ملهم الملائكة
تفرض الحروب والصراعات وحتى الكوارث تغييرات جذرية كبيرة في السياسات والمجتمعات، تغييرات قد تتراجع مع السنوات وقد تبقى ماثلة لعقود وحتى قرون، ومن هذه التأثيرات الأراضي العازلة التي تنشأ بين الدول أو مع مناطق بعينها معزولة بسبب كارثة ما. فيما يلي ترجمة بتصرف لفصل من كتاب Border Wars لمؤلفه Klaus Dodds حول ظاهرة قديمة ولكنها مؤثرة إلى اليوم.
في الوصف العسكري، الأرض الحرام هي المساحة الفاصلة بين فريقين متحاربين، والتي هي عمليا غير خاضعة لسلطة أي منهما.
من هنا تعد مساحة محايدة، لكن تعيين حدود هذه الأرض عسير وتتداخل فيه عوامل الجيوبوليتيك بالقدرات العسكرية وبالجغرافيا الطبيعية والديموغرافيا، حسب تصنيف الأرض.
في عصر رواج الأديان ومفاهيمها، قد يخال المرء أن وصف “الأرض الحرام” يقع على أرض مقدسة أو يرتبط بأرض حرّمت على الناس لأسباب قدسية غامضة، لكن المصطلح قد راج سياسيا وأدبيا في وقت ما إبان القرن السادس عشر لوصف قطعة أرض لا مالك لها.
والحقيقة أن معجم GRAMMARIST بنسخته الرقمية، يرجع تاريخ تداول الوصف إلى منتصف القرن الثاني عشر حيث كان يطلق على الأماكن النائية غير المملوكة لأحد، وغير المأهولة بالبشر أصلا. وبهذا الشكل فهو لم يكن يتصل بالتحريم بأي شكل، بل بوصف مراحل التطور الديموغرافي.
من عسكري إلى جيوبوليتكي
تبلور استخدام المصطلح ليختص في التوصيف العسكري للأراضي الفاصلة بين خنادق القوات الألمانية وخنادق قوات الحلفاء في الحرب العالمية الأولى إبان العقد الثاني من القرن العشرين. ومن الوصف العسكري تمدد التعبير ليصبح وصفا سياسيا، ومن هنا بدأت تظهر المنطقة الرمادية، حيث أن كل ما يتصل بالسياسة رمادي غير واضح.
ويذهب كلاوس دودز في كتابه “Border Wars” إلى أن ثلثي محيطات العالم يمكن أن يصدق عليها هذا الوصف لأن التشريعات القانونية الدولية لم تكرس ملكيتها لأحد، وبالتالي يمكن وصفها بأنها “أراض حرام”، وإن شئنا الدقة فإنها “مياه حرام”.
ثم يعود الباحث المتخصص في الجيوبوليتيك إلى اليابسة، ليعتبر “الأرض الحرام” هي تلكم المناطق المهجورة (ولا تسيطر عليها أي دولة)، أو أنها المناطق التي جرى تحديدها وإغلاقها بدقة وإخضاعها لـ”قواعد خاصة” لأن الأطراف المختلفة، المتجاورة وغير المتجاورة، لم تتفق بعد على ملكيتها وعلى إدارتها وأمنها.
وفي بعض الحالات، فإن المناطق المشار إليها قلقة إلى درجة أنها تتطلب حضورا دائما من الأمم المتحدة، أو قوات حفظ السلام الخاضعة لتشريعاتها الأممية، لضمان إرساء السلام والاستقرار فيها.
أحد الأمثلة الحديثة الواضحة للأرض الحرام بهذا الوصف، هي المساحة الفاصلة بين العراق والكويت (بعد أن غزاها العراق) في 2 أغسطس 1990.
وقد عينت الأمم المتحدة منطقة طولها 190 كيلومترا، وعرضها (عمقها) 15 كيلومترا لتفصل بين البلدين بعد تحرير الكويت عام 1991 بقوة التحالف الدولي.
مفهوم الأرض الحرام يحرز اليوم اهتماما دوليا بالغا لأنه يكشف عن التشققات والفجوات في السياسة الدولية
وقد عينت الأمم المتحدة قوة عسكرية، ينفق عليها العراق، واسمها “قوة المراقبة بين العراق والكويت” UNIKOM.
