كريتر نت – متابعات
منذ عودته إلى البيت الأبيض في يناير 2025، لم يكن دونالد ترامب بحاجة إلى الصحافة التقليدية أو حتى منصات التواصل الاجتماعي الكبرى ليُصدر مواقفه أو يؤثر على الرأي العام. فقد أصبحت منصة “تروث سوشال”، التي أطلقها عام 2022 بعد حظره المؤقت من تويتر وفيسبوك، مرآة يومية لتحركاته السياسية ونبضه الخطابي، ونافذته المباشرة للتأثير في الداخل الأميركي وخارجه.
ويكشف تحليل أكثر من 2800 منشور كتبت على حسابه خلال الأشهر الستة الأولى من ولايته الثانية ملامح واضحة للمنهج الاتصالي الذي يعتمده ترامب.
وينشر ترامب متوسط 16 منشورا يوميا، أكثر من نصفها يحمل علامات تعجب، والكثير منها مكتوب بالخط العريض، ليس فقط تعبيرا عن الانفعال، بل جزء من إستراتيجية متعمدة لجذب الانتباه وإدارة الإيقاع السياسي والإعلامي من خارج دوائر المؤسسات الرسمية.
وعلى سبيل المثال، لم يتردد في مخاطبة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مباشرة في لحظة توتر دولي، أو استخدام المنصة للترويج لعملته المشفرة الخاصة، مما يؤكد الطبيعة المتداخلة بين الخطاب السياسي والمصالح الشخصية في نموذج ترامب.
ومن خلال “تروث سوشال”، يفرض ترامب أجندته الخاصة، لا كزعيم سياسي فقط، بل كفاعل إعلامي يتحكم بمسرح الرسائل، ومحرّك لأسواق المال، ومُنشئ للأزمات أيضا.
ولم يكن غريبا أن تؤدي تغريدة له تدعو إلى “الشراء الآن” في لحظة اضطراب اقتصادي إلى قفزة فورية في بورصة وول ستريت.
ومع غياب أي ضوابط تحريرية أو رقابية على المنصة، بات بإمكانه أن يوجه رسائل لها وزن سياسي واقتصادي فعّال، بينما تكتفي الصحافة التقليدية ومواقع التواصل الكبرى بدور الناقل الثانوي.
وتكمن الأهمية الإستراتيجية للمنصة في كونها لم تعد مجرد منصة تعكس مواقف ترامب، بل أداة نفوذ بحد ذاتها، تُستخدم لإعادة تشكيل العلاقة بين السلطة والإعلام.
ويضع ترامب عبر هذه المنصة الإعلام في موقع الدفاع، ويُجبر خصومه السياسيين على التعاطي مع كل ما يقوله، حتى لو لم يكن جزءا من برنامج رسمي أو بيان رئاسي.
ويكرس هذا التفاعل تحوّل الرئيس إلى مؤثر رقمي متفرّد، خارج أي آلية تقليدية للضبط المؤسسي، وهو ما يمنحه قدرة استثنائية على بناء واقع بديل، يُروَّج له بكثافة داخل دوائر أنصاره، ويتحول إلى سردية سياسية مهيمنة.
والأخطر في هذه المعادلة أن “تروث سوشال” باتت أيضا مختبرا لصياغة سياسات علنية، خصوصا في الملفات ذات الطابع الحاد مثل الرسوم الجمركية، والسياسة الخارجية، والملفات القضائية. فترامب لا يستخدم المنصة فقط للرد أو الترويج، بل أيضا لتجريب الرسائل، وقياس ردود الفعل، وربما التراجع عنها لاحقا دون كلفة، أو تبنيها رسميا إذا لاقت صدى.
وبالتالي، فإن ما يحدث على “تروث” ليس هامشا رقميا، بل لبّ السياسة الترامبية الجديدة: رئاسة تُدار بأسلوب حملات دائمة، داخل منصات مملوكة، وبخطاب عاطفي مبالغ فيه، يتعمّد تفجير الجدل لا احتواءه.
وإذا كانت الولاية الأولى لترامب قد شهدت اشتباكا مستمرا مع الإعلام، فإن ولايته الثانية تشهد ولادة إعلام مواز بالكامل، ينطلق من ترامب ويعود إليه، ويضع الرأي العام في مواجهة مستمرة مع سيل متجدد من الرسائل الشعبوية، دون حواجز أو فلاتر.
وهكذا، لم تعد “تروث سوشال” مجرد ملحق رقمي للرئاسة الأميركية، بل أصبحت جوهرها السياسي والإعلامي، وواحدة من أبرز أدوات الهيمنة في عهد يُعاد فيه تعريف العلاقة بين السلطة والمعلومة، وبين الخطاب السياسي ووسائل التأثير.
وإذا كان الكثيرون يرون أن هذه المنصة تعكس تقلبات ترامب المزاجية، فإنها في العمق تعبّر عن تحول منهجي في كيفية ممارسة السلطة في عصر ما بعد الحقيقة.
ومنذ عهد فرانكلين روزفلت الذي استخدم “أحاديث المدفأة” عبر الراديو، مرورا بجون كينيدي الذي وظّف التلفزيون ببراعة، ووصولا إلى أوباما الذي استخدم تويتر، لطالما حاول الرؤساء الأميركيون استخدام الوسائط المتاحة لتجاوز القنوات التقليدية والتحدث مباشرة إلى الجمهور.
لكن ترامب، في المقابل، قطع خطوة إضافية بامتلاك منصة خاصة، مما يضع سابقة غير معهودة في العلاقة بين السلطة التنفيذية والإعلام الجماهيري.
وتزايد الاستقطاب الإعلامي والسياسي في الولايات المتحدة، خاصة بعد انتخابات 2020، خلق بيئة خصبة لانتشار الأخبار المضللة والانغلاق المعلوماتي.
وبخلاف التركيز على خصومه الديمقراطيين، يستخدم ترامب “تروث سوشال” لإعادة تشكيل تحالفاته داخل الحزب الجمهوري أيضا، حيث يختبر ولاء الشخصيات، ويهاجم المعارضين الداخليين، ويروّج للمرشحين الموالين له.
ويجعل هذا الاستخدام من المنصة أداة حزبية لإعادة تنظيم موازين القوى داخل اليمين الأميركي، وهو ما قد يُحدث تغيرا بنيويا طويل الأمد في الحزب الجمهوري نفسه.
وألهمت تجربة ترامب مع “تروث سوشال” قادة سياسيين آخرين عبر العالم يسعون لتقليد هذا النموذج بإنشاء منصات خاصة أو تفضيل وسائل غير تقليدية للتواصل. من البرازيل إلى المجر، باتت هذه التجربة مثالا لقادة شعبويين يريدون تجاوز الإعلام التقليدي والتحكم في النبرة السياسية العامة.