إبراهيم غرايبة
كاتب أردني
يمكن تلخيص جوهر الدين في الإيمان بالله، وشجاعة عيش الحياة، والإدراك الواعي للعالم، فقد كان الدور الريادي للدين منذ فجر الإنسانية هو مساعدة الإنسان في فهم ذاته والعالم المحيط، وبالتأكيد فإنّ التديّن يمضي بالإنسان إلى ضد أهداف الدين عندما تغيب هذه المسألة الجوهرية والأساسية في فهم الدين.
تؤشر الحالة الاجتماعية الثقافية التي تتشكل إلى ظاهرة ذات جانبين متضادين، كأنّهما ظاهرتان، هما؛ صعود قيم التدين الروحية والفردية، وصعود قيم التطرف والكراهية المستندة إلى الدين، وبالطبع فإنّ الظاهرة الثانية واضحة وتشغل العالم كثيراً، لكنّ الظاهرة الأولى، رغم قوتها وانتشارها فإنّها ليست صاخبة ولا تبدو واضحة أو مؤثرة، إلّا أنّ الدراسات والتقارير والملاحظات العيانية تُظهر الإقبال الكبير للشباب على الاتجاهات الروحية مثل؛ التصوف واليوغا والتأمل، كما قيم التسامح والاعتدال والعيش المشترك والتنوع والتعددية والثقة، بل وينظر إليها الكثير من المفكرين والباحثين، مثل؛ فرنسيس فوكوياما على أنّها القيم العليا والمؤسسة للحضارة الإنسانية في المرحلة القادمة.
لقد رافقت التحولات الاقتصادية والتقنية على الدوام تحولات دينية؛ حيث ظهرت الإنجيلية البروتستانتية مع ظهور المطبعة، وفي القرن التاسع عشر؛ رافق التقدم العلمي والصناعي ظهور حركات دينية جديدة؛ كالميثودية وشهود يهوه والمورمونية والراستافارية، التي ظهرت في عالم المسيحية، وشهد عالم الإسلام، ظهور القاديانية والبهائية والبابية وأمة الإسلام والجماعات الإسلامية السياسية المنظمة، كما ظهرت هاري كريشنا في عالم الهندوسية، وفي التفاعل الهندوسي الإسلامي؛ ظهرت السيخية، وفي اليهودية ظهرت القابالاه والمسيانية، وظهرت التنزيكورية في اليابان.
رغم أنّ الدين استعادة للماضي، والشبكية نظرة إلى المستقبل، إلّا أنّ الأول حاضر في الثانية بقوة، وكما كانت الكنيسة مؤثرة بفعالية في حركات النهضة والتعليم، التي سبقت وصاحبت الثورة الصناعية، فإنّ الدين في جميع أنحاء العالم يشارك على نحو مؤثر في التفاعلات الجارية مع العولمة والشبكية، ويمكن الملاحظة بوضوح كيف تؤدي الشبكة دوراً دينياً واسعاً ومؤثراً، كما أنّها أتاحت المجال واسعاً للعمل والتأثير الديني المستقل عن المؤسسات والجماعات الدينية.
وتُظهر الشبكة كيف تشكلت علاقات واسعة وممتدة في مجتمعات الإيمان، تشجع الناس على التطوع والمشاركة السياسية، والتصويت في الانتخابات، والتبرع، وتؤشر الدراسات والتقارير إلى صعود بوذية الزن في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، ونمو انتشار المسيحية في الهند وكوريا.
وتجتذب الاتجاهات، والجماعات، والمؤسسات، والطوائف الدينية الجديدة مجموعات من المهمشين اقتصادياً واجتماعياً، كما تجتذب ذوي المكانة المتقدمة اقتصادياً واجتماعياً، ففي الولايات المتحدة تجتذب اتجاهات وجماعات الزن والمورمون، أتباعاً جدداً ذوي مستويات تعليمية متقدمة، لكن في الصين تجتذب المسيحية الإنجيلية نخباً اجتماعية واقتصادية. ويمكن تفسير ذلك ببساطة بأنّ الانضمام إلى اتجاه ديني جديد مستمد أساساً من تقدم معرفي واهتمام عميق بالعالم، وبالثقافات والأفكار الجديدة.
ومن الظواهر الجديدة التي تُقدّمها وسائل الإعلام والدراسات، اجتماع أعداد من أتباع الأديان المختلفة في مكان واحد وأداء صلوات جماعية مختلفة، كلّ حسب الدين الذي يتبعه، تعبيراً عن التضامن الديني أو لأجل الصلاة والدعاء للمصابين والضحايا وقد حدث ذلك في دول كثيرة.
وفي موقع للكنيسة الميثودية كتب “رايان دان”؛ الذي يُعرّفه الموقع بأنّه شماس مكرس في الكنيسة الميثودية المتحدة، ووزير المشاركة عبر الإنترنت للاتصالات المتحدة الميثودية، يحب استكشاف مساحة الوزارة في المجال الرقمي ويمكن العثور عليه على موقع “تويتر” و”إنستغرام”؛ “إنّ الناس يبحثون عن مجتمع، ويتطلع الشباب إلى الكنيسة لتساعدهم في فرص جديدة للمشاركة الإيجابية في المجتمع. وصارت بعض الكنائس تقدم العشاء مع الصلاة، ويبحث البعض عن التوجيه والإرشاد الروحي، ويجدون في ذلك عوناً للصحة النفسية والجسدية”.
