو على أحد غيرها، أمي تحبه جدًا، إذا سافر أبي في مهمة لمدة أسبوع نسمعها وهي تقول له: “هذه آخر مرة تسافر، لا تبعد عنا حتى يومًا واحدًا، أنا ما أقدر أعيش بدونك”، كان أبي يضمها لحضنه ويضع قبلة على رأسها ويمسك بذقنها وهو يقول: “يا بنت العم لازم تكوني قوية، وتتعودي على بعدي قد أغيب شهور، عملنا ما فيه عاطفة”.
تضحك وتقول: “والله أموت ولا تبعد أكثر من أسبوع، أولادك متعلقين فيك أكثر مني، سوف يجننوني عليك”.
ما إن يقعد أبي حتى ترتمي جنى في حضنه، وعمر يتسلق ظهره، فيحتضنهما بود، وهو يكاد يطير من شدة الفرحة، أما أنا وعبدالله فهو لنا صديق، عندما نخرج معًا يمسك كل واحد منا بيد، ويقول: “كم أشعر بالفخر بكم، صرتم رجال ترفعوا الرأس”، دائمًا كلامه يشحذ فينا الهمم، ويدعونا للجد والاجتهاد، يقول: “نفسي أشوف واحد طبيب وواحد طيار، وترفعوا رأسي عاليًا”.
كنا نعده بتحقيق حلمه، ونتنافس في الدرجات، وعندما يعود للبيت نتسابق كي يشاهد أوراق الامتحانات ودرجاتنا العالية وهو مسرور بذلك.
كان حلمه أن نسافر لندرس في الخارج، ونرجع لنخدم بلدنا، أبي متيم بهذا الوطن، عاشق لترابه، لذا كان دائمًا يغرس فينا قيم المحبة لكل شيء على هذه الأرض.
على طول الطريق إلى قريتنا وحياتنا مع أبي هي التي في بالي، أما جنى وعمر فما فتئا يحكيان: “بابا بابا”، عبدالله همس في أذني: “يا ليت جلسنا مع أبي يا علي”.
سألته: “لماذا تقول هكذا؟”.
قال: “دموع أبي قتلتني يا أخي، أول مرة أرى أبي بذاك الشكل، ليتنا ما تركناه”.
أمي تسال: “أنتم تمام؟ ماذا يقول عبدالله؟”، قلت لها هو فقط يسأل أين نحن الآن.
قالت: “أعرف أنكم زعلانين على أبوكم، أول مرة نسافر نحن وهو يبقى، لكن بإذن الله أيام قليلة ونرجع، قدر كتب علينا يا أولادي، وكل الناس سافروا هكذا مثلنا”.
عمي سمع أمي وهي تحكي، قال: “ولا تحملوا هم، أنا معكم، وأبوكم يومين بالكثير وهو عندنا”.
كانت الطريق طويلة ووعرة، والسفر متعبًا، وصلنا إلى القرية ونحن منهكون، وكأنه كتب لنا عمر جديد، وما إن وصلنا البيت حتى أخذت أمي وعمتي تنظيفه وترتيبه لأجل أن نرتاح.
2
في القرية لا كهرباء، لا إنترنت، لا تلفاز، لم نكن نسمع إلا من الناس: هناك قصف، هناك قتلى، هناك حرب أكلت الأخضر واليابس…
مرت الأسابيع الأولى بصعوبة…
وبدأت المتاعب معنا، وعمي يطلب منا التحمل، كان علينا الذهاب لجلب الماء من بئر بعيدة، أمي وعمتي لأجل التخفيف من استهلاك الغاز خرجتا للبحث عن الحطب ليطبخا عليه، لأن الغاز شبه معدوم، ولا يستطيعون إدخال أسطوانات الغاز إلى القرية بسبب الحصار على المدينة.
بنات عمي مروى ونهى لم يستطعن التأقلم مع جو القرية، ومثلهن عبدالله، تقول مروى: “بعض الأهالي ينظروا لنا بأننا دخلاء عليهم، وأننا جئنا ننافسهم على الخدمات”، وتقول نهى: “هناك نساء عند البئر يحكين أن النازحين شكلوا أزمة بالقرية، والماء في الآبار صار ما يكفي، وهم سبب غلاء الأسعار أيضًا. وكل يوم يسمعونا كلام جارح، وأنه علينا أن نعود من حيث جئنا”.
صرنا نعيش واقعًا جديدًا بكل ما فيه، وعلينا التأقلم معه، فلا حيلة لنا، لم نسمع صوت أبي كما وعدنا، التغطية ضعيفة، إذا اتصل لا يتجاوز اتصاله كلمتين لأمي يطمئن علينا، وينقطع الاتصال، كان يقتلنا الاشتياق له ولصوته، وأمي تطمئننا عليه وتقول: “سوف يسافر عندنا قريب”.
في أحد اتصالات أبي لأمي همست له على استحياء أن الدورة الشهرية لم تأتها بعد السفر، قالت أمي إنه كان سعيدًا بالخبر، وقال: “بإذن الله يكون الجنين بنت مثل جنى الحلوة”، ما إن سمعت جنى هذا الكلام حتى أخذت تتقفز في الغرفة وهي مسرورة بأنه سيكون لها أخت صغيرة تلعب معها.
