كريتر نت – متابعات
فجّر النفي العاجل الصادر عن الإطار التنسيقي بشأن تلقيه رسالة من المرجعية الدينية العليا في النجف جدلاً واسعاً داخل المشهد السياسي العراقي، في وقت تتصاعد فيه حالة القلق داخل القوى الشيعية الموالية لطهران، على خلفية تراجع النفوذ الإيراني في العراق والمنطقة، وتزامن ذلك مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي المرتقب.
البيان الذي أصدره الأمين العام للإطار، عباس العامري، يوم الجمعة، ونفى فيه بشكل قاطع صحة الأنباء المتداولة بشأن تلقي قادة الإطار رسالة من المرجع الأعلى السيد علي السيستاني، لم يهدئ من التساؤلات، بل سلط الضوء على حجم المخاوف المتصاعدة داخل هذه القوى، التي باتت تشعر بضغط غير مسبوق سياسيًا وشعبيًا، وسط تغيرات جيوسياسية عميقة في الإقليم.
الضجة بدأت عندما تناقلت بعض وسائل الإعلام ومواقع التواصل تقارير غير رسمية تحدثت عن رسالة من المرجعية حملت لهجة تحذيرية تجاه قادة الإطار، واعتبرت أن التصعيد المتواصل ضد إيران، خاصة في ظل الحرب الأخيرة مع إسرائيل، قد يُفضي إلى “حرب وجودية” تهدد المكوّن الشيعي، مطالبةً بتوحيد الصفوف ومكافحة الفساد، والابتعاد عن المحاصصة في توزيع المناصب.
السرعة التي صدر بها نفي الإطار أعطت إشارات إلى أن الخبر – وإن كان غير دقيق – لامس توتّرًا داخليًا حقيقيًا، إذ إن أي تلميح إلى موقف من السيستاني لطالما شكّل إحراجًا بالغًا للجهات التي تستمد شرعيتها السياسية من مرجعية دينية، تحافظ منذ سنوات على مسافة واضحة من الطبقة الحاكمة.
فالمرجع الأعلى لم يصدر عنه، منذ اندلاع انتفاضة تشرين 2019، أي موقف مباشر داعم لأي من الكتل السياسية.
بل على العكس، فقد دعا إلى انتخابات مبكرة وتغييرات جوهرية في المنظومة السياسية، متبنيًا خطابًا يُعد أقرب إلى مطالب الشارع منه إلى سرديات القوى التقليدية.
النفي السريع يعكس – بحسب مراقبين – إدراك الإطار التنسيقي لحجم الضغوط التي يواجهها في المرحلة الحالية، في ظل تصاعد النقد الشعبي لأدائه، والانقسامات الداخلية بين مكوّناته، إضافة إلى ما يُوصف بـ”التحوّل الإقليمي المتسارع” الذي يقلّص تدريجياً من مساحة التأثير الإيراني في العراق.
وتشير مصادر سياسية إلى أن الحرب الأخيرة بين إسرائيل وإيران، التي شكّلت لحظة مفصلية في الصراع الإقليمي، أسهمت في زعزعة ثقة حلفاء طهران، ودفعهم إلى إعادة حساباتهم، خاصة مع تزايد التحركات العربية والغربية التي تسعى لتقليص النفوذ الإيراني وتعزيز الانفتاح السياسي والاقتصادي للعراق على محيطه العربي.
وتخشى القوى الشيعية المقرّبة من إيران اليوم فقدان وزنها في الخارطة السياسية المقبلة.
فمع اقتراب الانتخابات، تتزايد المؤشرات على رغبة شعبية في التغيير، خصوصًا مع تصاعد الدعوات لمقاطعة الأحزاب التقليدية، وظهور قوى مدنية وشبابية جديدة تسعى لتشكيل بدائل سياسية بعيدًا عن هيمنة الأحزاب المسلحة والطائفية.
ويبدو أن الإطار التنسيقي يشعر أنه أمام اختبار صعب، لا سيما مع تراجع ثقة المرجعية به، وانكفاء السيستاني عن دعمه، ما يُضعف موقعه الأخلاقي أمام الجمهور الشيعي.
فالمرجعية لطالما مثّلت الغطاء الأبرز لمنح الشرعية، وغيابها يعني انكشافًا سياسيًا حقيقيًا، خاصة في لحظة انتخابية حرجة.
الوضع لا يقتصر فقط على الداخل العراقي. فالمعادلة الجيوسياسية برمتها تشهد تحولات متسارعة، منها ما هو مرتبط بصفقات التطبيع المتوقعة بين دول عربية وإسرائيل، ومنها ما يتصل بمحاولات إعادة تشكيل النفوذ الإقليمي الأميركي والخليجي في العراق، على حساب التأثير الإيراني الذي يبدو في حالة انكماش نسبي، حتى وإن بقي فعّالًا عسكريًا.
وتدرك طهران، ومعها حلفاؤها في العراق، أن لحظة انتخابات 2025 قد تشكّل نقطة انعطاف حاسمة، إما لتثبيت ما تبقى من نفوذ، أو لخسارة تدريجية أمام موجة سياسية جديدة تتجه أكثر نحو الاعتدال والهوية الوطنية.
المرجعية، من جانبها، تواصل التزامها بالصمت الرسمي.
لكنها، بحسب مقربين، تراقب المشهد عن كثب، وتفضل عدم الزج بنفسها في صراعات سياسية يومية، مع التأكيد على مبادئها القديمة: حماية وحدة العراق، احترام إرادة الشعب، وتغليب المصلحة الوطنية على الولاءات الخارجية.
وفي هذا السياق، يبقى أي ادّعاء بموقف صادر عن المرجعية محط شك وتساؤل، ويُقابل دائمًا برد فعل حذر من القوى السياسية، لأنها تدرك أن الاستقواء باسم السيستاني لم يعد مُتاحًا كما في السابق، وأن المزاج الشعبي والمرجعي على حدّ سواء لم يعد متسامحًا مع التجاوزات أو التوظيف السياسي للدين.
وفي المحصلة، يظهر نفي الرسالة وكأنه “رد فعل على خوف”، أكثر من كونه مجرد توضيح إعلامي.
فهو يكشف القلق الحقيقي داخل الإطار، ويعكس هشاشة الغطاء السياسي والديني الذي كان يستند إليه لسنوات.
ومع تغيّر الموازين، تزداد حدة القلق من أن الانتخابات المقبلة قد تكون بداية نهاية الهيمنة الشيعية التقليدية، لصالح توازنات جديدة لم تتبلور بعد، لكنها تلوح في الأفق بقوة.