أحمد حافظ
أكدت حالة الشد والجذب بين صندوق النقد الدولي والقاهرة بشأن بطء تنفيذ برنامج الخصخصة وتخارج الدولة من قطاعات حيوية لصالح مستثمرين، رفض السلطة في مصر المجازفة السياسية بترضية الصندوق على حساب الشارع، وإن تسبب ذلك في تأجيل المراجعتين الخامسة والسادسة المرتبطتين بقرض متفق عليه.
وأظهر تقرير صدر أخيرا عن صندوق النقد حجم الامتعاض من عدم التزام الحكومة المصرية بتسريع وتيرة الخصخصة، وقال إن القاهرة أعلنت عن خطط لبيع حصص في 35 شركة لم تنفذ منها سوى عمليات جزئية في 9 شركات فقط، وأقرت مصر 8 إجراءات من أصل 17 إجراءً هيكليا تم الاتفاق عليها من قبل.
وأوحت تصريحات رئيس الحكومة المصري مصطفى مدبولي، الخميس، بوجود فجوة بين القاهرة والصندوق مرتبطة بطريقة إدارة برنامج الخصخصة، ومن له الكلمة العليا، وقال إن الصندوق لا يستطيع التدخل في ما تطرحه مصر من أصول وقطاعات وشركات أمام القطاع الخاص، وبرنامج الطروحات قرار مصري خالص.
جاءت تصريحات مدبولي بالتوازي مع انتقادات لصندوق النقد وتصاعد الجدل الشعبي حول برنامج الخصخصة، لاسيما ما يتعلق بالمطارات، حيث قال رئيس الحكومة إن بلاده لن تبيع كل شيء وبرنامج الطروحات ليس كله خصخصة، ولن يكون، وليس كل ما يُطرح بيعا، وما تفعله الدولة، وستواصله، أن تتشارك مع القطاع الخاص.
وترى دوائر سياسية أن الحكومة ستواجه منغصات مع صندوق النقد، إذا تراخت عن الالتزام ببرنامج الخصخصة، وهي مضطرة للتعاطي بتريث مع الملف كي لا تضحي بالالتفاف الشعبي حول السلطة جراء تحديات خارجية صعبة، وتدرك أن التفويت السريع في قطاعات حيوية وخدمية، كالمطارات والسكك الحديدية، لن يمر بسهولة.
واعتاد صندوق النقد الشكوى من بطء التزام القاهرة بتعهداتها المرتبطة بشروط صرف شرائح القروض، بخفض سعر الفائدة والتدخل في تحديد سعر الصرف والإصرار على بقاء الدولة في قطاعات حيوية، خاصة المؤسسة العسكرية التي لها اقتصاد ضخم، أثار شكوك الصندوق من التزامات القاهرة بتسريع الخصخصة.
وما زاد امتعاض الصندوق أن القاهرة تمسكت بتخصيص مبالغ مالية ضخمة في موازنة العام الجديد التي بدأت يوليو الجاري، لملف الدعم الذي طالب الصندوق من الحكومة أن تتقشف فيه إلى الحد الأدنى، لكنها فعلت العكس، في قطاع الدعم البترولي على الغاز والبنزين والسولار، أو دعم الخبز والسلع التموينية الموجهة إلى البسطاء.
ويرتبط الرفض الحكومي في مصر للانصياع المطلق لصندوق النقد في ما يتعلق بالخصخصة المفتوحة ورفع الدعم، بدوافع سياسية، فهي ترفض أن تظهر أمام الشارع بتخليها عن مسؤوليتها الاجتماعية، بينما لا تخلو خطابات الرئيس عبدالفتاح السيسي من حرص على تكريس الأمان الاجتماعي وحماية البسطاء.
وقد تواجه القاهرة تحديات بالغة مع بعض المؤسسات الدولية، إذا تمسكت ببطء برنامج الخصخصة والتخارج من القطاعات الحيوية وخفض الدعم، لكنها تكسب الشارع في ظروف إقليمية معقدة، وعليها أن توازن بين التزاماتها الدولية وبين علاقتها بالرأي العام الداخلي، لأن الاستمرار على النهج الحالي يزيد الأزمة الاقتصادية ضراوة.