3
مرت ثلاثة أشهر ولم يتمكن أبي من السفر، وظل في عمله.
لم يخبرنا أنه انتقل لمكان آخر، انقطع اتصاله بنا، كان عمي يحاول التواصل مع زملائه، لا أحد يعلم مكانه، أو أنهم لا يريدون إخباره.
أجواء القرية حزينة، الشهداء في تزايد، والناس في ترقب وخوف من توسع رقعة الحرب.
انشغلنا بالبحث عن مقومات العيش الجديد الذي فرض علينا، المواد الغذائية لا توجد في الأسواق إلا من بعض الأساسيات، والتي أسعارها صارت مضاعفة، كان علينا أن نرضى بالموجود، فربما حالنا أفضل من حال بعض الأسر التي لا تجد ما يسد رمقها، فالوضع كارثي، وحالة الناس تسوء يومًا وراء يوم.
قسمنا الأدوار بيننا نحن وبنات عمي، من يساعد في جلب الماء، ومن يساعد في جلب الحطب مع أمي وعمتي، وعلى هذا تأقلمنا، وتعرفنا على أصدقاء وناس جديدة، وبدأنا نتكيف معهم.
بدأت المدارس تفتح أبوابها لعام دراسي جديد، قرر عمي أن نلتحق بمدرسة القرية، فالحرب مستمرة، والعودة للمدينة قد تستغرق وقتًا، فالجبهات مازالت مشتعلة، ولا أحد يعرف إلى متى.
مدير المدرسة ومجلس الآباء اتخذوا قرارًا بالسماح للطلاب النازحين بمواصلة الدراسة ولو بدون ملفات، إلى أن تنفرج الأمور، ويقدموا وثائقهم لاعتمادها، وكانت هذه من أهم التسهيلات التي قدموها في القرية للأسر النازحة والهاربة من جحيم الحرب.
اتفق عمي مع الشباب على عمل مبادرة، وبمساعدة المغتربين وبعض التجار، من أجل توفير مستلزمات المدرسة للطلاب النازحين وأولاد الشهداء والمعدمين في القرية، فسهل ذلك على الكثير من الطلاب الالتحاق بالمدرسة.
4
ذات يوم عاد عمي إلى البيت، لا يدري بأية كلمات يبدأ حديثه، ما إن جلس وهو صامت، سألته أمي: “ماذا عندك يا إبراهيم؟ صورتك اليوم مش طبيعية، ماذا تخبئ علينا؟ أنا قلبي مقبوض ومحمد لم يتصل بنا، أنا قلقة عليه”.
تسمع أمي أصوات لنساء أمام البيت، تتبادل النظرات مع عمتي، ولحظتها تدخل جنى تجري: “ماما ماما نساء كثير يسألوا عليك”.
تستغرب أمي: “يسألوا عليّ أنا؟”.
قربت زوجة عمي وجلست جنب أمي في ذهول…
عمي كانت عيناه تمتلئان بالدموع وهو يدق رأسه بالجدار، ويقول: “محمد أخي”، ثم ينقطع صوته وهو يخبط على رأسه كأنه فقد عقله.
عبدالله كان خارج البيت، سمع مجموعة من الأهالي يذكرون اسم أبي ويتهامسون، شعر أن هناك أمرًا يخفونه عنه، رجع البيت مسرعًا وهو يسأل: “أبي ماذا به؟ أبي ماله يا عم؟”.
أنا تسمرت في مكاني، أمي نهضت من مكانها، وأمسكت عمي من كتفيه، وكانت تهزره بأقوى قوتها كالمجنونة: “ماذا فيه محمد؟ احكي اتكلم يا إبراهيم، محمد زوجي أيش حصل له؟”.
نطق عمي وهو يتلعثم: “محمد أخي ارتقى إلى ربه شهيدًا”.
صاحت أمي بصوت هز البيت، قفزت أنا باتجاه عمي: “أنت تكذب، أنت تكذب يا عم، أبي ما فيه شيء..”.
أخذ عمي يمسك بي ويضمني لحضنه وهو يقول: “حق الله، حق الله يا علي، ولا نعترض على قضاء الله وقدره”.
عمي كان يحضننا أنا وعبدالله، ولا يدري ماذا يفعل، فهو الآخر متعلق بأبي، فبعد موت جدي وجدتي لم يكن له أحد سواه.
أمي فقدت وعيها ووقعت على الأرض، والنساء تجمعن حولها، أسرعنا أنا وعبدالله ناحيتها نصرخ: “أمي، أمي”.
حاولنا رفعها من الأرض ورش الماء عليها، أفاقت وهي تصرخ: “محمد، محمد، أين محمد؟”.
ارتمينا في حضنها ونحن نبكي، لم نستوعب الصدمة كلنا.
حاولت أن أستجمع قواي، وسألت عمي: “من أخبرك بهذا ربما يكذب”.
قال: “أصحابه تواصلوا معي، وقالوا إن قذيفة أصابته ومجموعة من زملائه، وطلبوا نروح نستلم الجثمان”.
