عمرو فاروق
أعادت هيئة قصور الثقافة المصرية أخيراً نشر كتاب “نحو ثورة في الفكر الديني”، للمفكر الدكتور محمد النويهي (1917 – 1980)، بعد أكثر من 50 عاماً من طبعته الأولى، والذي طرح فيه عدداً من القضايا الشائكة حول تجاوز “الإصلاح الديني”، في إطار محدوديته الجزئية التي ما زالت تحاصر المجتمعات العربية والإسلامية.
بيَّنت الطبعة الجديدة، التي قدّم لها، الدكتور أحمد سالم، استاذ الفلسفة الإسلامية، أنّ إعادة النشر، جاءت في توقيت شديد الخصوصية، حيث الصراع الدائر حالياً على الأراضي الفلسطينية المحتلة، والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، معيدةً ما طرحه المؤلف إبّان نكسة حزيران (يونيو) 1967، من أنّ المجتمع العربي، لم تكن هزيمته عسكرية فقط، في ظل محاصرته بحالةٍ من التراجع الفكري والسياسي والاجتماعي.
تتلمذ الدكتور النويهي على يد الدكتور طه حسين، وعمل أستاذاً للنقد الأدبي في عدد من الجامعات العربية والأجنبية، كما تولّى رئاسة قسم الدراسات العربية في الجامعة الأميركية في القاهرة، وحمل على عاتقه الدعوة للثورة الفكرية الشاملة، وضرورة الانفتاح على الثقافة المعاصرة.
كان النويهي سبّاقاً في تخوفاته ورؤيته، من أن تبسط التيارات الدينية المتشدّدة هيمنتها على المجتمعات العربية، قبل مرحلة التمدّد السلفي، وانتشار الجماعات الجهادية، وجماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي نصّبت من نفسها قاضياً في محاكم تفتيش شرعية، منحت الإسلام لأتباعها، وسلبته عن الآخرين، فطرح كتابه في 6 فصول، متمثلة في: “إلى الثورة الفكرية”، و”الدين وحرّية الفكر”، و”الأخلاق وحرّية الفكر”، و”الوطنية وحرّية الفكر”، و”حرّية الفكر وحرّية العمل”، ويُعتبر أهم أجزائه “نحو ثورة في الفكر الديني”، التي تحوي عدداً من النقاط الهامة حول الثورة على الجمود الفكري الديني.
يدور المشروع الفكري للنويهي حول “تاريخية الفكر الديني”، وخضوعه للعوامل الزمنية والمكانية والاجتماعية، التي تمثل شرطاً أساسياً في صلاحية تطبيقه وتنفيذه، وملاءمته لعصره، وأنّ مختلف التشريعات الدينية ليست مستنبطة في ذاتها من الإسلام كدين، لكنها من واقع اختلاف البيئات الزمنية والجغرافية، إذ أنّ “الفقه الإسلامي”، شهد حالةً من الاختلاف في المضامين وتنوعها بين كل من الحجاز والعراق ومصر.
إرتأى النويهي أنّ التغيير لا بدّ أن ينطلق من الثورة الفكرية، التي لن تتحقق إلاّ في إطار تحرير العقل تجاه إعادة النظر في مفاهيم “الفكر الديني”، الموسومة بحالةٍ من الجمود والانحدار، في ظلّ هيمنة وظهور طبقة احتكارية للدين، تزعم قداسة مذهبها ورؤيتها، فضلاً عن إيمانها المطلق بثبات وإلزامية الاستنباطات التشريعية السابقة، وعدم خضوعها للتعديل والاجتهاد والتطور.
ذهب النويهي في طرحه إلى أنّ الإسلام ليس دين آخرة، أو حالة روحية فقط، لكنه يهتم كذلك بصلاح دنيا الناس وأحوالهم، في إطار مبدأ تطور الأحوال والأزمنة، ولم يدع أن الله وحده هو مصدر القوانين كلها، دينيها ودينونها، ولم يصنع نظاماً كاملاً نهائياً للمجتمع الإنساني، حتى لا يكون عائقاً أمام التطور البشري.
اعتبر النويهي في ثورته الفكرية، أنّ القرآن والسنّة، المصدران الأساسيان للإسلام، لا يحتويان على كل ما يلزم البشرية من تشريع في أمور دنياها، ولا يتضمنان حلاً لكل مشكلة، أو الإجابة عنها، بل على العكس تماماً، نجد أنّ روحهما البينة في وضع التشريع، هي الاقتصار على الحدّ الأدنى، الذي كانت توجبه الظروف الملحّة في عهد الرسول، وقد رفض في أحوال كثيرة أن يزيد على هذا الحدّ، حتى حين كان الناس يلحّون عليه بالسؤال.
بنى النويهي رؤيته على أنّ كل التشريعات التي تخصّ أمور المعاش الدنيوي، والعلاقات الاجتماعية بين الناس، الواردة في القرآن والسنّة، لم يقصد لها الدوام وعدم التغيّر، ولم تكن سوى حلول موقتة احتاج المسلمون الأوائل إليها، وكانت صالحة وكافية لزمانهم وبيئتهم، فليست بالضرورة ملزمة لنا، ومن حقنا أن ندخل عليها تعديلاً بما يتناسب مع تغيّر الأحوال، في إطار تحقيق المقاصد الإسلامية.
