كريتر نت – متابعات
مع استشراء العنف في الضفة الغربية وفقدان السلطة الفلسطينية قبضتها الأمنية تبدو أيام الرئيس محمود عباس السياسية على مشارف النهاية، إلا أن ابتعاد أو إسقاط عباس دون وجود بديل ذي مصداقية لإسرائيل والفلسطينيين سيؤسس لمرحلة عنف جديدة.
ومن أجل إعادة استتباب الأمن وتوسيع اتفاقيات أبراهام على الولايات المتحدة وحلفائها اتخاذ خطوات عاجلة لمنع السلطة الفلسطينية من الانهيار، كالعمل على قيام الدول المانحة بالضغط لتعيين رئيس وزراء إصلاحي وزيادة فرص العمل للفلسطينيين الشباب الذين لم يعودوا يرون سبباً للامتناع عن العنف.
ونفذت إسرائيل مؤخراً أكبر عملية عسكرية لها في الضفة الغربية منذ ذروة الانتفاضة الثانية بين عامَي 2002 و2004. وقد أصبحت جنين منذ بعض الوقت، إلى جانب مناطق أخرى في الضفة الغربية، منطقة لا تغامر قوات أمن السلطة الفلسطينية بالدخول إليها. وهذه ليست أخباراً جيدة للسلطة الفلسطينية أو لإسرائيل.
ومع ضعف السلطة الفلسطينية، نشأ فراغ في الضفة الغربية وسارعت إيران وحركتا حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين لملئه بالمال والسلاح والمتفجرات.
ومن غير المرجح أن تُغير العملية العسكرية الإسرائيلية الأخيرة هذا الواقع في الضفة الغربية. فحتى قادة جهاز الأمن الإسرائيلي يعترفون بأن أقصى ما ستؤمّنه هذه العملية هو بضعة أشهر “من الاستقرار النسبي” إذا لم تعد قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية لتأكيد وجودها.
المشكلة الأعمق تكمن في ضعف السلطة الفلسطينية التي تفتقر إلى الشرعية الشعبية لأسباب متعددة
وتكمن المشكلة الأعمق في ضعف السلطة الفلسطينية التي تفتقر إلى الشرعية الشعبية لأسباب متعددة، منها الفساد المستشري، وسوء الحكم، وعدم استعدادها لإجراء انتخابات، ونظامها السياسي المتصلب الذي يمنع ارتقاء قادة محتملين أصغر سناً، وغياب أي رؤية سياسية حقيقية أو إنجازات تجاه الإسرائيليين.
وتزيد العمليات العسكرية الإسرائيلية مثل هذه الأخيرة من ضعف السلطة الفلسطينية، وتبرز عدم أهميتها. وإذا لم تضع السلطة الفلسطينية حداً لتطور البنية التحتية للفصائل المسلحة والهجمات ضد الإسرائيليين، فستواصل إسرائيل شن مثل هذه العمليات العسكرية، مما يزيد من حالة عدم الاستقرار على نطاق واسع وحتى انهيار السلطة الفلسطينية.
وبالإضافة إلى الضرر الذي يسببه هذا الوضع للفلسطينيين والإسرائيليين، من المرجح أن تقوّض هذه الأجواء المتغيرة الهدف الرئيسي الحالي لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في الشرق الأوسط وهو تحقيق انفراجة “دبلوماسية” في العلاقات بين السعودية وإسرائيل.
ولتدارك الوضع، سيتعين على إدارة بايدن رفع مستوى نشاطها الدبلوماسي في الشرق الأوسط. ومن المحتمل أن يتطلب ذلك في بعض الأحيان جهوداً كبرى، وهذا ما يقوم به البيت الأبيض حالياً لتحقيق انفراجة بين السعودية وإسرائيل. إن القيام بذلك هو خطوة محنكة؛ فمن شأن السلام السعودي – الإسرائيلي أن يغير المشهد بشكل أساسي في الشرق الأوسط، ويسمح للدول غير التعديلية في المنطقة التي تحاول أيضاً بناء اقتصادات للقرن الحادي والعشرين تتسم بالنجاح والقدرة على الصمود أن توحد الصف ضد محور إيران الذي يتألف من الدول الفاشلة أو في طريقها إلى الفشل.