5
قرر عمي أن أسافر معه لنستلم جثمان أبي، على أن يبقى عبدالله مع أمي لينتبه لها، فحالتها صعبة، فهي تفيق من غيبوبة لتدخل بأخرى، لم تستوعب صدمة ما حصل.
أمي أصرت إلا أن ترافقنا ولن تمكث لحظة بالقرية وستذهب بنفسها تتأكد، كانت تبكي وتردد: “أنتم تكذبون عليَّ، محمد بخير، محمد لم يحصل له شيء”.
وصلنا إلى المستشفى، أحد الأطباء همس لعمي أنه يفضل ألا تراه زوجته وأولاده، هذا أفضل لهم.
حاول عمي بكل الطرق ومعه خالي وكثير من الأهل، أن يمنعونا من رؤية أبي، لكن أمي أصرت على رؤيته.
خالي يقول لأمي: “يا أختي احمدي الله وخليك قوية ولا تفجعي أولادك، وارجعوا خلاص، محمد أصيب ببعض التشوهات في جسمه نتيجة الشظايا، ومش تمام تودعوه بتلك الصورة”.
أمي تصرخ وتبكي: “محمد زوجي وحبيبي وتاج رأسي، اتركوني أراه، أودعه، أملأ عيني منه، لا تحرموني منه، حرام عليكم، حرام عليكم”.
أبعدني خالي قليلًا عن أمي، وقال: “لازم أمك وإخوانك ما يروا الجثة، يا ابني قدر الله احمدوه واشكروه، أبوكم شهيد للجنة بإذن الله، دعوا صورته بين عيونكم تلك التي عرفتموه فيها”.
ترجيت خالي أن ألقي نظرة الوداع على أبي وحدي لعلي أقنع أمي.
كنت أسير نحو ثلاجة الموتى بخطى ثقيلة كأني أجر أطنانًا من الحديد، أكاد أن أقع على الأرض، لماذا يرفضون مشاهدتنا لأبي وإلقاء نظرة الوداع عليه؟ كثيرة هي الأفكار التي كانت تراود عقلي، أنا أضعف من على الأرض في هذه اللحظة، هل معقول هو أبي الذي سوف أشاهده، ربما شخص آخر، أبي لم يمت، أبي حي، أبي موجود.
رفع أحد العاملين الغطاء عن الجثمان، وخالي يمسك بي خائفًا من أن أسقط مغشيًا عليَّ، وكانت الصدمة التي لم أتوقعها أبدًا، لا وجه لأبي، سألت: “أين وجه أبي؟ أين ابتسامة أبي؟ هذا ليس أبي، ليس أبي”. حاول خالي تهدئتي، وأنا أصيح: “كذابين، هذا ليس أبي، ليس أبي”.
خالي يقول: “صلِّ على النبي يا علي، هذا قدر الله، أبوك شهيد للجنة بإذن الله، وكلنا للموت”.
تذكرت، لأبي شامة على كتفه، حاولت ألملم شتاتي، لا أدرى كيف تملكتني قوة وأنا في عز ضعفي وانهياري، عندما رفعت الغطاء عن الجثمان الذي أمامي وأنا أفكر من هذا ولمن تكون هذه الجثة، لا ليس أبي، تحسست كتفه الممتلئة بالجروح، لألمح شامة أبي، صرخت وصرخت: “أبي، أبي، أبي”.
وقعت على الأرض منهارًا، أخبط فيها بكلتا يديَّ بكل ما أوتيت من قوة، وأدق رأسي في الجدار من دون أن أشعر: “مستحيل، مستحيل”، رفعوني وأخرجوني وحاولوا تهدئتي.
خالي والذين معه: “الآن كيف لأمك وإخوتك مشاهدته هكذا؟ أقنعهم يرجعوا لنكمل إجراءات الخروج والدفن، الدنيا حامية والقصف على المدينة من كل اتجاه، لنحافظ على بقية الأرواح”.
ذهبت لأمي بعقل شارد أنا الحي الميت، أنا من أنا؟ ماذا أحكي لأمي؟ كيف أكذب عليها؟
“لأجلي يا أمي دعينا نرجع”، رفضت أمي، أخبرتها أن جسد أبي مغطى بالدماء والتراب، لا شيء يبان منه، ولن تعرفه، لذا الأفضل ألا تراه.
سألتني: “وكيف عرفت أنت أنه أبوك؟”، بكيت وارتميت في حضنها وأنا أنطق بلسان ثقيلة: “الشامة التي في كتفه”.
كنت أبكي بلا إدراك، لا أصدق أنني أحكي عن أبي، وأن أبي رحل ولن نراه.
قفز عبدالله خلسة نحو ثلاجة الموتى، تمكن بمساعدة أحدهم هناك من مشاهدة أبي، صرخ: “أين وجه أبي؟ أين وجه أبي؟”.
رفع الغطاء عن كتفه ليتأكد مثلي، لكنه كان كالمجنون جاء يصرخ: “أبي بدون وجه، قسمًا لأنتقم منهم، قسمًا لن يذهب دم أبي هدرًا”.