وكانت مهمة تلك القوة هي منع العراق من تكرار غزوه للكويت. ومنعت القوات العراقية من الاقتراب من الحدود مع الكويت، وفي عام 1993 جرى تفويض الأمم المتحدة لاتخاذ أي إجراء عسكري وحربي تراه مناسبا لضمان عدم قيام القوات العراقية بأي نشاط عسكري في منطقة العزل bufferingzone المذكورة. بعد زلزال 9 أبريل 2003 الذي أطاح بنظام صدام حسين ودولة البعث في العراق ألغيت هذه المهمة، وتلاشت منطقة العزل بعد تطبيع العلاقات بين البلدين الجارين.
ويذكر أن “مناطق الأرض الحرام التي كانت تفصل بين القوات العراقية والقوات الإيرانية المتحاربة المنتشرة على الحدود الفاصلة بين البلدين، والتي عززت بحقول الألغام وصفوف الأسلاك الشائكة والموانع المعدنية والخنادق المغمورة بالماء والخنادق المعززة بمضخات النابالم لم تزل قائمة، ولم ينظف أحد تلك المناطق، ولا يملك الجانب العراقي أي خرائط تؤشر الأراضي الشاسعة الحرام، وهذا يشكل خطرا دائما قد يستمر عشرات السنين على حدود البلدين”.
وأحيانا، يمكن أن تتحول الأرض الحرام إلى مساحة من الانتهازية العارية بعيدا عن أعين أي نوع من السلطات.
وبين القرنين الرابع عشر والسابع عشر كان نهب وتهريب الماشية عبر الحدود بين إنجلترا وأسكتلندا ظاهرة ملازمة لحياة الناس عبر الخط الرمادي الفاصل بينهما، وبين التلال والمنخفضات والسهول والفيافي والنهران المتقاطعة ظل السلب والنهب يحرمان الناس من حقوقهم، وغابت العدالة وأي مظهر تحضر عن تلك التخوم بشكل تام.
النهب المنظم كانت تقوم به عائلات تقيم على جانبي الحدود، وكانت تتبع غارات النهب المذكورة غارات انتقام من الطرف المتضرر.
سبب ذلك أن المنطقة الفاصلة بين الحدود الإنجليزية – الأسكتلندية لم تكن معينة بشكل واضح، أي أنها كانت أرضا حراما لكنها خالية من قوة تفرض القانون بين البلدين، وهذا الوضع خلق فراغا أمنيا خطيرا.
وبقيت الفوضى سائدة في المنطقة حتى اتحد التاج الإنجليزي بالتاج الأسكتلندي في القرن السابع عشر، حينها بذل الملك جيمس الأول ملك إنجلترا والملك جيمس السادس ملك أسكتلندا جهودا ملحوظة للحد من عمليات النهب المنظم للماشية على جانبي الحدود.
وأعاد الملك جيمس الأول تسمية المنطقة وجعلها Middle Shires، وأنشأ مفوضية تسعى لإخضاع تلك “الأرض الحرام” لسيادة التاج. وبحلول عام 1620 وما تلاه ساد الهدوء ربوع تلك المنطقة.
الكوارث البيئية وطوارئ الأوبئة والجوائح الدولية (كما في حالة كورونا) يمكن أن تنتج عنها مناطق أرض حرام
غارات النهب تلك وردود الفعل عليها تذكّراننا دائما بأن ما يعرف بالأرض الحرام تبقى دائما مناطق رخوة يغيب عنها القانون ما دامت حدودها غير واضحة.
وفي التاريخ الإنجليزي، طالما كانت ملكية الأراضي التي تلي أسوار وبوابات المدن ملكية غامضة، وتسبب مشكلات تسيل بسببها دماء كثيرة (ولعل قصص روبن هود والصراع على السلطة في منطقة غابات شيروود الواقعة خارج حدود قلعة نوتنغهام والتي خلدتها القصص الشعبية ورواية السير ولتر سكوت، هي نموذج واضح للأرض الحرام خارج أسوار المدن وما تسببه. المترجم).
وكانت الصراعات تنشب أحيانا بسبب مساحات صغيرة مختلف عليها من قبل رعاة الأبرشيات أو الكنائس أو صغار ملاك الأرض أو حتى قطاع الطرق.
وفي مثل تلك الحالات كانت الأطراف المتنازعة، أو بلديات المدن المتنازعة تجعل الأرض المختلف عليها مقابر أو مساحات رعي للمواشي، لحسم الصراعات أو للتخفيف منها.