وبيّن أنّ غالبية الأحكام الدنيوية التي وضعها المشرّعون القدامى، لم يتمّ استنباطها من الكتاب والسنّة، بل أخذت من تشريعات ومعاملات ونظم البلاد الأخرى، في ظل عدم مخالفتها للمثل الإسلامية العليا، التي أقرّها القرآن والسنّة النبوية المطهّرة، وأنّهم لجأوا إلى ذلك للتطورات التي شهدها المجتمع الإسلامي من النمو والتحول بعد الفتوحات والاختلاط بالمجتمعات الأخرى.
وضع النويهي القارئ أمام إشكالية عدم صلاحية الأحكام القرآنية التي كانت في عهد الرسول، وأنّه ليس من الضروري أن تبقى كذلك، بل يجوز لنا أن ننقلها من باب الفرض والحرام، إلى باب الندب والكراهة، ما دام ذلك لا يخالف مقاصد الشريعة وضوابطها، اقتداءً بما فعله الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، في توقيف أو الغاء أو تطبيق بعضها، وفقاً لاقتفاء المصلحة وتغيّر الأحوال، مثلما فعل في توقيف حدّ السرقة، أو إلغاء سهم المؤلفة قلوبهم، وأنّ ما فعله الخليفة عمر ليس مقصوراً عليه، وإنما يأتي من توسيع باب الاجتهاد للأمّة كلها.
يرى النويهي أنّ الرسول، في ما عدا مسائل العبادة، لم يفرض رأيه ولم يدع أنّه الأرجح والأصح، بل أقرّ بأنّ معاصريه من عرب القرن السابع الميلادي كانوا أعلم بأمور دنياهم، وأنّ هذا ينطبق من باب أولى على أمور دنيانا التي هي أعقد وأشدّ حاجة إلى العلوم الدنيوية العميقة والفنية في ذاتها، وأنّ المصلحة العليا للأمة، تمثل المرجع الأساسي في استخلاص الأحكام والتشريعات، وليس المصلحة الخاصة أو الفردية.
تطرّق النويهي في معركته إلى الفروق بين “الأصول” التي تعني العقيدة، وما يتعلق بها من شعائر العبادات والأخلاق والغايات السامية الخالدة التي نصبها الإسلام، وبين “الفروع” التي تشمل شؤون المعاملات والعلاقات الاجتماعية، والتي يحق لنا أن ندخل عليها من التغيير ما يستلزم التطور البيئي والزمني، وأنّ المسلمين منذ عهود انحدارهم واستيلاء الرجعية السياسية والاقتصادية والفكرية عليهم، عجزوا عن مسايرة التطور والحداثة، فصاروا إلى تجميد الإسلام، وشلّ روحه وتحويله إلى أداة تحجير ورجعية في المجتمع.
تساءل النويهي إذا كان الدين هكذا كما يصوره لنا، شلاً للعقل، وتحجيراً للفكر، وتجميداً للمجتمع، وعرقلةً للتقدّم، فما حاجة الإنسانية إليه، وما فائدتها منه؟، أليس خيراً لها ألف مرّة أن تتخلّص منه، وتنبذه وراء ظهرها، لتمضي قدماً في إنضاج فكرها، وتصحيح أوضاعها، وإسعاد معاشها؟ مستشهداً بما طرحه الدكتور طه حسين في معرض دفاعه عن الإسلام في المؤتمر الثقافي الإسلامي- المسيحي الذي عُقد في البندقية في أيلول (سبتمبر) 1955: “إنّ أهم خصائص قوانين القرآن هي مرونة أحكامها، بحيث تتلاءم مع الأوضاع ملاءمة عملية، سواءً كان ذلك من الناحية الأخلاقية للفرد أو الناحية الاجتماعية والسياسية والظروف التاريخية”.
في إطار ثوريته على الكهنوت الديني، اعتبر النويهي أنّ رجال الدين اتخذوا من تخصّصهم دعامة يبنون عليها قداسة زائفة لا أصل لها، وعصمة تدفعهم إلى رفض المناقشة وتحريم الاجتهاد، ورمي كل مخالفيهم بالزيع والكفر والإلحاد، حى صاروا طبقة كهنوتية، لكفح الفكر وتكميم الأفواه، رغم أنّ الإسلام لم يُنشئ قط، ولا يعترف البته بفئة خاصة تدّعي الإنفراد بتمثيله، وتحتكر تفسيره، والتحدث باسمه، وتحجر على الآراء التي تظنها مخالفة لها، وأنّ النقاش وإبداء الآراء في كل المسائل متاح لكل المفكرين، دون مصادرة أو عقاب أو اضطهاد يوقع بهم.
رغم أنّ اجتهادات الدكتور النويهي محل خلاف بين المعنيين بقضية “الإصلاح الديني”، فإنّ إسهاماته الفكرية، لا يمكن تغافلها أو التغاضي عنها، في إطار تحديد ماهية الخطاب الديني، والاجتهاد في قراءة نصوصه، واستنباط تشريعاته، والإنفكاك عن دائرة الإتباع والجمود على موروث الماضي.
مراجعة مفاهيم الفكر الديني، والتخلّص من جمودها، ومحاولة إخضاعها للإطار الزمني والمكاني، يدفع بنا إلى حركة مجتمعية متطورة ومتغيّرة تبعاً للمدخلات الآنية، التي فُرضت علينا جراء التقدّم التكنولوجي المعاصر، الذي لم تكن تعرفه الأزمنة السابقة، ولم تنل من تأثيراته الاجتماعية والسياسية والثقافية.
نقلاً عن “النهار” العربي