إبراهيم الزبيدي
لأن صدام حسين واحد من أكثر الحكام العرب الذين صيغت حولهم القصص والحكايات، الكثير منها زيف وافتراء، ولأنني عرفته عن قرب ورأيت تحولاته الشخصية من طفل إلى شاب طموح إلى قائد شديد، قررت أن أكتب شهادتي عنه في الذكرى العشرين لسقوط نظامه.
ما يحدث دائما لأي حاكم استثنائي في أي دولة من دول العالم وفي أي مرحلة من مراحل التاريخ حدث لصدام حسين. فقد كُتبت، وسوف تظل تكتب، عنه وعن سيرته السابقة واللاحقة أطنان من الدراسات والمقالات والشهادات، ولكنّ كثيرا منها صحيح وكثيرا منها، أيضا، ملفّق ومؤسّس، مُسبقا، ومدسوس بدوافع ثأرية، أو لأهداف حزبية أو طائفية أو عنصرية مختلفة.
نعم، إن صدام حسين استثنائي، ومن نوع فريد. فمن آخر الصفوف، ومن بيئة اليتم والفقر والإهمال والضياع أجاد الصعود إلى حيث يحكم دولة بحجم العراق، وفي أغنى مراحل تاريخها، مالا وشعبا وثروة.
بعبقريته الأمنية التآمرية المبتكرة والمتجددة تمكن من أن يُكوّر حزب البعث العربي الاشتراكي ويضعه خاتما في إصبعه، ويجعله جهاز مخابراته، وأداة حمايته وحماية أسرته ونظامه، والمؤيد والمبارك والمشرّع لسياساته وقراراته، صائبة كانت أو خاطئة، عادلة أو ظالمة، عاقلة أو حمقاء، الأمر الذي مكنه من أن يجعل كل ما يبذله أعداؤه الخارجيون، إيرانيين وسوريين وخليجيين، لإسقاطه يسّاقطُ جهدا بعد جهد، ويوما بعد يوم، ويجبر معارضيه العراقيين على الهرب والاختباء في دول اللجوء، أو الاقتناع بأن سقوطه لا يمكن تحقيقه إلا بدولة كبرى بوزن الولايات المتحدة تغزو العراق في العام 2003 وتجتاحه بجيوشها الجرارة لإسقاطه وشنقه في النهاية. وهذا هو الذي كان.
نعم، إن الحديث عن صدام حسين أصبح مملا ومكررا ولا جديد فيه. لكن، لكثرة ما لحق بتاريخه الشخصي والأسري والعشائري والسياسي من أخبار وقصص وحكايات غير أمينة أو غير عادلة وجدت من واجبي أن أدلي بهذه الشهادة الأخيرة، وأغلق هذا الملف، ولن أعود إليه.
أصله وفصله
العشائر الرئيسية الكبيرة التي سكنت تكريت ثلاث، التكارتة ويسكنون في شمالها، والحديثيون في غربها، والبو ناصر في شرقها المواجه لقرية العوجا التي تبعد 11 كيلو مترا عن تكريت. وعشيرة البو ناصر تتفرع إلى البو عمر، البو خطاب، البو مُسْلُط، البو عبدالغفور، والبو بكر، البو مجيد، البو سلطان، البو عبدالمنعم ومنهم آل الرشيد.
صدام حسين من فخذ آل المجيد المتفرع من البو ناصر، وأغلب أبنائه بقي في قرية العوجا التي تبعد عن تكريت، جنوبا، أحد عشر كيلومترا، وكان بعضهم يمتهن الزراعة، ومنهم إبراهيم الحسن زوج صبحة طلفاح، وبعضهم الآخر اضطر إلى امتهان الإغارة على منازل مدينة تكريت وسرقة دجاجها بسبب الفقر والجهل وقسوة الطباع.
بالمقابل كانت الأفخاذ الأخرى المتفرعة من البو ناصر الساكنة في تكريت أكثر تمدنا ومسالمة وتحضرا ومكانة، ولم يعرف عنها العنف والشدة والعداء، خلافا لما كانت عليه طباع البو عْمَر، وخاصة البو مُسْلُط، (خيرالله وصبحة وليلى وبدرة طلفاح)، والبو مجيد، (حسن المجيد وحسين المجيد).
