القاهرة – هشام النجار
كشفت مقاطع مصورة جرى تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي وبعض الفضائيات أخيرا لطالبات إحدى المدارس الإعدادية بمصر وهن يرتدين الإسدال المعروف في إيران، مدى التعقيد الثقافي الذي يكتنف ملف التطرف وصعوبة التعامل معه. وكان ارتداء فتيات صغيرات لشكل يوحي بالتشدد مستوحى من البيئة الإيرانية التقليدية قد جرى تعميمه في مدرسة “نشا” الإعدادية التابعة لمركز نبروة بمحافظة الدقهلية بشمال القاهرة، كنتيجة مباشرة لتغلغل الفكر السلفي.
وتنطوي واقعة انتشار الزيّ الإيراني المتشدد في مدارس البنات، والتي بدأت وزارة التربية والتعليم المصرية التحقيق في ملابساتها على خطط لعودة ناعمة لتيار الإسلام السياسي متسللًا من نوافذ التشدد المجتمعي، ولو كان من خلال تقليد زي ينتشر في إيران.
المثير أن المدرسة فرضت الإسدال على الفتيات منذ سبع سنوات، وهو مخالف للزي المعروف في المدارس المصرية، ما يثير علامات استفهام كبيرة حول الصمت عليه، أو غياب الرقابة على ما يجري خارج القاهرة ويجهض جهود الدولة في اجتثاث الجذور المحفزة على التطرف.
ويعني ذلك أن الحرب التي أعلنها النظام المصري على تيار الإسلام السياسي بأطيافه المختلفة لم يكسبها تماما بعد، لأن ربحها يقتضي اقتلاع أجنحة التيار الرجعي وتجفيف منابعه وعدم السماح باستيراد ثقافة توحي بالتشدد ونشرها بين الناس، أو أن مصر باتت بيئة صالحة لتمدد بعض المظاهر الإيرانية عندما أخفقت طهران في اختراقها بالطرق الأخرى.
ما يحل لغز المدرسة وما فرضته من إسدال يتنافى مع البيئة المصرية هو الحضور الإخواني والسلفي، والذي لم يعد قاصرا على النشاط السياسي والهياكل التنظيمية ومصادر التمويل المالي، والاتجاه نحو تديين مظاهر الحياة وصبغها بمرجعية متزمتة في الأحياء الفقيرة والنائية.
تركت تنظيمات الإسلام السياسي خلفها معضلة تتلخص في أنها قطعت أشواطًا على مدار عقود في أخونة المجتمع وسلفنته من القاع وتطويع قناعات عدد كبير من النساء، فضلًا عن اختراق قطاع التعليم.
مع البطء الشديد والتعثر في معالجة الأفكار المتشددة والعجز عن إرساء تصور إسلامي منفتح يتسم بالعقلانية والاعتدال بالتوازي مع ما تحقق من نجاحات أمنية، توضح أن هناك تحديا جوهريا يتصل بخطط تسلل الإخوان والسلفيين لشغل هذا الفراغ، ووجدوا في أحد المظاهر الإيرانية الناعمة أداة للتغلغل من دون أن تثير الريبة في المجتمع المحدود.
ويمهد فرض هؤلاء تصوراتهم للتأثير لاحقا في السياسة عبر كتل خاضعة لنفوذهم بعد إرساء قواعدهم بطرق سلمية بعيدة عن نزعات العنف.
وفي ضوء واقعة طالبات مدرسة مركز “نبروة” تتضافر عدة إستراتيجيات تقليدية ومتبعة منذ زمن بعيد لدى جماعة الإخوان في سياق برامج التسلل الناعم الذي يهدف إلى السيطرة على العقول والتأثير على أسلوب عيش المجتمع لتتمكن في نهاية المطاف من مراقبته والهيمنة عليه كليًا.
ويعتمد هذا المحدد على ترهيب النخب وعوام الناس من التصدي للمظاهر المتشددة مثل الحجاب والنقاب والإسدال واللحية والفصل بين الجنسين وغيرها، بوصفها “الإسلام الحق” وليست مجرد تفسير للعقيدة والشريعة.
ولم ترتبط ممارسة الإخوان لهذا الترهيب بمرحلة انتعاش أو أزمة ولم تتأثر بصعود الجماعة أو سقوطها سياسيًا، بل عمدت لتكثيفها في أوقات أزماتها عبر الإيحاء للكتل الواقعة تحت تأثيرها أن الدولة بمحاربتها للإسلاميين معرضة للسقوط في ”الجاهلية“.
لذلك توجّه الجماعة أتباعها والمتعاطفين معها لمضاعفة التمسك بمظاهر الدين، وإن اقتضى ذلك الانعزال عن باقي أطياف المجتمع ومخالفة قوانين الدولة السائدة ولوائح هيئاتها ومؤسساتها.
