د.سالم الكتبي
تقاطرت في الآونة الأخيرة التصريحات والمواقف والممارسات التي تقود إلى استنتاج واحد هو أن الصين باتت الخطر الإستراتيجي الأعظم الذي يواجه الولايات المتحدة. هذا الحشد المدروس أميركيا بشأن التهديد الصيني يتمحور حول فكرة مفادها أن الصين تستعد فعليا لـ”غزو” تايوان وإعادتها للوطن الأم خلال عامين أو أكثر قليلا، وأن السيناريوهات جميعها تقود إلى الاستنتاج ذاته.
مجلس النواب الأميركي، الذي زارت رئيسته السابقة نانسي بيلوسي تايوان وتسببت في رفع منسوب التوتر بين بكين وواشنطن، عقد مؤخرا جلسات استماع خاصة بالموضوع، وفي إحداها قال هربرت ماكماستر مستشار الأمن القومي السابق إن العامين المقبلين يمثّلان فترة خطيرة للولايات المتحدة، حيث تبرز احتمالات متزايدة بشأن هجوم الصين على تايوان، التي تنظر إليها الصين على أنها جزء من أراضيها، متوقعا أن تستغل بكين انشغال الولايات المتحدة بالانتخابات الرئاسية لتنفيذ سيناريو استعادة الجزيرة.
الشواهد تقول إنه ومنذ صدور البيان الصيني ـ الروسي المشترك الذي خرج عن قمة شي ـ بوتين عشية أولمبياد بكين – والذي تضمن خطابا موجها إلى الغرب بقيادة الولايات المتحدة – قد حان الوقت لعصر جديد بقيادة القطبين الجديدين. هذا البيان أسهم في تشكيل التوجه الأميركي نحو روسيا في حربها ضد أوكرانيا، واعتبار هذه الحرب “بروفة” لما سيحدث في تايوان، وإن هزيمة روسيا تمثل “ردعا” للصين والعكس صحيح تماما من وجهة نظر أصحاب هذا الرأي.
بلا شك أن واشنطن تخطئ كثيرا حين تحصر الصراع على قيادة النظام العالمي في حرب أوكرانيا أو حتى استعادة تايوان، فالصين ـ بكل عمقها وموروثها الحضاري ـ لن تترك الأمور حتى تجد نفسها تخوض صراعا صفريا كهذا، ولكن تبقى المعضلة في الاستفزازات الأميركية المتواصلة، والتي لا تقتصر على المحيط الجغرافي لتايوان بل تشمل اتفاقات لبناء قواعد عسكرية جديدة في دول مختلفة بمنطقة جنوب شرق آسيا، و”هندسة” تحالفات جديدة تستهدف في مجملها محاصرة واحتواء الصعود الإستراتيجي الصيني المتسارع.
الصين من جانبها لا تمضي وفق المخطط الأميركي المرسوم لها كما فعلت روسيا بوتين، بل تتعامل وفق رؤيتها الذاتية للأمور، وتحاول جاهدة الحفاظ على التوازن الهش بين مصالحها الإستراتيجية مع طرفي الصراع في أوكرانيا دون أن تضحي بمبادئها وقناعاتها الذاتية في إدارة العلاقات الدولية.
◙ معضلة الصراع الإستراتيجي بين الصين والولايات المتحدة أنه يتحول تدريجيا إلى فوبيا لطرف ضد الآخر، وهو ما يغذي فرص المواجهة الخشنة، لاسيما أن الولايات المتحدة تتخذ من ملف تايوان ذريعة قوية للجم النفوذ الصيني
أحد أهم دوافع ما يمكن تسميته بفوبيا الصين لدى دوائر صنع القرار الأميركية هو هذا الصعود الصيني القوي في المجالات كافة، والأمر هنا لا يقتصر على الاقتصاد والقطاع العسكري، بل تتحرك الصين بهدوء ولكن بفاعلية على صعيد إعادة تشكيل قواعد النظام العالمي بما يناسب رؤيتها للعالم، حيث باتت تضع إصلاح المؤسسات العالمية بهدوء ضمن أهدافها الإستراتيجية، وتعتمد في ذلك بشكل كبير على نفوذها المتزايد في مناطق حيوية مثل القارة الأفريقية التي تمثل كتلة تصويت أممية تبلغ نحو 28 في المئة من إجمالي عدد الأصوات بالجمعية العامة للأمم المتحدة، وقد أعجبني ما قرأته في مقال مترجم عن إحدى الصحف الصينية ملخصا أولويات الصين الخارجية في نقاط محددة، أهمها أن العمل ضمن نطاق الدول النامية هو الأساس وأن المؤسسات الدولية هي مسرح التحرك.
