أحمد بان
كاتب مصري
حرص الإخوان تاريخياً، في جلّ كتاباتهم، على إبراز وجه أخلاقيّ يتسم بالمثالية وتغليب أخلاق الإسلام السمحة، وتواترت كتابات رموزهم ودعاياتهم للتأكيد على أنّ دعوتهم دعوة ربانية.
يقول البنا: “أخصّ خصائص دعوتنا أنّها ربانية عالمية، أمّا أنّها ربانية فلأنّ الأساس الذي تدور عليه أهدافنا جميعاً، أن يتعرف الناس إلى ربّهم، وأن يستمدّوا من فيض هذه الصلة روحانية كريمة تسمو بأنفسهم عن جمود المادة الصماء وجحودها، إلى طهر الإنسانية الفاضلة وجمالها، ونحن، الإخوان المسلمين، نهتف من كلّ قلوبنا “الله غايتنا”؛ فهدف هذه الدعوة الأول؛ أن يتذكر الناس من جديد هذه الصلة التي تربطهم بالله “فهل تذكر الإخوان هذه الصلة مع الله وقيم الدين، أم إنّ واقعهم لا يظهر سوى الصلة بالمال والحكم والسعي لنيلهما بأيّة وسيلة؟ وهل تعرّفوا إلى ربهم وحرصوا على إرضائه بالدعوة لله بالحكمة والموعظة الحسنة، أم أشعلوا الأرض تحت أقدام المصريين وعطّلوا كلّ فرص النهوض والتقدم، عبر دعاوى التفرقة والدعاية لدوغما لم تحقّق سوى خراب الأوطان.
في المشهد الأخير للإخوان ما يفضح زيف دعايتهم الأخلاقية التي تتسربل بالمثالية والربانية، بعد أن تلاسن القوم بكل الشتائم والسخائم، ليس في مواجهة خصومهم؛ بل في مواجهة بعضهم أيضاً، سقطت القشرة الأخلاقية الرقيقة وتبين أنّ سوء الأخلاق ليس فقط مع الخصوم بل مع الجميع دون استثناء.
انقسم الإخوان أكثر من مرة بين إصلاحيين ومحافظين، صقور وحمائم، وكما يقول أحد الحكماء: “ليس بينهم حمائم فكلّهم صقور، لكنّها التصنيفات الأكاديمية والبحثية التي تدفعنا أحياناً لإبراز تمايز ما داخل المجموعات أو الأحزاب، وإن بشكل نسبي، انقسم الإخوان من جديد داخل تيار تنظيمي واحد لطالما فاخر بأنّه عصيّ على الانقسام أو الانشقاق، وهو التنظيم القطبي أو تنظيم العشرات، في إشارة الى أنّ جلّ قادته حصلوا عام 1965 على أحكام بـ 10 سنوات، ضمن جرائم تنظيم 65 في الساحة المصرية.
بعد مشهد سقوط حكم الإخوان في مصر ضرب التنظيم زلزال كبير، ما تزال توابعه تأتي تباعاً، بدأت بالانقسام بين تيار السياسة وتيار الدعوة، مَن يريد أن يتحول التنظيم إلى حزب سياسي بعيداً عن أية دعاوى أخرى، باعتباره حزباً يسعى لحيازة السلطة، سواء عبر آليات العمل السياسي، أو حتى الانقلاب، وبين من يرغبون بالتحول إلى عمل دعويّ صرف يطلّق السياسة، ويعود إلى ما قرّره البنا فى آخر حياته، حين أسرّ إلى خلصائه قائلاً: ” ليس لنا حظّ في السياسة، لو استقبلت من أمري ما استدبرت لعدت بالإخوان إلى زمن المأثورات”، في إشارة إلى العودة إلى مربع الدعوة والتربية والابتعاد عن العمل السياسي، لكنّ دعاوى الاقتصار على النشاط الدعوي أو السياسي لم تلقَ آذاناً مصغية، بعد أن بعدت الشقة بين المبادىء الأولى والسلوك؛ حيث تحوّلت الجماعة إلى دولاب مصالح وجماعات مصالح وارتباطات بقوى أجنبية وسفارات واستخبارات ظلّت تصنع خيارات التنظيم، فشهدنا بروز تيارين داخل التنظيم، عام 2014؛ الأول تنظيم تزعمه محمد بديع عبر شعار “سلميتنا أقوى من الرصاص”، الذي كان ترجمة حرفية لإستراتيجية تقضي بالكمون التنظيمي وإعادة البناء، مع إطلاق مظاهرات سلمية تمنح الغطاء لجماعات العنف المسلح؛ كالقاعدة وداعش، كي تنشط على الساحة المصرية، بعد أن يمنحهم الإخوان غطاء الفوضى اللازمة، وقد حافظ الإخوان على هذا المسلك حتى شباط (فبراير) 2014، حين انتصرت رؤية أحد أعضاء مكتب الإرشاد، المعروف بميوله العنيفة وإيمانه بالعمل المسلح، وهو محمد كمال، الذي لخّص رؤيته بأنّه لا يمانع العمل من خلال المظاهرات، لكن لا بدّ من محفّز يساعد في إنضاج المشهد نحو طموحات التنظيم، عبر العمل العسكري النوعي، وقد وافق كثيرون على ذلك داخل التنظيم، لكنّ الفشل المتتالي لعمليات كمال خلّف انقساماً عام 2015، تعزّز بموت محمد كمال في مواجهة مع الشرطة المصرية، عام 2016، وظلّ مشهد الخلاف يتّسع بعد انتقال عدد كبير من عناصر الجماعة وقيادتها إلى تركيا والانقسام بين مجموعة المكتب العام، المحسوبة على محمد كمال، ومجموعة محمود عزت، الذي ساهم القبض عليه في الانقسام داخل مجموعته بين إبراهيم منير فيما عرفت بجبهة لندن، ومحمود حسين فيما عرفت بجبهة إسطنبول، وهي تسمية إعلامية غير دقيقة، حيث لا يحظى حسين بدعم أو قبول تركي، هو أو منير، في النهاية، لكنّ تركيا تحافظ على الرأسمال المعنوي الذي حققته تحت عنوان حماية المستضعفين في الأرض.
هذا السرد مهمّ في الإشارة إلى المشهد الحالي الحافل بالاختلاسات المالية والفساد الإداري والصراع على الأموال والغنائم، وانكشاف القشرة الأخلاقية الهشّة لجلّ الإخوان والتي أكّدت أنّ الربانية، وغيرها من قيم الإسلام، كانت محض قناع ترتديه العناصر الإخوانية في مرحلة الدعاية، لكنّها عندما تنخرط في العمل تكشف عن حقيقتها؛ جماعة متعطشة للسلطة والمال، وفي سبيلهما لا تحفل بأيّ مبدأ أو خلق أو دين، ثمّ لا تخجل حين تنعت خصومها بكلّ نقيصة أخلاقية، لكنّهم الإخوان؛ فأين ذهبت الربانية؟
نقلاً عن حفريات