كريتر نت – متابعات
تتحرك طهران على أكثر من صعيد لتثبت نفسها عنصرا إستراتيجيا في أغلب الملفات الآسيوية، ومنها ملف النقل حيث تحاول استعادة توازن القوى في جنوب القوقاز من خلال ربطه بالمحيط الهندي، مركزة على التعاون الاقتصادي الناعم الذي سيعزز مصالحها لكنه يهدد التوازن الجيوسياسي في المنطقة، ويرى البعض أنه يمكن أن يمهد لتعاون عسكري على المدى البعيد.
وعُقدت في يريفان أول مشاورة سياسية ثلاثية بين نواب وزراء خارجية إيران والهند وأرمينيا في أبريل الماضي. وركزت الأطراف المتحاورة على “القضايا الاقتصادية وقنوات الاتصال الإقليمية”، واتفقت على مواصلة المشاورات بالصيغة الثلاثية.
ويقول المحلل فالي كاليجي في تقرير لمؤسسة عرب دايجست الاستشارية “إن لتشكيل هذا الثلاثي تداعيات إستراتيجية رئيسية يمكن أن تخلخل التوازن الجيوسياسي في جنوب القوقاز”.
أولا، يمكن اعتبار تزايد التعاون بين إيران وأرمينيا والهند جزءا من جهود طهران لاستعادة توازن القوى في جنوب القوقاز بعد حرب ناغورني قره باغ الثانية. ويتناقض هذا التكتل مع التعاون الثلاثي بين باكستان وتركيا وأذربيجان، الذي كانت مناورات “الإخوة الثلاثة” العسكرية في سبتمبر 2021 من أكثر تجلياته أهمية.
لكن لا يرجح كاليجي، وهو خبير في قضايا آسيا الوسطى والقوقاز، أن يمتد نطاق التعاون الإيراني – الأرمني – الهندي في المستقبل القريب من المصالح الاقتصادية والتجارية والنقل إلى المجال العسكري. ويبدو أن طبيعة هذا التعاون الثلاثي الخاص ستركز على “التوازن الناعم” (الاقتصادي) مقابل العلاقات الثلاثية لأذربيجان وتركيا وباكستان في جنوب القوقاز، بدلا من “التوازن الصعب” (الأمن العسكري).
ثانيا، تشترك أذربيجان وأرمينيا في مشاريع ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب وممر العبور بين الخليج والبحر الأسود، لكن التوترات بين باكو ويريفان تجعل أذربيجان أكثر نشاطا في الممر الأول، بينما تلعب أرمينيا دورا أكبر في الممر الثاني. كما تخطط أرمينيا والهند لتوسيع حضورهما في الممرين إثر التغييرات في ميزان القوى في جنوب القوقاز بسبب حرب ناغورني قره باغ الثانية وشن روسيا حربا على أوكرانيا.
وتحاول إيران في هذه الأوضاع إبراز الاحتياجات والمقاربات المشتركة بين أرمينيا والهند فيما يتعلق بممر الخليج والبحر الأسود، بالتوازي مع تطوير طرق العبور والتجارة على طول ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب. ووقع الاختيار على طهران لتكون “الوصي على الاتفاقية” المسؤولة عن تنسيق المطالب ووضع اللمسات الأخيرة على الوثائق بين برلمانات الدول الخمس الأخرى المشاركة في ممر الخليج العربي والبحر الأسود (أرمينيا وأذربيجان وجورجيا وبلغاريا واليونان).
ولعبت إيران دورا مركزيا في إنشاء طرق عبور إلى منطقة البحر الأسود منذ 2016. ونتيجة لذلك تأمل في إنشاء “توازن عبور” في جنوب القوقاز كجزء من “نهج السياسة الخارجية المتوازن”، باعتماد ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب وممر الخليج والبحر الأسود لتعزيز نفوذها في المنطقة.
ثالثا، يمثل ميناء تشابهار، الواقع في جنوب شرق إيران في محافظة سيستان وبلوشستان، جسرا للنقل والتجارة بين إيران والهند وأرمينيا. ويتمتع بأهمية كبيرة لكونه الميناء الإيراني الوحيد ذا المنفذ المباشر إلى المحيط الهندي. كما أعفت الجهود الناجحة التي بذلها الهنود مشروع تشابهار من العقوبات الأميركية أحادية الجانب، وذلك في إطار الاتفاقية الثلاثية التي وقعتها نيودلهي مع إيران وأفغانستان في 24 مايو 2016. ويُذكر أن أوزبكستان انضمت إلى هذا الاتفاق مؤخرا.
