إبراهيم الزبيدي
في الجزء الثاني من هذه الشهادة المطولة والأخيرة عن صدام حسين كما عرفته، رويت لكم جزءا من حياته في بغداد وحياته كشاب يوقع نفسه في المشكلات والقضايا الخطيرة بسهولة، لكن اليوم سنقف عند شخصيته العنيفة المتهورة وعند محطة مهمة في تاريخ صدام وهي بداية علاقته بحزب البعث ومشاركته في عملية اغتيال رئيس الوزراء العراقي عبدالكريم قاسم.
وفي أحد أيام صيف 1957 أرادت ليلى طلفاح (خالة صدام) أن تجعل باحة المنزل الصغيرة إسمنتية لتتخلص من التراب والغبار ولتبدو دارها أكثر فخامة. فطلبت من صدام وعدنان ومنّي أن نقوم بمهمة تعبيد الباحة بالإسمنت.
تولى الصغير دحام تدبير كيسين من الإسمنت تمكن من سرقتهما بسهولة. فقد اختارت شركة “زبلن” الألمانية التي كانت تقوم بشق الطريق العام بين بغداد والموصل وتعبيده، مدينةَ تكريت لتكون محطة وسطية لها بين بغداد والموصل وأقامت لمعداتها وجميع لوازم العمل مستودعات ضخمة في ضواحي المدينة. واختارت واحدا من أهل العوجا ليكون حاميها وحراميها في الوقت نفسه.
صادف في تلك الفترة أن قدم من الموصل صائغ اسمه محمد، واتخذ من دكان صغير مواجه لمنزل ليلى طلفاح معرضا ومعملا لتصليح الذهب وصياغته. أعطته ليلى قطعة من الذهب مع بعض المال لصياغة قطعة مختلفة. لكن محمد الصائغ لم يف بوعده.. ظل يماطلها أشهرا، ولا يعيد إليها قطعتها القديمة ولا الجديدة حتى طفح بها الكيل. بعد أن انتهينا من تعبيد باحة المنزل نادتني إلى داخل الغرفة، وبهمس، لئلا يسمع صدام، أخبرتني بالحكاية وكلفتني بالذهاب إلى الصائغ والتفاهم معه ومنحه مهلة ثلاثة أيام قبل أن تلجأ إلى القوة. أدرك صدام أن في الأمر سرّا لا تريده خالته أن يعرفه. وحين خرجت لحق بي وحاول استدراجي لأخبره بالحقيقة. فأخبرته، لكنني رجوته أن يمنحني الفرصة لحل الموضوع سلميا، فإن عجزت فله أن يتدخل على طريقته. وافق على الشرط وواصلت سيري وهو إلى جانبي. وما إن وصلنا باب الدكان حتى غافلني واندفع بسرعة البرق إلى الداخل وأغلق الباب وراءه. فلم أسمع سوى صراخ محمد وتوسلاته، مناديا أهل الغيرة، صائحا: الحقوني، سيقتلني. ولم تمض دقائق حتى خرج صدام وبيده حفنة من الذهب.
صدام يخسر أولى معاركه
يتذكر التكارتة أن القبّ (ويلفظ بالجيم المصرية) الواسع والطويل على نهر دجلة والذي جعله الله بالمصادفة برا من الحصى المتنوع، بجميع الأحجام والأوزان والألوان والأشكال، على امتداد أكثر من كيلومتر، يزدحم كل صيف بالمتفرجين المشجعين، رجالا ونساء، صغارا وكبارا، وهم يشاهدون حروب “داحس وغبراء” تكريتية بين جيشين من الأولاد الغزاة المسلحين بأنواع وأحجام وألوان مختلفة من المقلاع (المحجال) الذي توضع في طاسته حصاة واحدة أو أكثر منتقاة بعناية وبخبرة فائقتين، يُفضل منها الذي ما إن يسقط على الهدف حتى يتكسر ويصبح مئات من الشظايا المتناثرة التي تصيب “العدو” في أكثر من جزء من جسده. والمقاتل الماهر هو الذي يجعل قنابله “الحصوية” تسقط في المكان المحدد لها أمام العدو أو خلفه أو إلى جانبه. وكان المقاتلون يُعدون مقاليعهم بعناية وفن قبل وقت كافٍ من بدء القتال. وكان البعض منهم، وخاصة قادة الجيشين، يفاخرون بمتانة المقلاع وبطوله وضخامة “طاسته” التي تحمل ما يعجز الآخرون على حشره فيها.
الجيش الأول هو جيش أبناء قرية العوجا، والجيش المقابل هو الجيش الذي تآلف فيه التكارتة من أبناء البو خشمان والحديثيين والشيايشة.