مفهوم الأرض الحرام يحرز اليوم اهتماما دوليا بالغا لأنه يكشف عن التشققات والفجوات في السياسة الدولية.
تتفاوت الأراضي الحرام من حيث المساحة والحجم والنوع، فلدينا أعالي البحار ومياهها، ومناطق العزل وأحزمته، ومناطق الحياد، ومناطق الأزمات حول العالم حيث تسود ظروف استثنائية خاصة.
وفي هذا السياق، شهدنا أمثلة تكدس فيها المهاجرون في مناطق بين الحدود الدولية الرسمية، وفي سياق مضاد، شهدنا أمثلة عن أراضي الغابات النائية الكثيفة التي باتت مناطق خارجة عن سلطة أي دولة بعينها، فانتشر فيها المهاجرون تائهين بلا أمل.
أراضٍ حرام في أفريقيا
ما برحت الحكومة الكينية تقاتل منذ سنوات إرهابيي حركة الشباب المعتصمين في غابات بوني Boni الممتدة على الحدود الكينية – الصومالية. القوات الكينية تشن عمليات تسعى من خلالها لتطهير مناطق الغابات من عناصر الشباب الإرهابية.
سكان القرى المحيطة بشريط الغابات باتوا لا يجرؤون على دخولها بسبب الإرهاب الإسلامي المتفشي بشكل فاحش في أرجائها. الغابة في الحقيقة تحولت إلى “أرض حرام” لا يريدها أحد، لكن سياسة الأمر الواقع تفرضها.
ومهما كان مصدرها فستظهر باستمرار “أراضٍ حرام” يستغلها ذوو المصالح السياسية والعسكرية ليصنعوا من خلالها حدودا أو مساحات تؤوي أنظمة تحقق مصالحهم وتستجيب لأنشطتهم.
حدود الأرض الحرام تتباين من منطقة إلى أخرى وحسب ظروف المنطقة والوصف السياسي للموضوع المتأزم بشأن الأرض، فالأشرطة العازلة التي تديرها قوات تابعة للأمم المتحدة تقاس بمعايير الطول والعرض، فيما يصعب تحديد طول وعرض الأشرطة التي ينتشر فيها المسلحون أو الإرهابيون أو حتى المهاجرون غير القانونيين.
وأثناء الحروب، تكتسب مناطق الأرض الحرام العازلة بين الجيوش خصوصية استثنائية لأن حدودها شديدة الوضوح من خلال الخنادق ومنظومات الموانع وحقول الألغام ثم خنادق القتال التي تحدها من الجانبين، أي من جبهتي المعركة. وتصل دقة حدودها إلى مستوى الأمتار من خلال المنظومات المشار إليها، لذا يصدق وصف الأرض الحرام بالمعنى الحربي أكثر ما يصدق على المسافات الفاصلة بين الجيوش.
(وامتازت الأرض الحرام الفاصلة بين الجيشين العراقي والإيراني خلال حرب ثمانينات القرن العشرين التي استمرت بين البلدين مدة 8 سنوات بوضوح ودقة حدودها بسبب استقرار القطعات المتحاربة على الجبهتين في مواضعها على مدى سنوات طويلة، وحتى حين كانت تندلع معارك كبرى، فإن الجيشين كانا يغيران مواضعهما تبعا للتغيرات الميدانية، ثم تظهر بينهما أرض عازلة جديدة تعرف دون حاجة إلى تحديد بأنها “الأرض الحرام”. المترجم)
أساطير الحرب والكوارث
أما في الحرب العالمية الأولى، التي تعرف إلى حد كبير بوصف “حرب الخنادق”، فإن استقرار القطعات المتحاربة لوقت طويل في المواضع خلق حدودا واضحة دقيقة للأرض الحرام الفاصلة بينها، (وما يقال عن وجود متسللين ومهربين ومدمني مخدرات وكحوليين وقتلة سايكوباثيين يستقرون في الأرض الحرام هو وهم بثه من لم يشهدوا الحرب، فالقتال حول الخنادق لا يتيح العدل بين الجيوش المتحاربة. المترجم).