الصراع الأشد بين الصين والولايات المتحدة لا يظهر في المجالين العسكري والدبلوماسي فقط، بل في ميادين وقطاعات حيوية أخرى أشد تأثيرا في ما يتعلق بالنفوذ والهيمنة على العالم، فالصين تطور قدراتها البحثية والمعرفية بشكل هائل، والولايات المتحدة تشعر بقلق بالغ إزاء فقدان سيطرتها المعرفية، حيث تتوالى تحذيرات الخبراء الغربيين من تفوق الصين المتنامي في مجالات الابتكار والأبحاث والتقنيات، وقد أشار تقرير صدر مؤخرا عن معهد أسترالي إلى أن الصين تتفوق على الولايات المتحدة في 37 من 44 تقنية تمثل رافعات للابتكار والنمو والقوة العسكرية في العقود المقبلة، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الروبوت والتقنيات الحيوية، والملاحظة الوحيدة تتعلق بأن التفوق البحثي الصيني لم يترجم بعد إلى تفوق تكنولوجي، ولكن الصين تتموضع جيدا لتشعل موقعها على الصعيد التكنولوجي. وهناك في هذا التقرير نقاط لافتة مثل إنتاج الصين نحو نصف الأوراق البحثية الخاصة بمحركات الطائرات المتقدمة وفائقة السرعة، وهو ما يفسر اختبارها لصاروخ فائق السرعة قادر على حمل رأس نووي.
الولايات المتحدة تحركت بسرعة أيضا لإنقاذ مكانتها المعرفية والتكنولوجية، حيث أقرت العام الماضي قانون “رقائق أشباه الموصلات”، الذي أقر مساعدات بقيمة 52 مليار دولار لإحياء قطاع إنتاج أشباه الموصلات وأدوات التكنولوجيا المتقدمة في الولايات المتحدة، وهو أمر مهم في معركة السيطرة والنفوذ الإستراتيجي العالمي، ما يفسر قول الرئيس بايدن إن الدعم المالي بموجب هذا القانون سيساعد “في كسب المنافسة الاقتصادية في القرن الحادي والعشرين”، فرغم أن أشباه الموصلات اخترعت في الولايات المتحدة، فإن أميركا تنتج حوالي 12 في المئة فقط (تراجعت من 37 في المئة عام 1990) من الإمدادات العالمية، مع استيراد حوالي 75 في المئة من الإمدادات الأميركية من شرق آسيا. من المعروف أن أشباه الموصلات تدخل في تشغيل الكثير من أدوات الحروب الحديثة وأسلحتها الفتاكة، وعلى سبيل المثال، يحتوي كل نظام لإطلاق صواريخ “جافلين” الأميركي، الذي حصلت عليه أوكرانيا، على المئات من الرقائق الإلكترونية، وهو ما يدعو مسؤولي الدفاع الأميركيين إلى القلق بشأن اعتمادهم على دول أخرى في تزويد بلادهم بالرقائق، ما دعا مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان إلى وصف أي تعطيل محتمل لإمدادات الرقائق المتجهة لأميركا بالكارثي.
معضلة الصراع الإستراتيجي بين الصين والولايات المتحدة أنه يتحول تدريجيا إلى فوبيا لطرف ضد الآخر، وهو ما يغذي فرص المواجهة الخشنة، لاسيما أن الولايات المتحدة تتخذ من ملف تايوان ذريعة قوية للجم النفوذ الصيني، وهو أمر تدركه بكين وتحاول المواءمة بين التمسك بما تعتبره حقها في استعادة سيادتها على الجزيرة من ناحية، والانسياق وراء أي سيناريو قد يستهدف الزج بها في حرب استنزاف قد تنهي طموحها الإستراتيجي العالمي من ناحية ثانية.
نقلاً عن العرب اللندنية