ولم تكن المواجهات بين هذين الجيشين مقتصرة فقط على الأولاد، بل إن الآباء والأمهات والإخوة الكبار كانوا يتجمعون، غالبا، في مناطق آمنة ولكن مشرفة على ساحة القتال، وينخرطون في العصبيات المريرة التي تتطور أحيانا لتصبح اشتباكات دامية بالأيدي والأرجل، وأحيانا أخرى بالسكاكين وبالمكاوير (عصي في رؤوسها كتل من القار الصلب)، تحزبا لهذا الجيش أو لذاك.
لا أحد كان يعرف سر تلك الحروب وأهدافها ودوافعها. وعادة ما كان يقود الجيشين أصلبُ المقاتلين وأشدهم قسوة وأكثرهم عنادا واندفاعا ودهاء، وحماقة أيضا.
كان جيش أهل العوجا يتمترس شمال شاطئ دجلة، من ناحية حي الحارّة (الساخنة) لحماية ظهره بمنازل الأهل والأقارب المطلة على شاطئ دجلة من أعلى جبل جعله الله وكأن أحدا قطع سفحه بسكين، في حين يتموضع الجيش المقابل في الفسحة الواقعة ناحية جهة “القلعة” التي يسكنها التكارتة، والتي لا يجرؤ أحد من أهل العوجا على السكن فيها، كرها أو خوفا من الغربة القاتلة. وكثيرا ما كانت تسبق مواجهات النهار مؤامراتٌ واستحكامات وتحالفات سرية تجري تحت جنح الظلام، استعدادا لكسر العدوّ، وإيقاع الهزيمة الحاسمة به، وإخراجه من ساحة المعركة أياما وأسابيع.
عام 1963 صدام كان يشكو من معاملة القيادة القطرية له ويعلن عداءه للقيادة الجديدة ونقمته عليها
ذات صيف، آلت قيادة جيش التكارتة إلى خالد فارس الخشماني، وهو أحد أبناء زعماء البو خشمان، فيما آلت قيادة جيش أهل العوجا إلى صدام حسين، يساعده واحد من أبناء عمومته، هو هزاع فيزي الهزاع.
لجأ قائد التكارتة إلى الخديعة. فقد اختبأ خلف خطوط العدو، مبكرا ومن الليلة السابقة، فوزع عددا من أفضل مقاتليه على خرائب منتشرة في حي الحارة نفسه، ومطلة من أعلى الجبل على ساحة المعركة، بعدما أخذوا معهم ما يحتاجون إليه من أكل وشرب.
وحين ابتدأ النزال في اليوم التالي شاهد القائد صدام حسين جيش عدوه قليل العدد والعدة، ومُبعثر الصفوف وقد غاب عنه أفضل مقاتليه الأشاوس، فطمع، وظن أن الحظ قد ابتسم له أخيرا وأصبح في إمكانه أن يُنزل بجيش عدوه ضربته القاضية.
لكن مساعده الأكثر واقعية، هزاع فيزي الهزاع، شك في الأمر وتوقع أن تكون في الأمر خدعة، وحذر رئيسه من الانجرار إلى الوهم، ونصحه بعدم تجاوز الخط الأحمر المتمثل في سور حديقة مقهى حسن الفرحان الذي كان من يتجاوزه إنما يدخل عش الدبابير ويُعد مارقا يستحق العقاب لا على أيدي الأولاد وحسب بل الآباء كذلك. لكن القائد غلبته أطماعه وأوهامه، فلم ينتصح، وسخر من مساعده واعتبر نصائحه نوعا من الجبن وعدم النضوج، فاندفع وراء عدوه فدحره بسهولة وتابعه بحماس، لكنه لم يكد يصل إلى الخط الأحمر، وهو سور حديقة مقهى العم حسن الفرحان، حتى حدث ما لم يكن يخطر على بال. فقد هبط على جيشه من الخلف جيش آخر من أشد المقاتلين التكارتة وأعتاهم وأكثرهم اندفاعا وبسالة. في تلك اللحظة ذاتها استدار جيش التكارتة، وقد تراجع عن خبث وتكتيك، وهجم على جيش العوجة ليشكل الفك الآخر من الكماشة التي أحاطت بجيش صدام من خلفه ومن أمامه، فتُنزل به هزيمة مدوية ظلت مقاهي تكريت ومنازلهم تتحدث عنها أسابيع، تقرر على إثرها خلع القائد المهزوم، وتنصيب مساعده هزاع فيزي الهزاع قائدا جديدا لجيش أهل العوجة الجديد.
لم يكن إبراهيم الحسن يحب صدام، نعم، ولكن مسألة ضربه بالعصا مشكوك فيها.