وفي المحادثات التي يجريها السعوديون مع إدارة بايدن، لا يركزون في الوقت الحالي على ما قد يطلبونه من الإسرائيليين للفلسطينيين، بل على ما يأملون في الحصول عليه من الولايات المتحدة للمضي قدماً في تحقيق التقدم، ويشمل ذلك التزاما أمنيا رسميا، والحصول على الأسلحة الأكثر تطوراً، وشراكة في تطوير الصناعات النووية المدنية السعودية، واتفاقية للتجارة الحرة.
وقد لا يمثل الفلسطينيون أولوية للسعوديين في الوقت الحالي، ولكن قبل أن تبرم السعودية اتفاقا ستريد شيئاً ما من إسرائيل للفلسطينيين، سواء من أجل تحسين الصورة العامة للمملكة في الداخل أو لضمان حذو بلدان أخرى، مثل إندونيسيا وماليزيا ودول عربية أخرى، حذوها عند توصلها إلى اتفاق مع إسرائيل.
رحيل عباس مطلب شعبي
لكن يجب ألا تكون هناك أوهام، فالوضع المتدهور في الضفة الغربية يمكن أن يهدد التوصل إلى اتفاق بين السعودية وإسرائيل. ففي ظل العنف المتزايد، يشن الفلسطينيون المزيد من الهجمات ضد الإسرائيليين، مما يدفع قوات الأمن الإسرائيلية إلى تنفيذ عمليات مثل تلك التي شُنت في جنين.
وبالطبع، إن التصريحات الاستفزازية عن التوسع الاستيطاني وأعمال الشغب العنيفة التي قام بها المستوطنون المتطرفون في القرى الفلسطينية قد فاقمت الوضع بشكل كبير وجعلت السلطة الفلسطينية تبدو غائبة.
وتشجع عناصر معينة في إسرائيل هذه الإجراءات وتدعمها، ومن بينهم وزراء مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير. إلا أن واقع الهجمات الإرهابية المتزايدة ضد الإسرائيليين وعدم رغبة قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية وعدم قدرتها المتزايدة على فعل أي شيء للتعامل مع البنية التحتية المتنامية للفصائل المسلحة في وسطها تزيد الوضع سوءاً.
وتكمن مشكلة السلطة الفلسطينية التي أنشئت في عام 1994 في افتقارها الأساسي إلى الشرعية. فقد وعدت شعبها بأن الدبلوماسية وجهود التعاون مع إسرائيل من شأنهما أن يؤديا إلى إنهاء الاحتلال وتحسين مستوى معيشتهم. ولكن منذ الانتفاضة الثانية، فقدَ هذا الوعد كل مصداقيته حيث تضاءلت فرص التوصل إلى اتفاق سلام، وطغى الصراع على العلاقات الفلسطينية – الإسرائيلية بدلاً من التعاون. ولا يعود ضعف شرعية السلطة الفلسطينية إلى فشل عملية السلام فحسب، بل يُعزى أيضاً إلى الطريقة المؤسفة التي حكمت بها السلطة والتي أدت بشكل كبير إلى تراجع مكانتها.
ولم تجر السلطة الفلسطينية أي انتخابات منذ عام 2006، وقد دخل حكم الرئيس محمود عباس عامه الثامن عشر من ولاية مدتها أربع سنوات، وانتشرت الفوضى في جميع أنحاء المناطق الفلسطينية. وكان هناك القليل جداً من الضغط المستمر على الرئيس عباس من قبل القادة الأميركيين والأوروبيين – الذين هم المانحون الرئيسيون للفلسطينيين – لتغيير مساره السياسي خوفاً، إلى حد كبير، من البديل.
ومن المؤسف أن إغلاق المجال السياسي ترافق مع سوء الإدارة. فوفقاً لاستطلاع أخير للرأي، يرى حوالي 84 في المئة من الشعب الفلسطيني أن السلطة الفلسطينية فاسدة، ويريد أكثر من 80 في المئة استقالة الرئيس عباس.
