كتب : عزالدين بوركة
صارت الفلسفة اليوم حبيسة أسوار الجامعات والمنابر المختصة، كما احتكرها عدد من الأكاديميين، الذين فصلوها عن الواقع، وجعلوا منها أفكارا صعبة اللغة، معقدة المنهج، بعيدة كل البعد عن فهم البسطاء وحتى المتعلمين، وهذا ما أضر بالفلسفة بشكل فادح. وإن كان أغلب هؤلاء يرون في أنفسهم جدارة فلسفية، فإن الكثير من المطالب ارتفعت مؤخرا لتحرير الفلسفة من الأسوار الأكاديمية واللغة المصطنعة، وإعادتها إلى منشئها الأول بين الناس وإلى العموم، حيث الفلسفة ليست فكرا متعاليا ومفاهيميا وتجريديا فقط، بل دورها الأكبر هو فن العيش الإنساني.
إلى جانب تعريف الفلسفة بكونها “محبة الحكمة”، أو تلك الدهشة التي دفعت الإنسان وجعلته يفكر ويطرح الأسئلة بخصوص الوجود والطبيعة، فمن أهم الصفات التي ترتبط بالفلسفة كون أنها “فن للعيش”، أي طريقة مثلى للعيش السوي والإيجابي وتأمل العالم والحياة.
فلاسفة كثر إلى جانب رسم أنساقهم الفكرية المجردة قد اقترحوا سبلا صحية ونفسية وجسدية للعيش، وطرقا للتفكير المعتدل بعيدا عن أي تعصب قد يؤدي بصاحبه إلى التهلكة النفسية والجسدية.
إنْ “كنا نحن ما نأكله” كما يقول المثل، فإن فلسفات عديدة حاولت تكريس أنماط من السلوك تهتم بالاستهلاك، مخاطبة الإنسان في ذاته ومهتمة بجانبه الفيزيولوجي والصحي، لهذا لم يتوان نيتشه عن القول بصوت مدوّ “إنّه لَمن الأهمِّيَّةِ بمكانٍ بالنِّسبة إلى مصير شعبٍ، وإلى مصير الإنسانيَّة أن تبدأ التَّربيةُ الثَّقافيَّةُ من الموقع الصَّحيح؛(…) الموقعُ الصَّحيحُ هو الجسد”.
الحاجة إلى الفلسفة
الحاجة إلى الفلسفة اليوم لا تتوقف عند إيجاد نظم للتفكير أو طرق للعناية بروحانية الإنسان فحسب، بل حتى بالجسد وجانبه الصحي الذي يجعله يرتقي إلى أن يبلغ ما يصطلح عليه فيلسوف المطارق بـ”الإنسان الأعلى”، ذلك الإنسان الذي ليس مكتملا فكريا وعقليا فحسب بل بدنيا/ جسديا أيضا.
كما أن الحاجة إلى الفلسفة اليوم هي حاجة لبناء أجيال قادرة على “خلخلة الوجود” عبر الجدال والنقاش البَنّاء المبني على ما تتكئ عليه الفلسفة من منطق ومبادئ للاستنباط والاستقراء والتحليل والبحث والتفكيك. فالفلسفة ليست ترفا وحكرا على طبقة أو أناس بعينهم، بل إنها ضرورة إنسانية ملحة، شأنها شأن العلوم. جاعلة الإنسان قادرا -وهو في معترك الحياة وخضمها- أن يتفاعل ويجد الحلول بشكل ذاتي مستقل وحر، وأن يكون متصالحا مع ذاته ومتسامحا مع الآخرين على اختلاف مذاهبهم ومعتقداتهم وممارساتهم الفكرية. سعيا لـمحو كل أشكال “الدوكسا”، وتجاوز الرأي المسبق والأحكام المعممة.
إننا اليوم نتحدث، إلى جانب العلاج الطبيعي والطبي والعلاج النفسي، عن العلاج بالفلسفة. إذ تبحث هذه الأخيرة عن إجابات خارج “أسوار” علم النفس والطب المهتم بالجانب الفيزيولوجي.
وقد كانت المحاولات الأولى مع أبيقور وغيره، وقد وضع -في ما بعد- شوبنهاور قواعد معينة تحاول أن تجعل الإنسان يبتعد عبر التفلسف عن “الشقاء”. بينما ذهب بعض الفلاسفة -الذين اهتموا بالأمر- بعيدا إلى حدّ الزّعم بأنّ الفلسفة هي البديل لعلم النّفس وللعلاج النفسي. بهذا، نجد أنفسنا أمام كون الفلسفة تضع نفسها كبديل علاجي وشفائي، يهتم بما لم تستطع الإجابة عنه العلوم الطبية والنفسية.. بلا أيّ حاجة إلى عقار أو استخدامات كيمياوية.
حاجتنا اليوم إلى الفلسفة لا تتعلق بتدريسها داخل “أسوار الأكاديمية” فحسب، بل بتلقينها للأطفال منذ بداية النشأة داخل مدارس التعليم الأولي والابتدائي، إذ إنه ليس للفلسفة عمر محدد للتلقين؛ أي نعم تختلف مستويات التعلم لدى الأطفال حسب الأعمار إلا أن الفلسفة قادرة على تكييف نفسها تبعا لتلك المراحل التعليمية، وصولا إلى مرحلة التجريد: تجريد المفاهيم.
خارج الأسوار
الخطاب الفلسفي والفلسفة لم يكونا خاضعين لنظام مدرسي أو محاطين بجدران أكاديمية بل كانا “فنا للعيش”
لقد بدأت أول ما بدأت الفلسفة خارج الأسوار الأكاديمية، لم تحصن نفسها أبدا من “العامة”؛ إذ إن سقراط قد خرج يتمشى في الأسوار يتحاور ويتفلسف مع الكل، وإن ديوجين الكلبي وجد لنفسه برميلا وسط الناس يجلس إليه ليناقش أفكاره مع الكل دونما حاجة إلى أن يدوّن ما توصل إليه.