لقد تغيّر العالم بموارده ومؤسساته وقيمه وأفكاره تغيراً كبيراً وجذرياً لدرجة تجعل مقولة نهاية العالم صحيحة
وقد بدأت السينما العالمية تُقدم أفلاماً لقيت نجاحاً وإقبالاً كبيرين؛ إذ تكرس مفاهيم السلام والارتقاء الروحي وما يمكن أن تساعد فيه قيم التسامح الديني والعيش المشترك، في مواجهة العنف والكراهية، ومن أشهر هذه الأفلام؛ “اسمي خان ولست إرهابياً” و”أفاتار” و “2012”.
وكما نعلم فإنّ السينما العالمية لطالما كانت رديفاً للسياسات والاتجاهات العالمية نفسها، ويمكن ملاحظة ذلك ببساطة، في المقارنة بين مسار السينما ومسار السياسة العالمية والصراعات نفسها؛ الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي والشيوعية، فيتنام، واليهود، واليابان، والإرهاب، والعراق، وهذا يشجع على الاستنتاج بأنّ فيلم “اسمي خان ولست إرهابياً” يعبّر عن وجهة عالمية جديدة في بناء تعايش وحوار ديني عالمي.
وتدور أحداث فيلم “اسمي خان ولست إرهابياً”، حول الشاب الهندي المسلم؛ خان، الذي يهاجر إلى الولايات المتحدة، ويتزوج من فتاة هندوسية لديها طفل من زوج سابق، ويقتل هذا الطفل بعد أحداث الحادي عشر من أيلول في جريمة كراهية؛ حيث يظن القاتل أنّه مسلم، ورغم أنّ خان يواجه معارضة من أقارب وأصدقاء مسلمين هنود لأنه تزوج من هندوسية، ورغم مشاركته في الصلاة لأجل ضحايا الحادي عشر من أيلول فإنّه يُواجَه برفض شديد من مسلمين ومسيحيين وهندوس، وفي الوقت نفسه يجد كثيراً من التضامن والتأييد من مسلمين ومسيحيين آخرين، ويستطيع أن يقابل الرئيس الأمريكي باراك أوباما.
والحال أنّ أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، بقدر ما أطلقت موجة من الإرهاب والحرب على الإرهاب، فإنّها أيضاً أطلقت حالة كبيرة وعميقة من الحوار الديني والتعرف الإيجابي على الإسلام، والثقافات العربية والإسلامية، لكنها لم تجد نفس الاهتمام البحثي والإعلامي، الذي حظيت به حالات التطرف والعنف المنتسبة إلى الإسلام.
أمّا فيلم “أفاتار” فيعكس الإقبال الكبير الذي حظي به التطلع الإنساني الملحّ والعميق نحو السلام الروحي، وربما القلق والخوف من التحولات والانتقالات التي تصاحب التكنولوجيا الحاسوبية والاتصالاتية أو ما صار يُسمّى “الثورة الصناعية الرابعة”. لكن نرى حسب الفيلم أنّ أصحاب التقدّم الصناعي والعلمي الهائل يهزمهم مجتمع زراعي بسيط يتمسك بقيمه الروحية، وبالطبع فإنها مجرد مشيئة لكاتب أو مخرج، أن تدافع جماعات بدائية من البشر عن شجرتها المقدسة وتهزم التكنولوجيا الهائلة، لكن وعلى نحو ما فإنّ الفيلم يثير سؤالاً آخر قد يكون مثيراً أو مقلقاً؛ لماذا تزدهر أفكار وقيم روحية تبدو كأنّها “خرافية”؟ ولماذا يزداد الإيمان بالغيب والقيم الروحية وما يعتبر “خرافة” رغم الزيادة الهائلة في العلم والمعرفة؟ ربما لا يكون الأمر كذلك تماماً، ولكنّ المعرفة وتحولاتها تزيد مساحة المجهول في حياتنا، حتى يغلب تعاملنا مع ما لا نعرفه على ما نعرفه، بل يغطيه ويستغرقه، وحينها تكون التأملات الروحية بديلاً معقولاً، وتكون الحياة الزراعية أيضاً نهاية منطقية، وكأنّ التقنية والتقدم العلمي يسيران بنا إلى الأصل في الحياة الإنسانية؛ بما هو البقاء والتأمل الروحي والعقلي.
ومن أجمل التعليقات وأكثرها تأثيراً في فيلم “2012”، عندما تتحقق نبوءات كاهن ينتمي إلى دين قديم يُعتبر بدائياً في نهاية الكون، رغم أنّ المؤسسات العلمية والتكنولوجية كانت تؤكد خطأ واستحالة نبوءة الكاهن، فيعلّق المسؤول السياسي بحسرة؛ كيف أخطأ كل أهل العلم والتقدم والسياسة وأصاب هذا الكاهن المعتوه؟! وربما يكون قد انتهى عالم بالفعل، وتشكل أو يتشكل عالم جديد، فقد تغير العالم بموارده ومؤسساته وقيمه وأفكاره تغيراً كبيراً وجذرياً لدرجة تجعل مقولة نهاية العالم صحيحة.
نقلآ عن حفريات