وقالت الأكاديمية والخبيرة الاقتصادية عالية المهدي لـ”العرب” إن الحكومة مطالبة بتسريع خطوات التخارج من بعض القطاعات التي تشكل عبئا على جذب الاستثمارات، وصندوق النقد يعنيه أن تتخارج الدولة من القطاع العام وشركات الجيش، وهي عملية تسير ببطء ما تسبب في عدم التوافق بين الصندوق والحكومة.
وأضافت أن وجود حسابات أخرى لن تُقنع صندوق النقد حتى لو كانت هناك إرادة في التنفيذ، وتسير ببطء، ومهم أن تُدرك الحكومة أن تسريع التخارج يخفف العبء عن موازنة الدولة، ويجعل الحكومة قادرة على الإنفاق بمرونة على قطاعات حيوية تمس حياة الناس، بالتالي يجب أن يكون التخارج قائما على هذا الأساس.
وتتخوّف الحكومة من الظرف السياسي الذي يفرض عليها اتخاذ ما يلزم لتحصين الجبهة الداخلية ومنع تآكل شعبية النظام وإن اختلفت مع صندوق النقد، لأن شراء الاستقرار لن يتحقق والشارع يرى أنه يُعاني الغلاء وسوء المعيشة بسبب وجود شروط دولية في الخصخصة وخفض الدعم، وخفض قيمة الجنيه ورفع سعر خدمات أساسية.
ولدى المصريين حساسية مفرطة تجاه كل ما يرتبط بالخصخصة، وهي إشكالية أخفقت الحكومة في التعامل معها أمام نفخ بعض التيارات المعادية في الملف والمتاجرة به سياسيا، بشكل جعل السلطة تتعاطى مع برنامج الطروحات ببطء شديد، ومهما نفت الحكومة علاقة التخارج بالخصخصة وأنها طرح للإدارة والتشغيل، لن يتم تصديقها.
فهناك إصرار من عدد كبير من المواطنين على أن كل ما يرتبط بالقطاع الخاص هو في النهاية بيع لأصول الدولة ومقدمة لغلاء مستفحل، ما يجعل الحكومة في نظر الشارع كأنها “باعت” الناس للمستثمرين، بينما تعوّل السلطة على الفقراء ومتوسطي الدخل الذين يشكلون نحو 60 في المئة من السكان على مواجهة الصعوبات.
ويدافع مسؤولون بأن بطء برنامج الطروحات وما يترتب عنه من تعطيل الخصخصة مرتبط بالتراجع الكبير للعملة المصرية، لأن الكثير من عمليات تحديد قيمة الصفقات تتم بالجنيه، بينما يدفع المستثمرون الأجانب المبالغ بالدولار الأميركي (يساوي 50 جنيها) وهنا تظهر قيمة الصفقة هزيلة ما يثير تحفظات شعبية وسياسية ضد الحكومة.
ولا تروق تلك المبررات للصندوق، لأنه يتعامل مع استثمارات الحكومة في القطاعات المختلفة على أنها تعرقل خطوات خفض الديون والأعباء المترتبة عليها، وشل أيّ قرار مرتبط بالتخارج، ما يضع الحكومة بين خيارين كلاهما مر، ترضية الشارع وإقناعه بأن التخارج ليس تدخلا في القرار المصري، والمرونة في إظهار الجدية مع الصندوق لعدم خسارة ثقة المؤسسة الدولية.
وحيال هذه التعقيدات أصبحت السلطات المصرية مدفوعة لتسريع إجراءات تنفيذ توصيات الصندوق، لأن التأخير لا يخدم الاقتصاد المحلي وصورته الدولية، وهناك مستثمرون ينتظرون نتائج الشد والجذب لتقييم الموقف ما يجعل الحكومة مضطرة إلى تبني إجراءات قد تثير امتعاض الشارع حاليا، لكنها منقذة للاقتصاد لاحقا.
المصدر : العرب