يمينة حمدي
من شمال الكرة الأرضية إلى جنوبها، يكاد لا يوجد شخص لا يحب الأشياء التي تمنح له مجانا، وبعض الأشياء المجانية قد تدفعه إلى أن يغير الطريقة التي ينظر بها إلى من حوله، ويمكن أيضا أن تجعله يغير أفكاره وآراءه السياسية.
ونظرا لأن الناس في أيّ دولة من دول العالم يأتون من نفس النوع البشري، فإنه من غير المستبعد أن يكونوا حاملين لجين “الطمع”، الذي يؤثر عليهم بدرجات متفاوتة، وقد يدفعهم إلى الركض وراء الأشياء المجانية التي يتنازل عنها غيرهم بلا اهتمام، ويكون عليهم أخذها وإعطاؤها قيمة.
ليس اعتباطيا أن يقول التونسيون “ما أحلاه بُوبلاش” (ما أجمل الشيء المجاني) وهناك مرادفات كثيرة لهذه المقولة مثل “الخل البلاش أحلى من العسل”، وكذلك “اللي يأكل بوبلاش ما يشبع”، وغيرها من الأمثال التي تلخص قوة تأثير “مغناطيس بوبلاش” على المجتمعات العربية.
الكثيرون يجدون تحديا حقيقيا في ممارسة ضبط النفس أمام إغراء “بوبلاش”، وإضاعة فرصة الحصول على ذلك الشيء، وقد ينقلهم هذا الأمر إلى “وضع تنافسي” يجعلهم عاجزين عن السيطرة على أنفسهم، ويتدافعون للحصول على ذلك الشيء المجاني الذي قد يحصل عليه أشخاص آخرون قبلهم، وأحيانا يرغب البعض منهم في الحصول على المزيد والمزيد.
عندما يتلقى البعض شيئا مجانا، حتى وإن كان كأسا من العصير أو فنجانا من القهوة أو قطعة من الحلوى تمضي مشاعرهم بلا سيطرة، وتصبح أساريرهم متهللة. وهذا الشيء قد يتبعه نوع من الإثارة الفسيولوجية والشعور بالمتعة اللحظية، والأمر الرئيسي هنا هو تلك الرغبة في الحصول على المزيد من ذلك الشيء المعروض مجانا، والتي تشبه عملية البحث عن الكنز نوعا ما. لذلك فالعبارة التقليدية القائلة “الطمع كماء البحر، زد منه شربا تزدد عطشا” تعتبر صحيحة للغاية.
منظر الطوابير الطويلة للأشخاص الذين يتزاحمون ويتشابكون بالأيدي في عدة مجتمعات عربية من أجل الحصول على بعض المواد الغذائية التي توزع عليهم مجانا، يعكس وجها آخر لـ”بوبلاش” يتخطى سلوك الأفراد ليعكس طبيعة المجتمعات التي يعيشون فيها، وإستراتيجيات الحكومات للتأثير عليهم وسلبهم إرادتهم، وتوجيه سلوكياتهم ومواقفهم السياسية.
لنضرب مثلا عن الإغراءات التي يقدمها السياسيون سواء بالعطايا المجانية أو بالوعود وتبنيهم خطابات تولي “بوبلاش” الأهمية الأكبر، وأستحضر هنا كيف تعهد راشد الغنوشي رئيس حركة “النهضة” في مايو 2018 بإتاحة خدمة الإنترنت المجاني (واي فاي) في الحدائق والأماكن العامة التابعة للبلديات التي ستفوز فيها حركته بالانتخابات البلدية، وحاله كحال الكثير من السياسيين، الذين يبيعون الآمال والأحلام، والتي يتجسد معظمها في “بوبلاش”. الأمر الذي يجعل الناس يذهبون إلى صناديق الاقتراع عن طيب خاطر للحصول على “بوبلاش”.
بصورة عامة، يغير “بوبلاش” حالة الوعي لدينا، وذلك عن طريق تشتيت انتباهنا عن مشاكلنا، وبالتالي يغير أيضا الطريقة التي نتعاطى بها مع قضايا بلداننا. وغالبا، ما يؤدي ذلك إلى تبعات سلبية على مجتمعات بأكملها.
في نهاية المطاف، بغض النظر عن سبب حب الناس لـ”بوبلاش” وما إذا كان ذلك يرجع إلى نوايا حسنة أو جراء أوضاعهم الاجتماعية الصعبة والكوارث التي تنزل عليهم وتحول دون توفير قوتهم اليومي، فإن هذا السلوك يثبت صحة مقولة الفيلسوف سقراط “الطمع وحب المزيد من الترف هي العوامل التي تدفع بعض الناس للتعدي على الجيران وأخذ ممتلكاتهم، أو التزاحم على الأرض وثرواتها وكل ذلك سيؤدي إلى الحروب…”.
نقلاً عن العرب اللندنية