لكن ما خلفته المعارك من قنابل وألغام وصواريخ وعبوات غازية ناضحة غير منفجرة، أجبر السلطات الفرنسية على ترسيم مناطق محرمة وضعت عليها لافتات بعنوان “المنطقة الحمراء Zone Rouge”، ونتج عن ذلك إخلاء قرى بأكملها وتسقيط مراعٍ شاسعة، وشوارع وضفاف أنهار بأكملها بسبب التلوث والخطر الكامن. وزرعت السلطات الفرنسية أشجارا حول تلكم المناطق على أمل أن تمتص الغازات السامة وتزيل تأثيرها، لكن التحريم والمنع استمرا حتى اليوم، وفيما أعلنت بعض القرى في وحول جبهة فردون آمنة نظيفة، فإن قرى أخرى ما زالت مسممة الأجواء لا تصلح للسكن، ويمنع الناس من العودة إليها، بل من دخولها.
ونقل عن المؤرخة كريستينا هولشتاين القول في برنامج تلفزيوني عام 2014 “إن السلطات الفرنسية يلزمها 300 عام لتطهير كل ميادين المعارك وإعادة تأهيلها”. وبهذا يمكن القول، إن الخطر المحتمل يصنع بدوره أرضا حراما.
وخلال الحرب العالمية الثانية، وافق ونستن تشرشل على إجراء اختبارات الحرب الجرثومية على فايروس أنثراكس في جزيرة Gruinard بالأراضي العليا في أسكتلندا. أصاب التلوث تلك الجزيرة بشدة لدرجة أنها بقيت محظورة على الناس لمدة جاوزت نصف قرن، وبعد إنفاق الملايين من الباونات لتنظيف المنطقة أعيد افتتاح الجزيرة رسميا أمام الناس في عام 1990، صاحب الجزيرة أعاد شراءها بنفس السعر القديم المتفق عليه مع السلطات أثناء بيعها لهم وهو “500 باوند إسترليني”.
الكوارث البيئية وطوارئ الأوبئة والجوائح الدولية (كما في حالة كورونا) يمكن أن ينتج عنها مناطق أرض حرام، خصوصا حين تضطر السلطات إلى إنشاء مناطق عزل أو مخيمات إيواء للمصابين أو للمشردين بسبب الزلزال والأراضي التي جرفتها المياه أو الحمم البركانية، والمدن الساحلية التي مزقتها أمواج ورياح تسونامي، كما يمكن أن تسبب الأزمات السياسية المسلحة المفاجئة مناطق تصبح بمرور الوقت أراضٍ حرام، (وقد سبب قيام الدولة الإسلامية في العراق والشام داعش وإسقاطها ظهور مخيمات إيواء ومناطق عازلة في العراق وسوريا، ومنها مخيم الهول. المترجم).
وشهدت كل من أوكرانيا وبيلاروس قيام أرض حرام مهلكة شاسعة المساحة إثر كارثة تشرنوبل النووية عام 1986. إذ انفجر المفاعل رقم 4 بعد أن كشفت اختبارات القدرة عليه وجود ثغرات ضعف مرعبة فيه. وأعقب ذلك حريق استمر نحو 10 أيام تولدت بسببه سحابة نووية عابرة للحدود الأوروبية، وقع أثرها الأشد على جمهورية بيلاروس (كل تلكم البلدان كانت جزءا من الاتحاد السوفييتي، لذا لم يكشف قط عن حجم الكارثة الحقيقية بسبب سياسة التكتم الإعلامي الشيوعي. المترجم).
وقد دفنت السلطات السوفييتية المفاعل رقم 4 المدمر في تابوت خرساني.
هذا المدفن انهار في عام 2013 واستلزم ترميمه جهودا جبارة ومبالغ طائلة، ويعتقد على نطاق واسع أن مئات الأطنان من المواد المشعة قد دفنت تحت أكوام الخرسانة المحصنة التي أنجزت في عام 2017، والتي جهزت بشكل يمنع تسرب الإشعاعات ويحجب تأثيرها على الناس. والحقيقة أن منطقة تشرنوبل وما حولها تبقى منطقة طوارئ، وأرضا حراما ما برحت تربتها ومياهها تشكل تهديدا لمن يفكرون في سكنها.
السلطات السوفييتية، بعد إخلاء المنطقة بشكل تام أنشأت منطقة عازلة مساحتها 2600 كيلومتر مربع، وهي منطقة بحجم جزيرة ولاية Rhode الأميركية، وحين سقط الاتحاد السوفييتي حافظت جمهورية أوكرانيا على منطقة العزل المذكورة لتبقى أرضا حراما تحرسها دوريات وأبراج مراقبة وغرف مراقبة إلكترونية بعيدة مرتبطة بأقمار صناعية حتى إشعار آخر. فوق ذلك، تحولت تلك المساحة المميتة إلى مدفن للنفايات التي تنتجها المفاعلات النووية الأوكرانية.