عمر سمع كلام عبدالله (أبي لا وجه له)، فتسمر في حضن أمي باكيًا: “أبي، أبي، أبي”.
أخذ عمي عمر، وذهبت أنا وخالي مع أمي.
الوداع الأخير لأبي، بكت أمي فوق جثمانه بكاء حارًا، كانت تهمس له: “سبقك وجهك يا محمد يا صاحب أجمل وجه وأجمل ابتسامة، ويا صاحب أصدق لسان، وجهك الوضاء سبقك للجنة يا روحي وعمري، ستظل في عيني صاحب أجمل وجه، في ودائع الله أنت يا دنيتي كلها”.
رفعت الغطاء تتحسس بقية جسده، هناك أجزاء تناثرت منه، وجمعت حوله، تأكدت أنه رحل، رحل شهيدًا، رأته في أجمل حلة، عريس يزف للجنة، خرجت تحمل إيمانًا قويًا بقضاء الله وقدره، وهي تذرف دموعها كالمطر الغزير، وتبحث عنا، أخذتنا لحضنها وهي تضمنا وتقول: “ردوا روحي يا روح أبوكم، ردوا روحي، لملموا شتات فؤادي، لا شيء بعد أبيكم يستحق العيش”، كنا نبكي غير مستوعبين ما حصل، لا ندري أي الكلمات يمكنها مواساة أمي، فالذي استشهد هو دنياها كلها، حبها وحياتها، نبض قلبها ونور عينيها، قلت لها بصوت مليء بالوجع: “لأجلنا يا أمي تستحقين العيش، لأجلنا يا أمي كوني قوية”.
أصروا علينا الرجوع قبل أية مواجهات، عادت أمي إلى القرية وقد استودعت الله أمانته، وبعد أن ودعت أبي الوداع الأخير.
سمعت عمر يحكي بخوف لجنى التي ظلت مع عمتي، ولم تعرف بسفرنا: “بابا ما في معه وجه، بابا راح عند الله، طلع السماء، عبدالله قال بابا ما في معه وجه”.
جنى تبكي، ولا تعرف ماذا يعني هذا الكلام، فقط أن بابا سوف يتأخر ولن يسافر الآن، وسألت ببراة الطفولة: “كيف ما في مع بابا وجه، يعني مثل ما نرسم بالقلم وجه فيه عيون وأنف وفم ونمحيه ونرسم ثاني…”.
6
كل ليلة يصحو عمر مذعورًا، يصرخ: “بابا، بابا، بابا ما في معه وجه..”.
حالته تتدهور، يشعر بالانطواء والخوف، قالت أمي إنها أحيانًا تجد في مكانه أثر تبول.
عبدالله هو الآخر فقد شهيته للأكل، اصفر وجه، كان أغلب الوقت شارد الذهن.
أمي صارت قلقة عليه، وتحاول أن تتماسك أكثر لأجله.
أيام وهرب عبدالله، ذهب للقتال مع شبان القرية، ولم يخبرنا، وجدت منه رسالة كتب فيها أنه سوف ينتقم لأبي، وطلب من أمي أن تسامحه لأنه لم يصارحها بقراره، فهو يعرف أنها كانت سوف تمنعه من الذهاب للجبهة، وطلب مني أن أنتبه لأمي وعمر وجنى، سيأخذ بثأر أبي ويعود.
بكيت وتألمت على قرار أخي ورفيقي وتوأم روحي، ودعوت الله أن يحميه.
ظلت أمي تدعو الله أن يرجع لها سالمًا معافى، وتنتظر عودته في كل لحظة.
كنت حزينًا للحالة التي نحن فيها، لماذا هذه الحرب اللعينة؟ لماذا فرقتنا ودمرتنا؟ لماذا هذا الوجع؟
في قريتنا كل يوم شهيد، الحزن يكسو بيوت القرية، قصفت المنازل في المدن وتشرد الناس، وصار حال الجميع مأساويًا.
انتظرنا عبدالله وانتظرنا اتصاله.
أخيرًا عاد عبدالله، لكنه عاد إلينا محمولًا على الأكتاف، يُزف شهيدًا جديدًا.
عاد عبدالله توأم الروح، لنودعه الوداع الأخير، ليلحق بأبي، ويتركنا للأبد.
“آااااه يا للوجع الذي لا يوصف ولا يحتمل!”.
عمر يحكي لجنى: “عبدالله طلع السماء ومعه وجه، أنا رأيت وجهه كان مبتسمًا، لكنه لن يرجع لأجل يحكي لنا الحكايات التي كان يقرأها من كتبه، قالت أمي إنه ذهب الجنة عند أبي، وأبي الآن سعيد أن عبدالله معه، وكلنا سوف نذهب الجنة، ونشوف أبي وعبدالله”.
لم تتحمل أمي الصدمة التي كانت القاضية.. تعرضت للنزيف، وظلت شهرًا على الفراش مع أوجاعها وآلامها ودموعها وآهاتها وحسراتها.
7
جاء المخاض لأمي، تخبرنا الممرضة الوحيدة في القرية أنها في حالة ولادة مبكرة، حاولنا إسعافها لمركز صحي بعيد عن قريتنا، يخبرنا الطبيب أنه لا يستطيع فعل شيء، تحتاج إلى عملية قيصرية، الجنين وضعه خطير، ولازم أخذها إلى المدينة، حيث تتوفر الأجهزة الطبية.