إغلاق المجال السياسي وسوء الإدارة يغذي الاجتجاجات
وقد وصل مستوى الشعور بالعزلة لدى الفلسطينيين إلى درجة أن 63 في المئة منهم اعتبروا أن السلطة الفلسطينية تشكل عبئاً على الشعب الفلسطيني. وصحيح أن عناصر قوات الأمن الفلسطينية لا يتلقون رواتبهم بالكامل، ولكن هذا ليس أمراً غير مسبوق. وفي الماضي، وحتى في ظل ظروف اقتصادية سيئة مماثلة، نشطت هذه القوات ضد الفصائل المسلحة وانخرطت في تعاون أمني حافظ نسبياً على استقرار الوضع في الضفة الغربية.
وأما اليوم، فإن الافتقار إلى الشرعية هو ما يمنع هؤلاء العناصر من التصرف. فهم لا يبذلون أي جهد لوقف الذين يخططون الأعمال الإرهابية ويجندون الشباب وينفذون هذه الأعمال ضد الإسرائيليين في جنين ونابلس، أو حتى في المناطق الهادئة عادة مثل أريحا، لأن قوات الأمن تعرف أنها تمثل سلطة فلسطينية تفتقر إلى الشرعية في نظر الشعب.
ومن الضروري وقف الإجراءات الإسرائيلية الاستفزازية، خاصة من المستوطنين الذين يحرقون المنازل والممتلكات في القرى الفلسطينية. فهذه الأعمال ليست إجرامية فحسب، بل تجعل الإسرائيليين أقل أماناً، حيث يتعين على الجيش الإسرائيلي صب تركيزه على منع المستوطنين الذين يأخذون القانون بأيديهم وغيرهم من المتطرفين من تهديد الفلسطينيين في منازلهم وقراهم، بدلاً من منع هجمات “الإرهابيين” وحماية المواطنين الإسرائيليين.
وعلاوة على ذلك، تقلل هذه الهجمات الإسرائيلية من أي مكانة بقيت للسلطة الفلسطينية، حتى في الوقت الذي تدفع فيه هذه الضربات أيضاً إلى الرغبة في الانتقام من الإسرائيليين، وبالطبع توفر الهجمات الانتقامية من جانب واحد مبرراً للرد من الجانب الآخر.
وشهدت السلطة الفلسطينية فترة مماثلة في عام 2007، حين فقدت هي ومنظمة فتح قدراً كبيراً من المصداقية بسبب خسارتهما غزة لصالح حماس، وانتشار الفوضى في جميع أنحاء الضفة الغربية، حيث أصبحت قوات السلطة الفلسطينية جزءاً من المشكلة. ورداً على ذلك، جمعت إدارة جورج بوش الابن الجهات المانحة لمساعدة السلطة الفلسطينية وطلبت من الرئيس عباس تعيين رئيس وزراء موثوق به – سلام فياض في ذلك الوقت – وتمكينه من إجراء إصلاحات ذات مغزى وبناء مؤسسات شفافة وفعالة، وإلّا ستَقطع الولايات المتحدة علاقاتها مع السلطة الفلسطينية.
وبالفعل، عيّن عباس فياض في منصب رئيس الوزراء، وعلى الرغم من أن الجميع توقعوا منه إجراء إصلاحات في الميزانية والتمويل والاقتصاد، إلّا أنه بدأ تركيزه باستعادة الأمن. وقد نجح في ذلك واستمر في منصبه لأكثر من خمس سنوات.
وعلى إدارة بايدن أن تستفيد من تلك التجربة وأن تعالج مسألة الشرعية. وعليها أن تُنسق عملية مفاتحة تقوم بها الجهات المانحة، وهذه المرة ليس مع الأوروبيين فحسب، بل بمشاركة عربية كبيرة أيضاً، تشمل أولئك الذين يمكنهم توفير الموارد، مثل السعوديين والإماراتيين، وكذلك الأردنيين والمصريين الذين تربطهم علاقات مع السلطة الفلسطينية، التي هي مهمة للسلطة. وعلى إدارة بايدن توجيه رسالة متماسكة ومنسَّقة من هذا التحالف إلى الرئيس عباس بعيداً عن الأضواء.
وعليها أيضاً أن تعمل على التوصل إلى تأييد عربي علني لخطوات الرئيس عباس في تعيين رئيس وزراء جديد تُطلَق يده في إصلاحات مؤسساتية مصحوبة بمشاريع بنى تحتية جاهزة للتنفيذ والتمويل الفوريين، وذلك لإحداث تأثير ملموس وآني على حياة الفلسطينيين، يثبت لهم فعالية منهج رئيس الوزراء الجديد.