نحو 100 من سكان المنطقة الأصليين المسنين عادوا إليها رغم المنع، وأصروا على أن يعيشوا في أطرافها متحدين المخاطر والصعوبات الناجمة عن وجودهم فيها. السلطات الأوكرانية تسامحت في قضية إقامة هؤلاء لتضمن عدم قيام مستعمرات من وافدين جدد قد يتجاهلون المخاطر المميتة ويأتون ليسكنوا البيوت المهجورة. أفلام الفيديو التي سجلتها كاميرات المراقبة الإلكترونية والكاميرات المثبتة على طائرات درون التي تقوم بالدوريات أظهرت أن الحياة النباتية والحيوانية والحشرية بدأت تعود إلى المنطقة ابتداء من عام 2015.
وتكشف مناطق الأرض الحرام أحيانا عن مواقف حكومية براغماتية لا أخلاقية فيها الكثير من الانتهازية، وفي مثال الأراضي الملوثة بأوكرانيا شاهدنا كيف تعامت الدولة مع عودة بعض الساكنين لمنع الغرباء من النزوح إلى المنطقة المهجورة المعزولة، لكن بيلاروسيا التي يقع فيها جزء كبير من الأراضي الملوثة نفسها اتخذت إستراتيجية مختلفة إزاء قضية إسكان الغرباء في تلكم الأراضي، فقد اقترحت على المهاجرين القادمين إليها من دول الجوار وحتى من دول بعيدة والذين باتوا يسكنون في المدن والبلدات تغيير أماكنهم، والانتقال إلى جنوب البلاد الذي تأثر إلى حد كبير بكارثة تشرنوبل عام 1986.
في الماضي، كان جزء من تلكم الأراضي محظورا على الناس، لكن، ولأسباب براغماتية صنفت تلك الأرض الحرام اليوم باعتبارها منطقة مصالح جديدة، واعتبرت جاهزة لإعادة “توطين المهاجرين الجدد”. وطبقا لخطة الإسكان الجديدة باتت “الأرض الحرام” غير المأهولة منطقة استيطان لمجتمعات المهاجرين غير المرحب بهم من قبل “رئيس الجمهورية الأبدي” لبلاروسيا.
وهكذا فإن الحروب والأزمات اللتين تصنعهما الكوارث البيئية يمكن أن تخلقا أراضٍ حرام بشكل سريع، وبنفس الطريقة فإن هندسة الحدود وفق التصورات والمصالح السياسية يمكن أن تخلق هي الأخرى أراض حرام، وهكذا فإن قيام جمهورية ألمانيا الديمقراطية DDR بتشييد جدار برلين العازل عام 1961 قد أدى إلى خلق مدينة مقسمة محصنة، وقد ظهرت من خلال تلك الأرض الحرام “منطقة موت” تحرسها أبراج المراقبة والدوريات لمنع مواطني ألمانيا الشيوعية من الهروب إلى برلين الغربية التي يسيطر عليها حلفاء الحرب العالمية الثانية.
وامتدت تلك الأرض الحرام جنوب الجدار سيء الصيت، لتصبح منطقة عزل طويلة هي جزء من الجدار الحديدي الشيوعي الواقي من الغرب، ويراد منها منع مواطني ألمانيا الشيوعية من الهروب إلى ألمانيا الغربية “الإمبريالية الاستعمارية”! وكشفت دراسات بيولوجية أن قطعان الغزلان التي تسكن على جانبي الحدود التشيكية – الألمانية قد طورت غريزة التحشد القطيعي على مدى عقود متجاهلة أسيجة المنع وقوانين الحظر السياسي.
وهكذا فإن تلك الأرض بقيت حراما على الناس، أما الحيوانات فمارست حقها الطبيعي في التنقل والاستيطان رغم أنف الساسة.