فقد ترك أفكاره تنتقل مع الريح حرة غير مسيّجة تتبع أشعة الشمس التي تُدفئها. لم يكن الخطاب الفلسفي والفلسفة خاضعين لأي نظام مدرسي أو محاطين بأي جدران أكاديمية بالضرورة، بل كانا “فنا للعيش”، أي سلوكا ونمطا وطريقة للحياة. وقد وجد سبينوزا في ما بعد، خلاصه عبر الفلسفة التي اتخذها مذهبا، معتزلا قومه الذين نبذوه، وقد جعل منها نيتشه قوة لبلوغ “السوبرمان” عبر تعزيز الفرح وتقوية الجسد والرقي به إلى أعلى درجات الاكتمال بشكل لا ينفصل عن التفكير، من حيث إننا أجساد تُفكر ولا نفكر إلّا بالجسد.
سقراط وسبينوزا نموذجان، أساسيان في تاريخ الفلسفة، لم يتهما بشكل أساسي بتدريس الفلسفة داخل الأكاديمية، فالأول لم يقبل بفعل ذلك والثاني لم يزاول الأمر مطولا ليعتزل بذاته في محراب تفكيره.
وفي زمننا المعاصر ارتفعت أصوات عديدة تدعو إلى العودة إلى ما تسميه “الفلسفة الشعبية”، في ارتباط بما سبق وأن أعلنه ديدرو، قائلا “دعونا نسارع إلى جعل الفلسفة شعبية (شائعة)”، إذ كان طموحه أن ينزل بالفلسفة من أسوارها العالية إلى العامة، للحد من الظلامية و”الغموض الذي لا طائل منه”، كما يقول.
التفكير وبناء الجيل
بعد قرون من سقراط وجد سبينوزا خلاصه عبر الفلسفة
تحضرنا في هذا الخصوص تجربة معاصرة واستثنائية، تجربة الفيلسوف الفرنسي برنار ستيغلر الذي توفي في السادس من أغسطس 2020، عن عمر ناهز 68 سنة. لقد غادر هذا الفيلسوف التعليم مبكرا، في سنوات الثانوية، ليشارك في تظاهرات 1968 الشهيرة، ومن ثم سيزاول مجموعة من المهن، قبل أن يتم إلقاء القبض عليه ويدخل السجن. إلا أن هذا الرجل سيستثمر سنوات سجنه لدراسة اللسانيات والفلسفة. وبإيعاز من جاك دريدا واصل تعلمه للفلسفة، ليغدو أهم الفلاسفة اليساريين المعاصرين نقدا لليبرالية.
في وقت لاحق، وفي مقال نُشر في عام 2003 بعنوان “الانتقال إلى الفعل”، يستحضر تجربته في السجن، وما نجم عنها من “الانتقال إلى الفعل” عرضيًا، وخاصة الزهد الحقيقي الذي فرضه على نفسه بسبب تدريبه الفلسفي (علاجه)، وما يسميه
بـ”أن يصبح المرء فيلسوفًا في الفعل”.فبدل أن يلقي ستيغلر باللوم على المجتمع أو على الدولة، راح يبحث عن علاج في الفلسفة لما سقط فيه، غائصا في أعماق ذاته وباحثا عن خلاصه في الفلسفة، التي صار أحد أعلامها المعاصرين، حيث يركز تفكيره على تحديات التغيرات الحالية -الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنفسية- الناتجة عن التطور التكنولوجي وخاصة التقنيات الرقمية.
إن برنار ستيغلر نموذج حي لما يمكن أن تلعبه الفلسفة من تغيير في ذات الإنسان من حيث إنها علاج وحاجة ضرورية إلى العيش بفن. لهذا نجد أنفسنا، في هذه الظرفية العالمية والعربية التي تسير بالكائن البشري إلى عوالم المجهول، في ظل انقلابات تعرفها المفاهيم المتعارف عليها، في حاجة ماسة إلى التفكير في بناء جيل واع بشرطه الوجودي، قادر على مساءلة هذه التغيرات منذ بداياته الأولى وهو يكتشف العالم المحيط به، وخاصة داخل المدارس الابتدائية والمتوسطة، حيث ما زالت تغيب في بلداننا العربية الفلسفة وأسئلتها من هذه الصفوف التي يكون فيها الشخص ذاته ويكتشف فردانيته ويمتلك استقلاليته الخاصة.
طبعا يمكن استثناء المبادرة الإماراتية التي ستكون رائدة في مجالها بعدما تم تبني تدريس الفلسفة داخل الصفوف الأولى للتعليم منذ سنوات الابتدائي. إذ سيكون للأمر دور فعال ليستطيع الطفل تكوين حسّ فلسفي يروم إلى مساءلة ذاته ومحيطه وعالمه، ما يجعله قادرا على امتلاك حسّ جمالي ورؤية إنسانية، ومنه يمكن تحقيق ما يمكن أن نصطلح عليه بمجتمع التعايش والسلام، حيث يتحقق فيه شرط الوجود المتنوع والمتعدد داخل الفضاء العام والمشترك الواحد.
وذلك في احترام كليّ لكل الخصوصيات والتنوعات الفكرية والثقافية والاجتماعية والإثنية والعقائدية. بعدما نكون قد استطعنا خلق الدهشة -وهي مبدأ الفلسفة- في نفسيّة الطفل، ومنحه أحقية السؤال، كحق وجودي لا يكتمل الشرط البشري من دونه.
نقلا” عن العرب اللندنية