قرار موسكو الأخير الذي يقضي بفتح قنصلية في كابان قد يشير إلى خطوة نحو إعادة تعاون روسيا مع جنوب القوقاز
كما أبدت أرمينيا اهتماما أكبر بمشروع الميناء الإيراني ضمن تطوير طرق العبور والتجارة مع الهند، وذلك بالتوازي مع مشاركة روسيا والصين في مشروع ميناء تشابهار، بما في ذلك الاستثمارات في كل من ميناءي شهيد بهشتي وشهيد كالانتاري في منطقة تشابهار الحرة التي نمت منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا. وأنشأ رئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان في هذا الإطار “فرقة عمل مشتركة بين الوكالات بهدف إنشاء طريق جديد لنقل البضائع الدولية ولتصبح من المشغلين في ميناء تشابهار الإيراني”.
رابعا، يقول المحلل كاليجي إنه يمكن اعتبار عرقلة تطوير ممر عبر يريفان جزءا من جهود طهران التي تهدف إلى تعزيز وجودها في مقاطعة سيونيك بجنوب أرمينيا التي تشترك في الحدود معها.
ويُذكر أن الممر هو ممر زانجيزور الذي يمكن أن يعيق التدخل الإيراني في حركة العبور الإقليمية. وقررت إيران في الأثناء فتح قنصلية في بلدة كابان الأرمنية بالتوازي مع إجراء تمرينين عسكريين كبيرين، “فتحان خيبر” في أكتوبر 2021 و”إغتدار” في أكتوبر 2022.
كما أعلنت طهران في 25 مايو الماضي عن إنشاء منطقة تجارة حرة مشتركة بين أراس (إيران) ومغري (في مقاطعة سيونيك). لذلك سيختلف تعميق علاقات العبور والتجارة بين الهند وإيران وأرمينيا عن مشروع ممر زانجيزور بالتركيز على تطوير ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب وممر الخليج والبحر الأسود، حيث سيمر كلاهما عبر مقاطعة سيونيك. ولا تؤيد روسيا إضعاف أرمينيا وخلخلة موازين القوى لصالح أذربيجان وتركيا ولا تشارك طهران مخاوفها بشأن ممر زانجيزور.
وقد يشير قرار موسكو الأخير الذي يقضي بفتح قنصلية في كابان إلى خطوة نحو إعادة تعاون روسيا مع جنوب القوقاز.
عرقلة تطوير ممر عبر يريفان جزء من جهود طهران التي تهدف إلى تعزيز وجودها في مقاطعة سيونيك بجنوب أرمينيا
خامسا، تتمتع الطرق البرية الإيرانية – الأذرية – الروسية داخل ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب ببنية تحتية عالية الجودة مقارنة بطرق أرمينيا. وتعتبر البنية التحتية غير الملائمة للنقل في يريفان والطريق السريع بين الشمال والجنوب غير المكتمل من العراقيل الرئيسية. ويمر الطريق البالغ طوله 400 كيلومتر من يريفان إلى مغري على الحدود الإيرانية عبر مناطق جبلية ويبقى ضيقا للغاية، مما يصعّب مرور الشاحنات ويعطله، خاصة خلال فصل الشتاء. كما خفض غياب خط سكة حديد بين إيران وأرمينيا من حجم البضائع المنقولة على طول هذا الجزء من الممر وسرعة العمليات التجارية.
لذلك سيبقى الممر الذي يمر عبر إيران وأذربيجان وروسيا (أستارا – باكو – داغستان) المسار الرئيسي لمشروع ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب في المستقبل المنظور. وتعبر في الوقت الحالي شاحنة في المتوسط الحدود المشتركة بين إيران وأذربيجان كل سبع دقائق. ومع ذلك، من المرجح أن تحاول إيران نقل جزء على الأقل من هذه الحركة إلى الطريق البري الأرمني – الجورجي والطريق الإيراني – الروسي في بحر قزوين.
سادسا وأخيرا، بينما ساعدت مشاركة الهند المتزايدة في ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب على تعزيز دور البلاد في ثلاثة مسارات رئيسية لهذا الممر (الطريق الغربي بين روسيا وأذربيجان وإيران والهند، والطريق عبر بحر قزوين بين روسيا وإيران والهند، والطريق الشرقي بين روسيا وآسيا الوسطى وإيران والهند)، سيؤدي استخدام نيودلهي المتزايد للطريق بين إيران وأرمينيا وممر الخليج والبحر الأسود إلى رفع دور ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب في منطقة جنوب القوقاز والبحر الأسود التي خطا فيها منافساها (الصين وباكستان) خطوات مهمة لتعزيز مكانتهما خلال السنوات الأخيرة.