الأرض الحرام الغامضة
من أبرز الأراضي الحرام في عصرنا “المنطقة غير المعسكرة” Demilitarised Zone والتي تعرف اختصارا بـ”DMZ” في شبه الجزيرة الكورية. أنشئت هذه المنطقة بعد وقف إطلاق النار بين الكوريتين عام 1953 ويبلغ طولها نحو 250 كيلومترا مربعا، وعرضها 4 أمتار، علاوة على وجود شريط عازل عمقه 4 كيلومترات. في هذه المنطقة لم يبق سوى قريتين مأهولتين، أما سائر مناطقها فأمست خالية من الناس، لا سيما أن حقول الألغام والأسيجة المحصنة ودوريات الأمن المستعدة بلا هوادة لقتل كل من يظهر في المنطقة تمنع الناس من مجرد التفكير في الاقتراب من هذه الأرض، إنها أرض حرام بقوة السلاح، كما هي الحدود الفاصلة بين القطعات المتحاربة في جبهات القتال.
وتواجه الكوريتان، كالعادة، معضلة التعامل مع الفضاء الحدودي بينهما. ويذكرنا انهيار جدار برلين المفاجئ بأن مثل هذه المناطق وأشرطة العزل وجدران الفصل قد تنهار في أي لحظة دون مقدمات ودون سابق إنذار، ففي نوفمبر 1989 بدأت مسيرة انهيار الكتلة الشيوعية، فانهارت بلا مقدمات كل الأسيجة وجدران الفصل والأراضي الحرام والأشرطة العازلة.
سلطات كوريا الجنوبية تتعامل مع الأرض الحرام DMZ باعتبارها حالة مؤقتة يمكن أن تزول، لكنها لا تغفل حقيقة أن جارتها الشمالية النووية الشيوعية الموروثة قد ينتاب الجنون قائدها المطلق، فيعبر الحدود وينتهك سيادة كوريا الجنوبية.
سياسة كوريا الجنوبية الليبرالية العلمانية الغربية تبقي الأبواب مشرعة أمام أي خطة سلام تنهي العداء بين الكوريتين وقد تعيدهما إلى واقع الوحدة التاريخية. سلطات كوريا الجنوبية ترفض الاعتراف بواقع الشرعية الموروثة القائمة في كوريا الشمالية، ومنذ 70 عاما دأبت سلطات كوريا الجنوبية على تعيين 5 أشخاص كمحافظين للمدن التي تتشكل منها دويلة كوريا الشمالية. ورغم أن أيا من هؤلاء الموظفين لم يزر منطقته التي عين لإدارتها بمرسوم جمهوري، فإنهم ما برحوا يعملون ضمن “لجنة إدارة المحافظات الشمالية الخمس”، علاوة على ذلك يوجد 100 عمدة وقائم قام ومدير ناحية للمدن الأصغر، إضافة إلى أكثر من 1000 موظف مدني يشكلون كلهم هيئة إدارة افتراضية تتلقى رواتب وتخضع لتشريعات وتصدر قرارات مستمرة منذ عام 1953 بانتظار أن تنهار الدولة الشيوعية الحمقاء وتعود الدويلة الضالة إلى الوطن الأكبر، فيمارسون مهامهم بسرعة دون تعقيدات إدارية.
هذه الوظائف تنفق عليها كوريا الجنوبية بشكل متواضع لكنه مستمر، وتكلف الخزانة 5 ملايين باوند إسترليني سنويا. ويحظر على الهيئة المشار إليها تأسيس أي اتصال مباشر مع سلطات كوريا الشمالية، لكنها تخطط وتعمل ما بوسعها، افتراضيا على الأقل، لتهيئة أرضية تقبل التغيير المفاجئ الذي قد يحدث في أي لحظة.
الأرض الحرام DMZ بين الكوريتين لها تاريخ جيوبوليتيكي معقد، فعلاوة على المنطقة نفسها، هناك “خط الترسيم العسكري” بين البلدين والذي ينشط فيه ضباط ارتباط متأهبون على مدار اليوم، ومعهم صالات مؤتمرات بنفس المثابة، تتيح لهم عقد اجتماع رسمي في حالة حدوث طارئ. وقد أقامت كوريا الجنوبية “بيت السلام” في منطقة Panmunjom حيث عقدت محادثات وقف إطلاق النار عام 1953.
ويقع “بيت السلام” في المنطقة الأمنية المشتركة المخصصة لعقد اجتماعات مشتركة لحل المشكلات المزمنة العالقة بين البلدين. بين حقول زرعت بملايين الألغام، وبين أبراج المراقبة الأمنية، هناك أكثر من مساحة تصلح أن يطلق عليها وصف “الأرض الحرام”.
أغرب ما أنتجته هذه المنطقة العتيقة هو أنها أصبحت نقطة جذب سياحي لزوار قادمين من مختلف أنحاء العالم.
