كتب : طاهر شمسان
على صفحته في فيسبوك، نشر الدكتور عبد الله عوبل مقالاً قال إنه للسياسي اليساري المصري الراحل الدكتور رفعت السعيد. عوبل سوَّق هذا المقال تحت عنوان “قراءة مغايرة”، وفي تقديمه له قال: ” وانا اقرأ هذا المقال أحسست انه يقرأ واقع ما قبل الوحدة قراءة دقيقة للحالة السياسية لم نستطع نحن ان نفسر الصراع على السلطة بهذا العمق. ولو أن رفعت السعيد ركن على كلام جماعة السلطة في عدن لما توصل الى هذا التحليل العميق للحالة لسياسية والاجتماعية لطرفي الصراع على السلطة”.
وإني لأجدها مناسبة لنرى إلى أي مدى كان المقال المذكور “قراءة مغايرة” وإلى أي مدى كان تحليلا عميقا ودقيقا وموضوعيا … الخ مما قاله عوبل. وفي البداية ألفت نظر القارئ إلى أن تاريخ نشر المقال هو 18 نوفمبر 2023، بينما رفعت السعيد غادر دنيانا في أغسطس 2017. وهذا دفعني دفعا إلى التنقيب في محرك البحث “جوجل” حيث أخفقتُ تماما في العثور على أية نتائج تشير إلى هذا المقال أو إلى كاتبه. يضاف إلى ذلك أن المقال تضمن أسماء في سياقات قد تبدو مسيئة لأصحابها (صالح مصلح-محسن-راشد ثابت-عنتر-جار الله) ومن المستبعد أن يكون المثقف المعروف والسياسي المتمرس رفعت السعيد هو صاحب المقال خاصة وأن اسم الرئيس علي ناصر ورد في سياق إيجابي بشكل لافت بدا فيه كاتب المقال محازبا له بوضوح على حساب موضوعية الكتابة ودقتها. ومهما يكن من أمر فإن ما يهمنا هو مناقشة معقولية فحوى الكلام الوارد في المقال سواء قال ذلك رفعت السعيد أو قيل على لسانه.
يقول كاتب المقال: التقينا مبارك بعد انتخابه في أكتوبر 1981م. تحدث عن الأوضاع الطازجة في كل بلد عربي وتجاهل اليمن الديمقراطي. انفلت مني سؤال عنها. ضحك مبارك بانطلاق وأكد أنه كان ينتظر مني سؤالا كهذا. وقال (أي مبارك): “كيف تستشعر قناعة هادئة عن اشتراكية هذا البلد وماركسيته وأنت تؤكد أن الماركسية علم؟ وكيف تتخيل أن هذا العلم قد حلَّق فوق العالم العربي بأكمله ولم يجد لنفسه تربة صالحه لنموه إلا في هذا البلد بالذات، حيث يستقر المزاج القبلي والمناخ العام المفتقر للعلم والمعرفة العلمية”؟
أولاً: لا يحتاج القارئ إلى ذكاء استثنائي كي يلاحظ أن الكلام الواقع بين مزدوجين منسوبا إلى مبارك هو في مبناه وفي معناه بعيد عن مبارك بمسافة أيديولوجية كبيرة جدا. وهذا يجعل منه كلاما عديم المصداقية.
ثانيا: وصَفَ كاتب المقال الكلام المنسوب إلى مبارك بأنه “ملاحظة موجعة” موحيا للمتلقي أن مبارك قد قال “الحقيقة” التي لا يستطيع أي يساري موضوعي وصادق مع الذات إلا أن يتقبلها وإلا وقع في محذور العناد والمكابرة.
ثالثا: جاء في كلام كاتب المقال على لسان مبارك أن “الماركسية علم” مستغربا أن يكون هذا العلم قد ترك الوطن العربي بأكمله وأخطأ طريقه إلى اليمن الديمقراطي حيث لا توجد تربة صالحة لنموه. وهنا يجدر بنا أن نسجل الملاحظات التالية التي لا نعتقد أن عوبل سيختلف معنا بشأنها.
(1) القول بأن الماركسية علم هو كلام في الأيديولوجيا وليس في العلم، وهو من هذه الناحية يشبه إلى حد كبير الكلام عن الاعجاز العلمي في القرآن وفي صحيح البخاري.
(2) إن النهج الديمقراطي الثوري على الطريق نحو الاشتراكية في اليمن الديمقراطي كان خيارا سياسيا جاء تحت ضغط الجغرافيا ولم يكن خيارا معرفيا خرج من مختبرات البحث العلمي. ومع ذلك استطاع اليمن الديمقراطي بفضل هذا النهج أن يصمد في مواجهة مخططات الإمبريالية وحلفائها في المنطقة خمسة وعشرين عاما ليذهب في مايو 1990 واحدا موحدا إلى الوحدة مع الجمهورية العربية اليمنية. ففي فترة الكفاح المسلح ضد الاستعمار والسلاطين كان يسار الجبهة القومية يدرك جيدا حجم التحديات التي تنتظر دولة الاستقلال الوطني الناجز في بلد شحيح الموارد طارد للسكان تاريخيا ومحاط بجوار إقليمي تقليدي طارئ لا يقبل بيمن جنوبي موحد، ولا يقبل بغير السلاطين والمستوزرين حكاما لهذا الجنوب. وفي الشمال كانت القوى التقليدية قد سطت على السلطة في 5 نوفمبر 1967 لتمنع ثورة سبتمبر 1962 من التحول إلى دولة، وهذا ما تحقق لها في أحداث أغسطس 1968 وإلى اليوم.