وتتفرع من هذا الأصل خطط رديفة ومحورية لتحقيق التسلل الناعم لجماعة الإخوان، في مقدمتها استغلال قطاع التعليم الذي أولته الجماعة أهمية خاصة بهدف الوصول إلى الشباب والفتيات والتأثير عليهم وتجنيدهم.
ومنذ استغلال مؤسس الإخوان حسن البنا عمله كمدرس لم تتوان جماعة في محاولات إفشال تطوير التعليم وعدم جعله حداثيًا وإبقائه تقليديًا ليناسب مناهجها البدائية التي تغرسها في عقول الشباب من خلال مدرسين وإداريين يعتنقون أفكارها.
دور نساء الإخوان
ولا تقل إستراتيجية تجنيد الفتيات والنساء خطورة وأهمية عن سابقاتها، حيث يلعبن الدور الحيوي في زمن الأزمات مع وجود أغلب القادة والعناصر من الرجال في السجون والمنافي.
ويمنح تنظيم الإخوان الفرصة للنساء والفتيات في المدارس وغيرها دورًا مرحليًا بأشكال تدين مغايرة للسائد بالمجتمع ليتمكن من الاختفاء خلفهن للتسلل في صورة نشاط سلمي له غرض اجتماعي وأخلاقي وليس سياسيا.
وبالتوازي مع دور نساء الإخوان في دعم أيديولوجية التنظيم داخل الأطر الاجتماعية والتعليمية في مراحل الانكفاء السياسي والتفكك التنظيمي، تحرص الجماعة على إعادة صياغة معادلة الصراع العلماني – الإسلامي من منطلق قضايا هامشية مثل ارتداء الحجاب، المتعلقة في السردية العلمانية بتحرير المرأة، وفي السردية الإسلامية بتمكين المرأة المسلمة.
وتسعى الجماعة لتوفير طبقة إخوانية محصنة من النقد الاجتماعي والديني في ظل استباحة التنظيم بالنقد والتقريع وصولًا إلى أعلى مستوى قيادي فيه فيما يتعلق بالفشل السياسي والفساد المالي والإداري.
وتصب المحصّلة النهائية على المدى البعيد في صالح تعزيز موقف تيار الإسلام السياسي تمهيدًا للمزيد من التمدد والتوسع والانتقال إلى مرحلة جديدة.
واعتبر القيادي السابق بجماعة الجهاد كمال حبيب رفض بعض الإعلاميين تعميم الإسدال الإيراني على طالبات بمدرسة مصرية “تحرشًا بالحجاب والعفة وباختيار الأهالي وأولياء الأمور للزي الذي يحمي بناتهن ويربيهن على مكارم الأخلاق”.
قطاع عريض من المصريين يجهل طبيعة الصراع القائم، على الرغم من وقوفه ضد الإرهابيين
وأضاف على حسابه الشخصي على فيسبوك “التدين والحياء وحفاظ البنت على ذاتها عبر ما ترتضيه وتقبله من أدوات وتقبله من زي له علاقة بالتفوق وله علاقة بسلام المجتمع وأمنه وبالغد حيث تكون أمًا مسؤولة عن أسرة وبيت”، واصفًا تناول الإعلام للواقعة بـ”الهياج الفاشي لقمع اختيارات قرية في الريف المصري“.
صراع فكري وثقافي
يعتقد الإسلاميون أن التسلل الناعم يطيل من عمر تيارهم ويؤجل توقيت نهايته بالتركيز على النشاط في المجال الاجتماعي، بالنظر إلى قوة تأثير التغيير الثقافي في إعادة تشكيل المجتمع ما ينعكس على سياسات الدولة.
ومن منطلق إثبات أنه متغلغل في المجتمع المصري وأن تصوراته الدينية بشأن المظهر الديني والتدين الشكلي يعتنقها الكثيرون يزعم قادة تيار الإسلام السياسي أنهم لا يزالون يحتفظون بوزن لا يُستهان به.
ويتطلب هذا التحدي خوض الصراع الفكري والثقافي بقوة وجرأة لا تقل عن مستوى ما جرى القيام به في الميدان الأمني، والتعامل بصرامة مع ملف اختراق الإخوان والسلفيين لقطاع التعليم.
ويجهل قطاع عريض من الجمهور طبيعة الصراع الفكري والثقافي القائم، على الرغم من وقوفه ضد الإرهابيين ومن يحملون السلاح، وهو في حاجة إلى جهود تيار فكري ثالث يحصّنه من الفكر الرجعي وخداع التدين الشكلي.
ولن تفيد في هذا السياق الأصوات المعتادة الجانحة للإثارة الإعلامية دون جهد منهجي مدروس ثقافيًا وتعليميًا، كما أن الطروحات التنويرية الفاقعة التي لا تغادر الأستوديوهات لا تزال عاجزة عن الوصول إلى ساحات الصراع داخل عمق المجتمع في القرى والمناطق النائية.
المصدر العرب اللندنية