وفي الوقت نفسه، بإمكان إسرائيل تسهيل المشاريع التي يجب أن تبدأ على الأرض عاجلاً، وخاصة تلك المتعلقة بالبنية التحتية التي يمكن أن توظف الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 17 و26 عاماً.
ويجب على الفلسطيني غير المتزوج أن يبلغ من العمر 27 عاماً قبل أن يستطيع الحصول على تصريح عمل في إسرائيل. أما أولئك الذين تزيد أعمارهم عن 27 عاماً فيميلون إلى تكوين عائلات وعدم الانخراط في القتال.
العمليات العسكرية الإسرائيلية تزيد من ضعف السلطة الفلسطينية مما يزيد من حالة عدم الاستقرار على نطاق واسع وحتى انهيار السلطة الفلسطينية
ويعمل يوميا حوالي 140 ألف فلسطيني في إسرائيل أو في المستوطنات، ولا ينخرطون في عمليات القتال والعنف. وأما الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 17 و26 عاماً، ويحمل الكثيرون منهم شهادات جامعية، فهم يعانون من البطالة ويشعرون بإحباط كبير، وينجذبون إلى أولئك الذين يدعون إلى المقاومة العنيفة ضد الإسرائيليين. لذا، فإن تسريع المشاريع لهذه الفئة يجب أن يحظى بالأولوية، ولا يمكن تنفيذها دون تعاون إسرائيلي.
وبالمثل، بإمكان إسرائيل أن توافق على إعادة النظر في “بروتوكولات باريس بشأن العلاقات الاقتصادية” لعام 1994، والتفاهمات الاقتصادية التي شكلت اتحاداً جمركياً بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية المستقبلية. ومن شأن تعديل هذه البروتوكولات أن يحدث فرقاً ملحوظاً في الشؤون المالية للسلطة الفلسطينية لأن الاتفاقات قديمة وتحرمها من الحصول على إيرادات كبيرة.
وستُحدِث إعادة النظر فيها اختلافاً ملحوظاً في الشؤون المالية للسلطة الفلسطينية، وهو أمر يمكن السلطة التي تتبع مسار الإصلاح من استخدام هذه التمويلات. وعلى إسرائيل أيضاً وقف الإعلانات عن تصاريح استيطانية جديدة والامتناع عن إضفاء الشرعية على البؤر الاستيطانية غير المصرح بها، وكذلك منع أعمال الشغب العنيفة ومعاقبة المسؤولين عنها، والعزوف عن إعادة البناء والتوطين في مستوطنة “حومش” التي فككها رئيس الوزراء السابق أرييل شارون في إطار التزام تجاه الولايات المتحدة.
ومن شأن مثل هذه الخطوات، التي قد تثبت أن السلطة الفلسطينية تفي بوعودها، أن تبني سلطة رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد وتمنحه ثقلاً سياسياً ومصداقية جديدين يُمكّنانه من تحفيز قوات الأمن على التصرف، لأن هذه القوات ستعمل لصالح سلطة فلسطينية تستحق النمو والحماية.
ولن يحدث أي من هذا من تلقاء نفسه، بل سيتطلب الأمر جهداً دبلوماسياً مكثفاً يجمع الدول العربية الرئيسية ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وهو جهد مرتبط بتعزيز الأجواء التي ستجعل من السهل تحقيق انفراجة “دبلوماسية” مع السعوديين. إلّا أن ذلك سيتطلب من نتنياهو أن يثبت بأنه يفي بوعده لبايدن الذي ينطوي على تسيير قيادته لسياسات إسرائيل وليس للمتطرفين في ائتلافه (بمعنى آخر، إثبات أن نتنياهو يقود السيارة ولا يستخدم المكابح فحسب).
ومن غير المرجح أن تنجح الجهود الرامية إلى إبرام اتفاق إسرائيلي سعودي في ظل انهيار السلطة الفلسطينية. ولم يفت الأوان بعد، ولكن الوقت تأخر جداً.
المصدر معهد واشنطن