في بيئة من هذا النوع ولد صدام حسين في العام 1937 بعد وفاة والده حسين المجيد. والثابت تاريخيا أن العلاقة بين البو مجيد والبو عبدالغفور وباقي البو ناصر والعشائر الأخرى الساكنة في تكريت وضواحيها لم تكن علاقة مودة وتراحم وثقة، بل كانت كراهية متبادلة وصلت في بعض حالاتها إلى القتل والقتل المقابل. بل كان القتل والاغتيال والكيد والغدر يحدث بين أبناء الفخذ الواحد، وهناك أدلة وأسماء وأحداث معروفة ومتداولة بين أهالي تكريت.
وللقيادي البعثي التكريتي المعروف صلاح عمر العلي، توصيف لشخصية صدام حسين صائب ودقيق. فقد أكد أنه شخصان في شخص واحد. فحينا ترى فيه ذلك الشخص اللطيف المهذب الذي يحترم محدثيه ويستمع إليهم بود، وحينا آخر تجد فيه العنيف القاسي المستعد لقتل خصمه دون تردد.
أما أنا فبحكم رفقتي الطويلة أجعله ثلاث شخصيات لا تشبه الواحدة منها الأخرى. الأولى شخصية الريفي العراقي البسيط الممتلئ بالنخوة والكرم والشهامة. والثانية شخصية المتدين العروبي المتعصب المعبأ بقصص خاله خيرالله طلفاح عن تراث الأجداد العرب الأشداء الأوائل، وعن الرجولة والشجاعة ورد الظلم، وأخذ الثأر، والانتقام.
أما الثالثة فهي شخصية السياسي الطموح الذي اكتشف أن طريقه إلى الصدارة في الحزب يتطلب المزج المتقن بين النعومة والشدة، وبين الحب والكره. وبعد أن أصبح الساعد الأيمن لقريبه رئيس الجمهورية وأمين سر القيادة القطرية لحزب البعث ورئيس مجلس قيادة الثورة، بعد الانقلاب السهل الناجح على نظام عبدالرحمن محمد عارف عام 1968، وجد أنه محتاج إلى شعرة معاوية، فيد تحمل صرة مال، والأخرى تمسك بمسدس جاهز للاستعمال.
وحين تولى منصب نائب رئيس مجلس قيادة الثورة في العام 1974 أصبح في النهار يستقبل مكالمات المواطنين، ويستمع لشكواهم، ويلبي طلباتهم، ويزور منازل الفقراء ويعطف عليهم، وفي الليل يدبر ويخطط وينفذ حملات تسقيط الخصوم، وأعداء الحزب والثورة، ثم بعد ذلك أعداء القبيلة، ثم الأسرة الحاكمة. ومن ضحاياه كان رفاقُه في الحزب ومجلس قيادة الثورة المعارضون لصعوده السريع إلى القمة في الحزب والسلطة.
بين تكريت والعوجا
لكثرة ما كنت أتردد على منزل خير الله طلفاح في تكريت، وما تسببه ثرثرتنا، نحن الثلاثة، عدنان وصدام وأنا، من إزعاج لأهل الدار، فقد اقترح علينا خيرالله أن نبني غرفة لنا في باحة المنزل الواسعة. وتم قبول اقتراحه على الفور، بشرط أن نقوم نحن ببنائها وبأقل التكاليف.
كنا، صدام وأنا، البنّاءيْن، نقف على أعلى الجدار نتلقى من عدنان ومن ساجدة الطين والِلبِن (الآجر الطيني المجفف).
وحين كبرنا قليلا صرنا نسافر معا إلى قرية العوجا مرة كل أسبوع، في شهور الصيف فقط، حين يعود عدنان من بغداد، لزيارة صبحة والدة صدام، بزورق صغير ينساب في الذهاب مع مجرى نهر دجلة في رحلة جميلة ساحرة. لكنه في العودة يصبح مهمة شاقة ثقيلة كريهة يحاول كل منا التهرب منها. إذ كان علينا سحبه عكس تيار الماء بجهد جهيد، مسافة عشرة كيلومترات. وكنا نتناوب على سحبه بالتساوي.
