سامح فايز
صحفي مصري
تحولات الصراع داخل جماعة الإخوان المسلمين خلال (100) عام منذ اختلف البنا مع رفاق التأسيس في مدينة الإسماعيلية تركت أثرها على الوعي الجمعي للتنظيم؛ فقد امتد الصراع إلى فترات تاريخية لاحقة، أهمها الانشقاق التاريخي للشيخ أحمد السكري، مرورًا بالصدام بين المرشد الثاني حسن الهضيبي ومسؤول النظام الخاص عبد الرحمن السندي، وصولًا إلى الصدام الأكبر والأطول بين من وُصفوا بالقطبيين، وغيرهم من أبناء التنظيم منذ التأسيس الثاني للتنظيم بداية من الثمانينيات من القرن الماضي، حتى اختيار محمد بديع مرشدًا للإخوان في كانون الثاني (يناير) 2010.
اللافت في تلك المسألة أنّ الصراع على الإدارة أظهر منتجًا فكريًا منشورًا من كل تيار، وهو ما ذهب بالتنظيم إلى تحولات فكرية عرف طريقها الإخوان منذ الثمانينيات مع الهجرات الكبرى إلى أوروبا وأمريكا، ومأسسة فقه مغاير يتناسب مع الأرض الجديدة، وبدايات تأسيس التنظيم الدولي على يد مصطفى مشهور نفسه، والذهاب بالعمل السرّي إلى أبعاد أخرى غير العمل الخاص المسلح، فأصبح هناك عمل سرّي في أقسام الاقتصاد، وأقسام الدعوة، وأقسام الفكر؛ فالعمل السرّي عقيدة وضعها حسن البنا في نفوس أتباعه منذ اللحظة الأولى للتأسيس. وإنّ الاتهامات المتبادلة بالانتماء للتيار القطبي داخل التنظيم ومحاولات السيطرة على الجماعة ما هي إلّا وسيلة من أجل تشتيت انتباه أعداء الجماعة، وإبعادهم عن قراءة تحولات التنظيم قراءة حقيقية، على الرغم من صدور كتابات مهمّة في نقد الجماعة من داخلها بعد عام 2013، تحاول إعادة إنتاج جماعة جديدة (ظاهريًا)، أهمها كتاب “أزمة التنظيمات الإسلامية ـ الإخوان نموذجًا”، من تأليف مؤسس تنظيم الإخوان القطري جاسم سلطان.
صراعات الإخوان على أعتاب 30 حزيران (يونيو)
الحلقة الأحدث في تلك الصراعات التاريخية تفجرت بعد ثورة حزيران (يونيو)؛ فالصراع وصل إلى أوجه تأثرًا بالثورة المصرية حزيران (يونيو) 2013 ضد حكومة الإخوان برئاسة الرئيس الراحل محمد مرسي.
المسألة التي انتهت بانقلاب إبراهيم منير على رفاقه في النظام الخاص، وفي المقدمة منهم محمود حسين الأمين العام للجماعة، وتنصيب نفسه قائمًا بأعمال المرشد، وعزل من اعترض على ذلك القرار.
وعلى الرغم من تنفيذ إبراهيم منير انقلابًا ناعمًا على بقية القيادات التاريخية، فقد شهد التنظيم مؤشرات ذلك الانقلاب مع تأسيس ما عُرف بلجنة إدارة الأزمة عام 2014 بقيادة محمد كمال وعضوية آخرين، أبرزهم: يحيى موسى، ومحمد منتصر المتحدث باسم الجماعة في تلك الفترة، وعضو تيار التغيير حاليًا المعروف باسم المكتب العام للجماعة أحد الجماعات التي تتحدث باسم الإخوان حاليًا، إلى جوار مجموعة محمود حسين في إسطنبول، ومجموعة الراحل إبراهيم منير في لندن.
تزامن مع تشكيل لجنة إدارة الأزمة تشكيل هيئة شرعية برئاسة مفتي الجماعة عبد الرحمن البر، وضمت فيها أعضاء مكتب الإرشاد ممّن ظلوا خارج السجن بعد زلزال حزيران (يونيو)، مثل محمد عبد الرحمن المرسي، ومحمود غزلان.
كانت الهيئة الشرعية للجماعة قد أصدرت بيانًا في تلك الفترة يجيز عمليات القتل في حالات بعينها ضد رجال ومسؤولي الدولة، وهو البيان الذي أصبح الأساس المبني عليه بحث (فقه المقاومة الشعبية) مانيفستو لجنة محمد كمال في إدارة الأزمة ضد الجيش المصري عقابًا له على دعم ثورة المصريين في (حزيران) يونيو.
اتفاق على القتل لم يستمر طويلاً؛ بيد أنّ قادة الإخوان في السجون أدركوا أنّ المواجهة المسلحة مع الجيش المصري فتحت بابًا من جحيم هدد وجود التنظيم نفسه، في تلك اللحظة انقلب السحر على الساحر وقررت الجماعة حل لجنة إدارة الأزمة وتشكيل لجنة أخرى، بعد عام كامل من الصمت على سيل الدم الذي قامت به لجنة الأزمة بقيادة كمال.
النظام الخاص وسياسة الأرض المحروقة
صدام لم يكن معروفًا لمن هم خارج الجماعة حتى وقع عبد العظيم الشرقاوي أحد أخطر قيادات الجماعة في صعيد مصر في قبضة الأجهزة الأمنية عام 2015؛ ليدلي بأقوال أشعلت الصراع بين جبهات الجماعة، قال فيها إنّ المسؤول عن العنف الذي بدر من شباب الجماعة بعد سقوط الإخوان هو القيادي بمكتب الإرشاد محمد كمال.