خيرالله طلفاح لم يكن، كما يشاع، يولي صدام الحب والاحترام، بل كان يسخر منه دائما أمامنا، وحين كنا نعود من المدرسة كان يضحك ويسأله ساخرا: هل مطّيت رجليك اليوم؟ ومرة قال لعدنان ولصدام، “تظلون زمايل واللي يصير براسه خير هو إبراهيم” لأني كنت أتردد على المكتبة العامة وأخبره بما قرأت.
تغيرت معاملة خيرالله لصدام بعد اغتيال الحاج سعدون الناصري وكنت الوحيد تقريبا من التكارتة على حد علمي الذي كان يأخذ لهم ملابس نظيفة وبعض الطعام من تكريت إلى الموقف العام في القشلة وكان يتوسط لي لزيارتهم ضابط شرطة مدير شرطة بغداد نعمان عبداللطيف الصميدعي، وكنت ألمس تغير أسلوب خيرالله في معاملة صدام.
نعمان الصميدعي
في أعقاب اغتيال الحاج سعدون الناصري، تم اعتقال خيرالله وصدام وعدنان ولطيف طلفاح، وكانت ليلى طلفاح تكلفني بنقل ملابس نظيفة والعودة بالملابس المتسخة في رحلات شاقة بالقطار، وكان الذي توسط لي واستحصل لي موافقة على دخولي موقف السراي ضابط الشرطة التكريتي نعمان عبد اللطيف الصميدعي الذي أصبح مدير شرطة بغداد بعد ذلك.
وفي الأشهر الأولى التي أعقبت نجاح أهل العوجا في اقتناص الحكم، دخلت على مدير مكتب الحاج خيرالله طلفاح، محافظ بغداد، فهبّ على الفور رجل نعمان عبداللطيف الصميدعي، نفسه، ليصافحني ويطلب مساعدتي في التوسط له بمقابلة الحاج لأمر هام جدا.
عام 1959 انتمى صدام حسين إلى حزب البعث، لكنه سرعان ما شارك في أخطر عملية يقدم عليها الحزب عام 1960
كان نعمان – حسب علمي – مديرا لشرطة العاصمة، وله أخ آخر اسمه عبدالموجود يعمل مديرا لشرطة النجدة، وأخ ثالث اسمه عبدالمالك يعمل بائع قماش في تكريت. كان الإخوة الثلاثة، أبناء الحاج عبداللطيف الصميدعي من أشراف التكارتة وأطيبهم وأكثرهم تقوى ومخافة من الله. لم يسمع عنهم التكارتة إلا الخير والذكر الحسن.
أخبرني نعمان، على عجل وباختصار، أنه وأخاه عبدالموجود طردا من الخدمة فجأة دون أيّ أسباب. وبعد مدة علما بأن الطرد جاء بأمر من الحاج خيرالله طلفاح نفسه. لذا جاء ليقابله ويلتمس منه العدل، رحمة بأسرتيهما. وعلمت أن الدافع إلى قرار الطرد هو أن بلدية تكريت فرزت قبل انقلاب 17 – 30 يوليو مجموعة من قطع الأراضي السكنية في شمال المدينة، لإنشاء حي جديد، وأعلنت عن بيع تلك القطع. فبيعت كلها ما عدا واحدة حجزها صدام حسين دون أن يدفع ثمنها وينجز الإجراءات الرسمية اللازمة لتسجيلها، حسب ما كان متعارفا عليه. ثم اختفى نهائيا ولا أحد يعرف شيئا عن مصيره. فعادت بلدية تكريت وأعلنت من جديد عن رغبتها في بيع القطعة المتبقية. ويشاء الحظ العاثر أن يذهب الأخ الثالث عبدالملك ويشتري قطعة الأرض (المشؤومة) من البلدية.
دخلت على الحاج وأخبرته بأن نعمان ينتظر السماح بلقائه منذ ثلاث ساعات. فقال: أعلم، وأنا الذي طلبت من مدير مكتبي أن يتركه “مركونا” إلى أن أطلبه. وحين رجوته بالسماح له بالدخول أمر بإدخاله، وكنت أظن أنه سيستمع إليه ويفهم الحكاية فيأمر بإلغاء قرار الطرد. لكنه فور دخوله انهال عليه بالإهانات من كل نوع ومن كل وزن، زاعما أنهم من أراذل أهالي تكريت وجبنائها، طالبا منّي أن أشهد وأن أؤيد شتائمه، وأنا العارف تماما أنه يفتري.