◙ صدام حسين استثنائي، ومن نوع فريد، فمن بيئة اليتم والفقر والإهمال أجاد الصعود إلى حيث يحكم دولة بحجم العراق
وفي إحدى تلك الزيارات تعرفت على (دْهام) الذي كان شهيرا يومها بأنه البطل. قيل لي إنه قتل أحد أعمامه، ومكث في القرية دون أن يختفي، ودون أن يجرؤ شرطي من التكارتة على إلقاء القبض عليه خوفا من انتقامه. ودهام هو ابن إبراهيم الحسن (أحد أبناء عمومة والد صدام)، وهو أيضا الأخ الأكبر لبرزان وسبعاوي ووطبان، من أم غير (صبحة) والدة صدام، وهو الذي جعلني أمسك بالبندقية لأطلق منها الرصاصة اليتيمة في كل حياتي، فقد كرهتها حين رجّتني وكادت أن تلقي بي على الأرض، وسط ضحك دهام وصدام وعدنان.
أما صبحة طلفاح، والدة صدام فكانت امرأة فاضلة بمقاييس التقاليد القروية والعشائرية المتزمتة، وكل من افترى عليها كذبا، وحاول الإساءة إلى عفتها وشرفها آثم وظالم ومزور تاريخ.
كذلك إبراهيم الحسن، كان فلاحا بسيطا يعمل أجيرا لدى خيرالله طلفاح شقيق زوجته الذي استولى على أرض في العوجا ونصب فيها مضخة ماء ليقوم صهره وزوجته وأولاده بزراعتها بالخضراوات العادية البسيطة التي كانت تصدر إلى مدينة تكريت.
أما دار إبراهيم الحسن في العوجا فلم تكن دارا كما تُعرف الدور. فهي غرفة واحدة لكل احتياجات الأسرة، غرفة النوم والطعام والضيوف. وفي الليل، وكنا في فصل الصيف، ننام على حصيرة خارج المنزل، صدام وعدنان وبرزان – وكان صغيرا – وأنا.
وخلافا لما تداوله مؤرخون وكتاب كثيرون لم يكن إبراهيم الحسن قاسيا على ابن زوجته صبحة، صدام حسين، إلى درجة أنه كان يضربه بالعصا، ويُحمّله ما لا طاقة له به من الأعمال والمهمات الشاقة.
وفي ما يخص هذه المسألة كان الأمر الذي لم أفهمه من تلك الزيارات هو نفور إبراهيم الحسن من ابن زوجته من المتوفى حسين المجيد. كان يتلقانا (عدنان وأنا) ببشاشة وود كبيرين، لكنه لم يكن يمنح صدام شيئا من تلك البشاشة. أما الوالدة صبحة فقد كانت تبدو لي كأنها تتعمد عدم إظهار حبها لولدها صدام، ربما مجاملة لزوجها، ولعدم إثارة حنقه عليها وعلى صدام.
وربما كان هذا هو السبب الذي دفع بالأخير إلى الهجرة إلى تكريت للسكن في منزل خاله خيرالله في الصيف، ومنزل خالته ليلى في الشتاء حين يعود خيرالله إلى بغداد، خلافا لقصص وحكايات مفبركة تقول بأن طموحه للدراسة كان هو السبب في هروبه من العوجا والتجائه إلى منزل خاله خيرالله في تكريت.
وكانت هوايتنا الوحيدة صيد السمك. أمه صبحة كانت تشجعنا كثيرا على ذلك، خصوصا وأن لصدام خبرة مبكرة في تركيب قنبلة خاصة ترمى في النهر لتقتل السمك الذي يطفو على سطح الماء بعد انفجارها. كان يشتري عجينتها من مكان، وفتيلتها من مكان آخر. ينزل إلى النهر، ويذهب، بجرأة عجيبة، إلى مدى بعيد ثم يشعل الفتيلة وينتظر ويتأملها طويلا، وهو ينظر إلينا ليثبت لنا شجاعته، ثم يرميها. وما هي إلا لحظات حتى يهتز الشاطئ ويتدفق الماء ويطفو السمك فنتسابق مع تيار الماء لالتقاطه.
من تلك الأيام أتذكر أن عدنان كان معجبا جدا بأغنية لفايزة أحمد كانت تذاع كثيرا من الإذاعة هي أغنية “أسهر وانشغل أنا”، وكان يغنيها بصوته كثيرا، فيردعه صدام وهو غاضب بنوع من الاستصغار والاستهجان، صارخا بوجه عدنان بأن الغناء ميوعة وشيء معيب. كما أتذكره كيف كان يسخر من عدنان ومني حين نتحدث عن الحب والفتيات الجميلات.
*يتبع في الجزء الثاني: حياة صدام حسين في بغداد
نقلاً عن العرب اللندنية