(3) لم يكن النهج الديمقراطي الثوري على طريق الاشتراكية في اليمن الديمقراطي بدعة وإنما جاء في سياق مناخ زمن الحرب الباردة كخيار وطني دونه فشل الثورة وانتصار الثورة المضادة بدعم إقليمي ودولي. وهذه حقيقة أكدتها تجارب حركات التحرر الوطني المناظرة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية بدعم من الاتحاد السوفييتي ودول المنظومة الاشتراكية.
(4) أما قول كاتب المقال منسوبا إلى مبارك بأنَّ “اليمن الديمقراطي تربة غير صالحة لنمو الماركسية كعلم” فهذا أيضا كلام في الأيديولوجيا وليس في العلم. ولكن ألم تنتصر الاشتراكية في بلد غير موات هو روسيا وليس في بلد موات هو بريطانيا كما تنبأ ماركس؟ المعروف أن لينن نظَّر لذلك الانتصار في كتابه “الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية”، وفيما بعد ظهر داخل الحزب الشيوعي السوفييتي من نظَّر لانتصار “الثورة الوطنية الديمقراطية بآفاق اشتراكية” في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية بدعم من الاتحاد السوفييتي ودول المنظومة الاشتراكية. وقد وجد داخل الجبهة القومية من التقط هذا الكلام بحس وطني ثاقب واشتغل عليه منذ وقت مبكر. ولكن بعد الحرب الباردة تبين أن الاشتراكية انتصرت في روسيا ليس بقوة التنظير وإنما بقوة التنظيم، وهذا ما حدث في اليمن الديمقراطي أيضا على يد قادة وطنيين من غير اللائق الانتقاص من أدوارهم وكفاحهم بأثر رجعي. فقادة الثورة في اليمن الديمقراطي كانوا أبناء زمنهم، وبدلا من التطاول عليهم علينا نحن أن نكون أبناء زمننا. وهذا لا يعني أن تجربة الثورة في اليمن الديمقراطية فوق النقد، ولكن النقد الموضوعي المبني على المعرفة وليس على التمنيات والرغبات والأهواء.
(5) يقول كاتب المقال: “كانت انظارنا، نحن الماركسيين العرب، معلقة دوما وبآمال عريضة بالنجم الاحمر المعلق على مدخل البحر الاحمر. وتمركزت أحلام، وربما اوهام كثيرة، حول هذه التجربة الفريدة، والتي تعامل معها صناعها بإخلاص وحماسة”. وهنا من حقنا أن نتساءل: ألم يناقض كاتب المقال بهذا الكلام نفسه؟ ألم يحكم على مقاله بأنه غير ذي قيمة.
(6) لست أدري ما الذي منع الدكتور عوبل من رؤية التحيز الواضح الذي أظهره كاتب المقال للطرف الذي فيه الرئيس علي ناصر في أحداث يناير 1986، وهو ما ظهر لنا على نحو خاص فيما يلي:
(1-6) يقول كاتب المقال إن موقفه قبل أحداث يناير 1986 كان مستقرا على أن أي عنف في تصفية خلاف سياسي جريمة، وأن عجلة العنف والعنف المضاد ستدور لتجتاح كل شي، وأنه حذَّر والح، بل وتوسل للرئيس علي ناصر ألا يفعلها، وأن هذا الأخير أكد أنه لن يفعلها. لكن-والكلام لكاتب المقال “الرصاص تكلم بعد وقت قليل”. هكذا بكل بساطة: الرصاص هو الذي تكلم. لكن كاتب المقال لم يقل لنا كيف تكلم؟ ولماذا تكلم؟ ومن باب الإنصاف حتى الحزب الاشتراكي نفسه يتحاشى المعالجة الأبستمولوجية لهذا السؤال إلى اليوم.
(2-6) يقول كاتب المقال إنه عاد إلى عدن-يقصد بعد فترة من أحداث يناير-ولاحظ أن مواقع كبيرة يمتلك أصحابها حجما أصغر مما هو مفترض، وان الكثيرين يرتدون ثيابا” بالمنصب” أكبر منهم، ومن حجمهم بكثير.
(3-6) يقول كاتب المقال إنه حذر قياديين في الحزب الاشتراكي التقوه في القاهرة من الوحدة المتعجلة مع الشمال. ثم يضيف: “لكنني لم أتوقع أن ينتهي الأمر كما انتهى، لا من حيث السرعة ولا من حيث التكنيك. فلكي يهرب الرفيق من الرفيق المخالف إلى الآخر المختلف تمام الاختلاف كان اللجوء إلى الدعوة للوحدة، او ادعاء الوحدة”. وهنا يجب أن نلاحظ أن الذهاب إلى الوحدة لم يكن لجوءً ولا ادعاءً ولا هروباً وإنما كان لملاقاة التاريخ، والخطأ ليس في الذهاب وإنما في طريقة الذهاب وفي إجراءاته وترتيباته، وبخاصة أن الطرف الآخر في الوحدة كان مفرغاً تماما من أية مدخلات وطنية ترقى إلى مستوى هذا الحدث التاريخي.
(4-6) يقول كاتب المقال: “لكن الغريب أن كلماتي قد نقلت بالنص لعلي عبد الله صالح، ليغضب من تحريضي ضد الوحدة معه”. والسؤال: من الذي نقله؟ الجواب جاهز ومكرور ولا يستحق الذكر لأنه يندرج في إطار المكايدات وليس له صلة بالحقيقة.