ويسمح للزائرين دخول المنطقة المسماة “منطقة السيطرة المدنية”، والتسهيلات التي ينالها الزائر ترتبط إلى حد كبير بمستوى أهميته، و(بمقدار المال الذي ينفقه، ففي كوريا الشمالية تحقق الرشوة كل ما هو مستحيل، وهي رشاوى لا تتجاوز قيمتها بضعة دولارات بسبب تردي الوضع الاقتصادي والمالي في هذا البلد، لكن على الزائر توخي الحذر الشديد حين يدفع الرشوة، فالشعب يراقب بعضه بشدة تنفيذا لأوامر القائد المحبوب الجنونية. المترجم) في عام 2018، بلغ عدد الزائرين للمنطقة 100 ألف زائر قدموا من جهة كوريا الجنوبية، فيما بلغ عدد القادمين من جانب كوريا الشمالية 30 ألف زائر فحسب.
الغريب في هذا الوضع أن سلاح الهندسة العسكرية لجيش كوريا الشمالية قد نجح في تأسيس شبكة أنفاق تحت الأرض الحرام، وأطلق عليها اسم “أنفاق الهجوم” لتكون منطلقا لهجوم تشنه على جارتها الكبرى كوريا الجنوبية.
وكشف عن تلك الأنفاق ناشطون هاربون من جحيم كوريا الشمالية، مبينين أن حفر تلك الأنفاق قد بدأ منذ سبعينات القرن العشرين وما زالت (باقية وتتمدد. المترجم)، وفي عام 1990، كشف عن أربعة أنفاق متقاطعة عميقة يراد منها تجنب حقول الألغام وأبراج المراقبة التي أقامتها كوريا الجنوبية معززة بدعم استخباري أميركي.
ومن غير المعروف عدد وعمق ومستوى دقة الأنفاق الأخرى الموجودة تحت “الأرض الحرام”.
في ديسمبر 2019 أعلن عن منح قرية Taesung Freedom Village أفضلية بمستوى أفضليات 5G أي محافظات كوريا الجنوبية الافتراضية الخمس، وشملت الخدمة نحو 200 مواطن من كوريا الجنوبية، وجرى إعفاء كل الرجال بينهم من الخدمة العسكرية الإلزامية لأن مجمل الأسر البالغ عددها 46 عائلة تعيش في الأرض الحرام وهي منطقة مدنية، لكن مخاطرها تفوق مخاطر أي منطقة عسكرية أخرى. حكومة سيئول تدعم سكان هذه القرية بالحوافز لتعينهم على الصمود في خط المواجهة الأول مع قوات كوريا الشمالية. هذه المنطقة بلا مشاف، وبلا محلات مواد غذائية، وبلا محال مواد استخدام منزلي، وبلا مراكز لياقة بدنية، وأقرب مركز مدني إليهم هي قرية الحرية Kijongdong التابعة لدولة كوريا الشمالية، ولا يوجد خط اتصال مباشر من أي نوع بين سكان القريتين.
وحين يذهب سكان قرية Taesung Freedom Village إلى حقول الشلب الخاصة بهم يرافقهم جنود من قوات كوريا الجنوبية.
لكن الجانب الإيجابي في حياة هؤلاء القرويين هو أن تلامذة المدرسة بوسعهم تأسيس اتصال شخصي للحصول على خدمات معلميهم. هذه المدرسة تضم 35 تلميذا، يقوم على تعليمهم 21 معلما… (لعل هذه أغلى مدرسة ابتدائية في العالم. المترجم)
ورغم تناقص عدد السكان والتلاميذ فإن حكومتي الكوريتين تحرصان على الإبقاء على القريتين، لكن يبقى التوتر سمة ملازمة لحياة سكان القريتين.
المراقبة مستمرة ليلا نهارا، وفي كل مكان تنتشر قوات عسكرية، بينها قوات أميركية، وقوات دولية تابعة للأمم المتحدة.
أسوأ لحظات في حياة الناس كانت حين اختطف جنود كوريا الشمالية بعض سكان القرية الجنوبية، وما رافقها من عمليات إخلاء سريعة لأنفاق سرية تحت أرض المكان.
القريتان طالما كانتا هدفا للدعاية المستمرة (على وجه الخصوص الدعاية الشيوعية على طريقة كوريا الشمالية)، حتى صدرت أوامر الحكومتين بوقف الحملات الدعائية المتبادلة عام 2018!!
العرب اللندنية