لا مكان آخر لدينا، كيف لنا أن نصل للمدينة، والطريق مقطوعة، والاشتباكات في كل مكان؟
أصرخ بكل صوتي: “تصرفوا اعملوا أي شيء، أنقذوا أمي، أنقذوا أمي”.
دلونا على مركز صحي في قرية أخرى، تتوفر فيه أجهزة طبية ويمكن أن يعملوا العملية.
كنت أشاهد أمي مصفرة الوجه تتصبب عرقًا، مسكت بيدي ودموعها تنهمر، وكانت تكلمني بصعوبة وبكلمات متقطعة: “أمانتك عمر وجنى يا علي، ما معهم بعد الله إلا أنت، كن قويًا، لا تكسرك أوجاع الحياة، لا تتركهم وحدهم، وعمتك كن لها الابن البار، فهي بمقامي، وعمك هو بمقام أبيك يا علي”.
دنت عمتي من رأسها وقبلتها: “أنت بخير يا هدى، وسوف تقومين بالسلامة، وأولادك هم أولادي، وأنت أختي التي لم تنجبها أمي، روحي فداك”.
مسكت أمي بيدها وهي تقول لها: “أمانتك أولادي يا سميرة”.
أخذت يد أمي، ووضعت قبلاتي عليها ودموعي تتساقط من عيني: “لا تقولي كذا يا أمي، أنت بخير، بخير”.
أمي فقدت القدرة على الكلام، وكانت ممسكة بيدي وهي تتعرق، فجأة شعرت أنها أفلتت ليدي، قالت عمتي: “لا تحركها، اتركها تنام حتى نصل”.
في المركز عمي يصيح: “اعملوا المستحيل، المهم تنقذوا حياتها”.
كنت أدعو الله أن يلطف بأمي، فأنا لا أستطيع العيش بدونها، ولا أتحمل المزيد من الوجع.
كنا في قلق ننتظر على أحر من الجمر.
خرجت عمتي وإحدى الممرضات تمسك بها، جرينا أنا وعمي ناحيتها: “طمنينا”.
سقطت عمتي على الأرض منهارة لا تستطيع أن تتكلم، تمسك على رأسها، وتذرف دموعها، عمي يصرخ: “هدى، كيف حالتها يا سميرة؟”.
تقول الممرضة: “المرأة التي دخلت تولد انقطع نفسها وإحنا نجهز لتوليدها قبل أن نعمل لها العملية، للأسف تأخرتم كثير عليها، لو كان تم إسعافها قبل كنا قدرنا نعمل لها شيء وننقذها، عظم الله أجركم”.
لم أستوعب ما سمعت، كأنها صاعقة، بل بركان نفض روحي.
صرخت عمتي بكل قوتها وهي تلطم خدودها وتبكي: “هدى ماتت يا إبراهيم، هدى أعطتكم عمرها”.
لم أستوعب ما تقوله، جن جنوني، لا، مستحيل، صرخت، وصرخت، كنت أجري نحو الغرفة وأنا أبكي بكل صوتي.
8
ماتت أمي مع جنينها..
انتهت الحياة، رحلت روحي..
من يصدق ما حصل لنا..؟
هذا لا يصدقه عقل، ما هذا القدر؟ لماذا الموت اختارهم؟ ما الذنب الذي اقترفناه؟
ما هذا الوجع!
رحلت أمي، ورحل معها كل شيء.
سؤال عمر وجنى أين أمي يقتلني باليوم ألف مرة، دموعهما تدمرني.
وأسدل الحزن ستائره عليَّ، ليعم ظلام قاتل دمر معه كل خلية في جسدي.
لم أتمكن من تحمل كل هذا الوجع..
انهرت..
انطفئت..
تدمرت..
لزمت الغرفة لأيام لا أريد أن أرى أحدًا.
9
ذات ليلة مقمرة كنت أجلس وحيدًا على سطح البيت، وأنا أردد قوله تعالى: “وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان”. رفعت كفي أدعوه بيقين الاستجابة “اللهم ما كان حزني تمرداً مني على قضائك ،وما كان جزعي يأس من رحمتك ولكن قلبي أهون من ان يتحمل الكثير، فلقي عليه عفوك ورضاك وجبرك ، اللهم بعظمتك خفف عني هذا الفقد وهذا الحزن، واجعل لي من امري مخرجاً جميلا “.
اتكأت على الجدار وأنا أتأمل في ضوء القمر، شردت وأنا أستعيد كل ذكرياتنا، لم نعد إلى المدينة كما وعدتنا أمي، لم يكن أسبوعًا أو أسبوعين كما كانت تقول لنا، لم يأتِ أبي، وتركني عبدالله توأم روحي، أمي قلبي النابض تركتنا هي أيضًا، أتحسس يدها بيدي الآن، يا الله ما هذا الوجع، رحلوا كلهم، ماذا تبقى؟
ما هذه الحرب اللعينة؟ من السبب في كل ما حصل معنا؟ من المستفيد؟
لماذا يتصارعون على السلطة ونحن من ندفع الثمن؟
الأسر كلها مكلومة، أوضاعنا لا تسر صديقًا ولا عدوًا.