الأقوال نفسها أكدها عضو مكتب الإرشاد وصهر خيرت الشاطر محمود غزلان في تحقيقات نيابة أمن الدولة العليا، بيد أنّ كمال كان له رأي آخر؛ إذ قرر ورفاقه ممارسة سياسة الأرض المحروقة في محاولة للثبات على منهج حسن البنا كما تربوا عليه، لينشر كمال خطابًا بين قواعد الصف الإخواني انفردت بنشر أجزاء منه جريدة (الشروق) المصرية في أيلول (سبتمبر) 2015، بعد أقل من شهرين على اعترافات القيادي عبد العظيم الشرقاوي، أقرّ فيه بأنّ جميع ما نفذته لجنة إدارة الأزمة حدث بمباركة الهيئة الشرعية للتنظيم.
توالت الأحداث ونصّب أنصار محمد كمال أنفسهم مسؤولين عن التنظيم، وعدوا أنفسهم المكتب العام الحقيقي للجماعة، وما غير ذلك باطل. اللافت للانتباه أيضًا أنّ مجموعة محمود حسين ومحمود عزت التي اعترضت ظاهريًا على العمل المسلح عام 2014، وقدّمت نفسها على أنّها تيار إصلاح يرفض ما انتهجه تيار عضو مكتب الإرشاد محمد كمال وذراعه اليمنى يحيى موسى، المتحدث السابق لوزارة الصحة في حكومة الإخوان، هي نفسها المجموعة التي قدّمها الإخوان على أنّها تمثل التيار القطبي قبل عام 2011، على اعتبار أنّ محمود حسين ومحمود عزت، ومعهم محمد بديع وخيرت الشاطر، هم رجال مرشد الإخوان الخامس، مصطفى مشهور، الرجل الذي أحيا التنظيم المسلح للإخوان في عهد المرشد الثالث عمر التلمساني.
الشقاق ضرب الرفاق لاحقًا مع القبض على محمود عزت نائب المرشد، وتسبب طرح اسم إبراهيم منير مسؤولًا عن الإخوان عام 2020، في صدام منذ لحظاته الأولى، لتدخل الجماعة في نفق مظلم انتهى بوجود (3) أفرع تدّعي أنّها المسؤولة عن إدارة الإخوان؛ وهي: الكماليون، وجبهة محمود حسين، وجبهة إبراهيم منير.
الخلاف حول الإطار الحركي دون الفكري
بعض المتخصصين في ملف الإسلام السياسي رأوا أنّه رغم وجود خلافات حقيقية داخل التنظيم إلا أنّها تندرج تحت إطار الخلاف الفكري الحركي؛ فالجماعة لديها خلافات حول بعض النقاط الخاصة باستراتيجية عملها في المرحلة الراهنة، والخلاف الفكري هنا ليس مقصودًا به الخلاف حول أدبيات الجماعة أو الثوابت، لكن الخلاف فيما يندرج تحت الإطار الحركي في تلك المرحلة.
في السياق نفسه قال إبراهيم منير (1937ـ2022)، نائب مرشد الإخوان المسلمين، القائم بالأعمال: إنّ التنظيم “لن يخوض صراعًا جديدًا على السلطة”، مؤكدًا رفض الجماعة “استخدام العنف والسلاح لمواجهة النظام”.
وأضاف منير في حوار مع وكالة (رويترز) للأنباء في آب (أغسطس) 2022: “نرفض العنف تمامًا، ونعتبره خارج فكر جماعة الإخوان المسلمين، ليس فقط أن نستخدم العنف أو السلاح، بل حتى أن يكون هناك صراع على الحكم في مصر بأيّ صورة من الصور”.
تصريح إبراهيم منير في حواره مع وكالة (رويترز) عن رفض العنف يناقض تصريحه في مقابلة مع قناة (الجزيرة) القطرية في أيلول (سبتمبر) 2020، ذكر فيها أنّ بعض شباب الإخوان الغاضب مارس العنف بعد حزيران (يونيو) 2013 في القاهرة، مشيرًا إلى أنّ العنف صدر عن الشباب بدافع وطني، على خلفية ثورة 30 حزيران (يونيو) التي لم تعترف بها جماعة الإخوان وتعدّها “انقلابًا عسكريًا”.
ودارت تصريحات القائم بأعمال المرشد في جملة أحاديث في السياق نفسه منذ عام 2020، مع تراجع وجود الإخوان في الشارع المصري بعد الضربات الأمنية المصرية المتلاحقة لأركان التنظيم في القاهرة، وبعد العديد من الحملات العسكرية التي قضت على الوجود التنظيمي لخلايا الإخوان الإرهابية في المحافظات المصرية، وفي المقدمة منها محافظة سيناء، وهو تراجع سار بالتوازي مع إدراج الإدارة الأمريكية تنظيم “سواعد مصر ـ حسم” الجناح العسكري المسلح لجماعة الإخوان على قوائم الإرهاب بتاريخ كانون الثاني (يناير) 2021.
بيد أنّ إدراك أثر التحولات الأخيرة التي ضربت التنظيم يحتاج إلى عودة تاريخية لسبر أغوار بدايات الأزمة وتأجج الخلافات التي قادها النظام الخاص منذ حياة البنا، وصولًا إلى الصدام المعلن بالمرشد الثاني للتنظيم حسن الهضيبي.
المصدر : حفريات