تماسك نعمان، وراح يقص على الحاج حكاية الأرض، وهو واقف، لم يسمح له بالجلوس. قال له: يا حاج، إن قطعة الأرض التي اشتراها أخي لم تكن ملكا لأحد، ولم يكن معروفا من الذي حجزها أو أراد شراءها. ثم إن البلدية أعلنت عن الرغبة في بيعها فاشتراها أخي. هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى فإنني وأخي عبدالموجود نعمل ونقيم في بغداد ولا نعلم بما يفعله أخونا في تكريت. فلماذا لا تذهبون وتسترجعون منه الأرض وتتركونا مع أسرنا نعيش في سلام، أو على الأقل أحيلونا على التقاعد لنحصل على راتب تقاعدي نستطيع به أن نعيل أولادنا.
لم تنفع المرافعة، بل زادت شتائم الحاج وسخريته الجارحة. فما كان من نعمان إلا أن تعوذ بالله من الشيطان ولاذ بالصمت وخرج مكسور الخاطر، وأنا ساكت لا أدري ماذا أفعل.
علاقته بحزب البعث
صدام لم يكن يفكر بالانتماء إلى حزب البعث قبل عام 1959. فقد كان لغاية عام 1958 يضيق بنا، نبيل نجم وعدنان خيرالله ونزار الناصري وأنا، حين نتحدث عن الحزب والسياسة وهمومها. وأستطيع أيضا أن أحدد بدقة تاريخ دخوله إليه في أوائل عام 1959 وهو ابن الثالثة والعشرين، نصيرا متدربا ثم كُلّف، حتى قبل أن يصل إلى درجة نصير، بأن يشارك في أخطر عملية مصيرية يقدم عليها الحزب، وهي محاولة اغتيال الحاكم الأوحد عبدالكريم قاسم. وعملية خطيرة من هذا النوع تفترض السرية الكاملة، وأن يكون القائمون بها على درجة عالية جدا من الثقة بالحزب، ومن ثقة الحزب بهم كذلك.
وفجأة وجد “النصير المتدرب” صدام حسين نفسه بين أعضاء أعلى قيادةٍ حزبية، يجالسهم، يأكل معهم، يقتسم معهم شقة صغيرة، فيسمعهم ويراهم ويتأملهم عن قرب، وقد تحلل الواحد منهم من قناع القيادة وتبسط وتصرف بتلقائية، فظهرت عيوبه الإنسانية، خصوصا حين يكون يافعا لم يتجاوز العشرينات إلا بقليل.
في تلك الأيام القليلة، وفي الأيام التي تلت فَشَل خطة الاغتيال والهرب إلى سوريا والإقامة فيها في شقق حزبية مع القياديين أنفسهم الذين عاش معهم أيام التحضير للعملية، ومع قياديين آخرين هربوا خوفا من العقاب، كان طبيعيا أن يطلع صدام على خلافات هؤلاء وصراعاتهم. هنا أدرك هشاشة أغلب أولئك القادة وانحراف أخلاق بعضهم وجبن بعضهم الآخر.
لكنه أدرك أهمية هذه الرفقة، باعتبارها الفرصة الذهبية الوحيدة التي تنعش إيمانه بقيمته وأهميته وبخطأ خاله خيرالله طلفاح الذي اعتبره فاشلا لا يصلح لشيء أكثر من الخدمة في منزل الخال، ورعاية النساء في غيابه. لقد حسبها صدام بوضوح: ماذا لو تمكّن حزب البعث من أن يقتنص السلطة في العراق؟ إنه بكل تأكيد سيحصل على مركز مرموق في الدولة. وما ضاعف في خياله الأمل هو أن أعضاء القيادة أصبحوا رفاقه وأصحابه، سيحكمون العراق ذات يوم، الأمر الذي يضمن له مقعدا في الحكومة، وهو أقصى ما يحلم به، بعد أن ترك دراسته ويئس من الحصول على الوظيفة بالطرق الاعتيادية المألوفة.
وفي عام 1963، تمكن أعضاء القيادة القطرية الجديدة من اقتناص السلطة. وكان المؤتمر القطري الذي تمخضت عنه هذه القيادة قد أدان عملية الاغتيال في أغسطس 1960، واعتبرها خرقا لعقيدة الحزب. فلم يجد صدام، العائد من القاهرة في آذار1963، التعويض الذي كان يحلم به من الرفاق الذين يعتبرهم أدنى منه شجاعة، وأقل أحقية في تبوّؤ المراكز المهمة في الحزب والسلطة. فقد أهملوه وأهملوا معه رفيقه أحمد طه العزوز، إذ تم تعيينهما عضوين في المكتب الفلاحي التابع للحزب، في شقة صغيرة ضيقة في مبنى بسيط مقابل مبنى الإذاعة. وهي وظيفة تافهة وهامشية إلى أقصى حد. وكان صدام يشكو من ذلك ويعلن عداءه للقيادة الجديدة ونقمته عليها.
* يتبع في الجزء الرابع: انقلاب يوليو واقتراب صدام حسين من كرسي الحكم
نقلاً عن العرب اللندنية