حياتنا تغيرت بالمجمل، واقع فرض علينا وما أمرّه!
آه وألف آه يا لوجع الحياة بعد فقدان الأحبة!
أتذكر كلمات أمي وهي توصيني بعمر وجنى، وأمسح دموعي التي لا أملك سواها.
سألت نفسي من يكون لهم إذا بقيت على هذا الحال؟
فكرت طويلًا بوصية أمي، وبكيت كثيرًا.
شعرت بوجود عمتي قربي، جلست معي ومسحت دموعي، وعدتني أنها وعمي لن يتخليا عنا ما كان بهما روح، وأنها أم لثلاث بنات، وأنا ابنها الكبير الذي حرمت منه، وعمر وجنى ولداها الصغيران، طلبت مني أن أكون قويًا لأجلهم جميعًا، وأن أحاول الخروج، والذهاب إلى المدرسة، وأن أتأقلم مع الحياة.
ارتميت في حضنها وأنا أتذكر كلام أمي أنها في مقامها، بكيت وجع الحياة، بكيت قدري الأليم، بكيت حتى شعرت بالراحة وكأنني بحضن أمي، وعدتها أن أتغير بعون الله، وبمساندتهم لي.
كانت الأيام ثقيلة بكل أوجاعها، لكن حاولت أن أبدأ من جديد مع الحياة.
علم عمي أن مالك البيت في المدينة جمع أثاث شقتنا وكل الأغراض، وعرضها للبيع، وأخذ قيمتها من الإيجارات المتراكمة على أبي، وأخذ شقته.
حزنت كثيرًا لما آل إليه حالنا، لكني فكرت هل ينفع الحزن والحسرة على الجماد، فقد رحل من هم أغلى من ذلك، ومهما كان حزني على أغراضنا التي هي ذكرى من رحلوا، لكنه لن يكون كحزني على الأغلى منها، فكل شيء يعوض إلا أحبتي.
تتساءل جنى وعمر عن ألعابهما، وعن أمي وأبي، وعن عبدالله، ومتى يعودون؟
تناثرت كل الأحلام من حولي، لأبقى جسدًا بلا روح، بلا شغف للحياة، بلا أمل.
كل صباح آخذ عمر وجنى للمدرسة، عمر يشعر بالخوف، دائمًا يعيش حالة من الانطواء، لا يدافع عن نفسه، جنى لا يستطيع أحد أن يقرب منها، صارت أكثر شراسة.
عندما أشاهدهما مع أطفال القرية يلعبون بالتراب والطين والأدوات الخردة، أتذكر أبي وكيف كان يشتري لهما كل الألعاب، وكيف كانا في نعيم، وأتأمل لتصاريف الأقدار كيف تحدد مسار البشر وبغمضة عين.
أشعر بالأسى، لا شيء يعوضنا تلك الحياة التي فقدناها.
آه كم أنا مكسور وضعيف ولا أحتمل المزيد من الوجع.
لولا عمر وجنى لشردت في وجه هذه الأرض، لا شيء يستحق البقاء.
هما ريحة أبي وأمي وأخي، هما الوجه الآخر من حياتي.
لم أستطع العودة للمدرسة، فأنا لا أستطيع ان أستوعب أية معلومات، ولا أريد أن أحمل عمي المزيد من التكاليف.
عملت حمالًا في محل بسوق قريتنا كي أساعد عمي في بعض مصاريف البيت، فهو الآخر يعمل في البناء وبالأجر اليومي، لأنه لم يستطع العودة لعمله، فقد طال أمد الحرب، وفقد الكثيرون أعمالهم مثله.
ذات يوم عدت وثيابي متسخة بالطحين والغبار، ضحكت هالة وهي تعلق: “وأين أناقة علي الذي كان يرى نفسه دنجوان زمانه؟”، صاحت عليها عمتي ونهرتها، وهي تقول: “هذا العبد الذي يحبه الله، الذي يشقى ويأكل من عرق جبينه”، وأخذت ترفع من معنوياتي، وتقول إن المستقبل لي، وسوف أسافر، وأدرس بالخارج، وأرجع طبيبًا من مثلي.
قربت نهى مني وهي تقول: “ولا تهم يا علي، أنا سوف أغسل ثيابك كل يوم، وتبقى علي الأنيق دائمًا”.
نهى أقرب بنات عمي لقلبي، رفعت رأسي وأنا أضحك، وفي قلبي وجع لا يوصف ولا يحتمل، شكرتها وقلت لها: “خلاص ودعنا الأناقة والدلع، هذه الحرب دمرت كل شيء، بعد فقدان الأحبة لا شيء يستحق..”.
بعد أيام تواصلوا مع عمي من أجل مستحقات أبي، طلبت عمتي من عمي أول شيء يعمله يشتري لي دراجة نارية حتى أشتغل عليها، فهي لا تستطيع أن تتحمل أكثر وهي تراني أتعب وأشتغل حمالًا، كما أنها تريد أن أعود للمدرسة وأكمل دراستي وأحقق حلم أبي.
كان لعمي وعمتي الفضل بعد الله في أن يعوضنا عن ذاك الفقد الموجع، بالرغم من أن فقدان الأحبة يظل ثقبًا في القلب لا يندمل، ولا شيء يعوض مكانهم.
قربت امتحانات الثانوية وها أنا أستعد لها وكلي أمل أن أحصل على المعدل الذي كان يحلم به أبي..
“عهدًا سوف أحقق لك ما تريد يا أبي، سوف تفخر بي، نم قرير العين يا مهجة الفؤاد”.
10
الليل كان صديقي الوحيد الذي أستطيع أمامه أن أبكي وأمارس طقوس وجعي دون أن يراني أحد.
فكلما أضع رأسي على الوسادة، أتذكر كل أوجاعي، وأتذكر حياتنا التي كانت حبًا واستقرارًا، وما نحن عليه الآن.
ذات ليلة ثقيلة بحزنها تذكرت أحبتي، لأشرد بعيدًا، وأنا أتذكر بيتنا وحارتنا وأغراضنا، وتألمت لفقدان كل شيء، غلبني النوم وأنا أشعر بالقهر والوجع.
عدنا إلى المدينة، ذهبت لحارتنا، أطلت النظر لشقتنا، لا شيء يعود لنا، لا شيء يعنينا.
كثير وجوه بالحارة لا أعرفها، وكثير من الذين كانوا يسكنون فيها لا وجود لهم.
سألت بقلب محروق وبحسرة عمن اشترى أغراضنا، فلي معها ذكريات كثيرة.
دلوني على الأسرة التي اشترتها. فذهبت إليهم على خجل، قلت: “هل يمكن أن أشتري منكم بعض الأشياء؟”.
قابلتني الأم بلطافة وبشاشة لم أتوقعها، قالت: “لك ما تريد يا ولدي، ولكن لي طلب واحد”، قلت: “اطلبي يا خالة”.
قالت: “احكِ لي قصتكم يا ابني، أين كنتم كل هذه المدة؟ وكيف تركتم كل ما تملكون، ولم تسألوا عنه حتى الآن؟ أنا عندما شاهدت ترتيب أغراضكم، وصوركم ووثائقكم، وشهادات المدرسة، وشهادات التكريم، ومتعلقات الأب وأوسمة تكريمه ومذكرات حياته، عرفت أنكم أسرة مميزة، لكن كيف تركتم كل ذلك ولا بحثتم عنه؟”.
حينها تذكرت كلام عمي إبراهيم عندما قال لأمي إن العم يحيى حكى له أن أبي عندما مر شهرين من سفرنا إلى القرية، وقبل أن ينقل للمهمة الجديدة، حاول ترتيب كل حاجاتنا في الحقائب والكراتين، وحاول أن يحكم ربطها، خوفًا من أن يدخل أحد الشقة ويعبث بالأشياء، حيث كان هو من يقوم بمساعدته عندما كانوا يرجعون للشقة ويأخذون راحتهم فيها.
أخذت أحكي قصتنا وأنا أتخيل كل التفاصيل، وأتخيل أبي وأمي وعبدالله وشقاوة عمر وجنى، بكيت ولم أتمالك نفسي، كل من كان معي بكى وتألم وهو يسمعني، حكيت عن رحيل أحبتي وما صار إليه حالنا.
قالت الخالة: “أنا بمقام أمك وأنت لي مثل ابني سامي، هذه كل حاجاتكم في الحفظ والصون، وعهد الله إنني قلت لن نلمس شيئًا حتى يظهر صاحبها، والآن أي وقت تعال خذ كل شيء وبدون مقابل يا ابني، فالغد لا ندري ماذا يقع بنا، الدنيا هذه غدارة، وبلادنا في صراعات وحروب مستمرة”.
استأجرت شقة بجوار شقة عمي، وذهبت، وأخذت كل أغراضنا، كنت أسهر الليالي مع عمر وجنى، ونحن نتأمل في أوراقنا وصورنا وأغراضنا، وأغوص مع ذكرياتنا.
تحلق أرواح أبي وأمي وعبدالله معنا.
التحق عمر وجنى بالمدرسة، مرت الشهور الأولى، وبدأ التواصل من إدارة المدرسة بضرورة حضور ولي أمرهم.
ذهبت أنا، أخذت المشرفة تحكي باستياء عن المستوى الضعيف لعمر في درجاته، ومن انطوائه الشديد، وأنه يرفض الحديث معهم.
وأيضًا تشتكي من جنى أنها لا تتقبل أحدًا من زميلاتها، وشرسة في التعامل، وإذا زميلة أخذت شيئًا من أدواتها لا تشتكي لمعلمتها، بل تقوم بضربها بعنف.
قالت بلهجة حادة: “أين أبوك أو أمك ما يزورونا أو يعلموهم في البيت كيف يتعاملوا مع الطلاب والمعلمات، جنى عكس عمر ما في بينهم توازن أبدًا، وإذا جاء أحد يكلمهم أو ينصحهم على طول يبكوا ولا يرضوا يتكلموا”.
أخذت أحكي لهم المأساة التي يعيشان فيها، وفقدان أبي وأمي، ومعاناتنا في القرية.
وطلبت منهم أن يكون هناك تعامل برفق معهما، وأن نساعد بعضًا في أن يستعيدا توازنهما النفسي، وأنا لن أقصر معهما في شيء.
تحول المكتب إلى بكاء، واعتذروا لي لأنهم لا يعرفون قصتهم، ووعدوني أن يكون لعمر وجنى تعامل خاص، وأن إدارة المدرسة سوف تعفيهما من الرسوم، وأن تشملهما برعايتها الخاصة من اللحظة.
جاء الليل، وجلست معهما نحكي عن المدرسة، وهما سعيدان أن مديرة المدرسة استدعتهما للإدارة وكرمتهما وشجعتهما.
كنت سعيدًا بتغير نفسيتهما، ونمت وأنا أحضنهما أمامي، فهما كل دنياي، لأول مرة أشعر أني مرتاح وأنا أضع رأسي على الوسادة، نمت بعمق، كنت أشعر بالبرد يتسرب من بين مفاصلي، لكني لا أستطيع أن أسحب البطانية لأتغطى بها، فالنوم يغلبني، عندها لمحت أبي وهو يغطيني ويقبل رأسي ويقول: “ادفأ كويس يا علي”، وذهب ليغطي عبدالله أيضًا، سمعت أمي تهمس له: “أولادنا مازالوا أطفالًا يا محمد، سنظل كل ليلة نتفقدهم”.
شعرت بالدفء، ونمت على همس أبي وأمي..
صحوت على صوتها: علي، علي..
كنت أقول لها: “صحي عبدالله أولًا يا أمي، برد، برد، لا أريد أن أخرج من تحت البطانية”.
شعرت بيدها على رأسي وهي تقول: “بسم الله عليك، بإذن الله خير يا علي، اصحى حبيبي، أنا عمتك، في واحد خارج ينادي لك معه مشوار. وبعدين الجو بارد وأنت منزوي على فراشك، والبطانية مرمية بعيدًا عنك، ما تشعر بالبرد وتقوم تدفأ، كل يوم أشوفك على نفس الحالة”.
نهضت مفزوعًا أتأمل في وجه أمي، في وجه أبي، أبحث عن عبدالله بجواري، أتأمل في الغرفة، في الصور والمذكرات، في أغراضنا، في جنى وعمر وهما بحضني.
مددت يدي لأسحب البطانية وأنا أتغطى بها كمجنون تكور داخل بطانيته على ناصية الشارع.
كنت أفرك عيني، وأتأمل في كل أرجاء الغرفة، لا شيء هنا، لا شيء، غطيت وجهي بكلتا يديَّ، وبكيت بأعلى صوتي: “لا، لا، لا”.
عمتي تحاول أن تهدئني: “خير يا علي، خير يا حبيبي، صلِّ على النبي”.
وجدت نفسي لا أملك إلا الدموع، وأتساءل: هل كان حلمًا ذاك؟ وهل كان حلمًا آخر في حلم؟
يا رب لا أقوى على التحمل، تعبت يا الله، تعبت، لماذا رحلوا؟ لماذا أخذتهم يا الله؟
يا الله ما أمر هذه الأيام وما أثقلها؟! يقتلني الحنين لهم، يقتلني وجع الفقد الأبدي، يقتلني الاحتياج لهم.
انكسر قلبي بعدهم يا رب، رحل جزء مني معهم.
آاااه غصة رحيلهم توجعني.
وحدهم كانوا الحب الذي يلازم قلبي، كانوا الأمان لي، وكانوا السلام.
آاااه يا وجه أبي المنير، ماذا تركت وراءك..؟ أنا مجرد حطام. ما ذنبي لأعيش هذا الحزن وهذا الفقد وهذا الوجع؟
نعم أنا مازلت ذاك الطفل يا أمي، ذاك الطفل الذي يحتاج لحنانكم وتفقدكم كل ليلة.
آاااه يا أمي أنا الطفل الذي أتعبه الفقد بعدكم.
17 عامًا يا أمي، صرت بها رجلًا بحكم قانون الحياة، كم عليَّ أن أتحمل من مرارة بعدكم.
صوت عمتي يطمئنني: “صرت الرجل يا علي الذي يقف مع إخوانه، ويتفقدهم، ويعوضهم الحنان. أنت الآن الرجل حقهم يا ولدي. دع وجه أبيك قمرًا وشمسًا ينيران لك الدرب، أنت الآن الأخ الذي يجب أن يقاوم ليكمل المشوار، دع أحبتك ينامون بسلام في الجنة”.
عاهدت نفسي أن أكمل المشوار، ولن أدع عمر وجنى يشعران بالفقد ولا باليتم، وسأعمل ما أستطيع لأعيد لهما التوازن النفسي، ولن أدع أحدًا يشتكي منهما، أو أنهما يحتاجان شيئًا..
ولتكن المدينة وجهتي المقبلة، ولا بد للحلم أن يتحقق.















