القاهرة – أحمد حافظ
جاءت مخرجات مؤتمر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية محبطة لدعاة التجديد وإعمال العقل، بدل التعويل المطلق على الفتاوى الذي ينظر إليه كأحد الأسباب الرئيسية في انتشار التطرف.
وعكست توصيات المؤتمر الثالث والثلاثين للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية الذي استضافته القاهرة واختتمت أعماله الأحد حجم تخبط المؤسسات الدينية تجاه قضية الاجتهاد في المسائل الفقهية، وسط إصرارها على تطبيق قواعد غير واقعية تعزز توسيع دائرة الاجتهاد المعاصر.
ورغم أن المؤتمر عُقد لمناقشة قضية الاجتهاد، لكن التوصيات التي اتفق عليها المجتمعون من قادة مؤسسات دينية في دول عربية وإسلامية أظهرت عكس ذلك بعدما أقروا عدم المساس بثوابت العقيدة، وتم حظر التجرؤ عليها بدعوى أنه لا يخدم سوى قوى التطرف والإرهاب.
ورأى قادة المؤسسات الدينية أنه لا بديل عن الاجتهاد الجماعي لتكون لدى أصحاب الفتاوى خبرات متعددة ومتكاملة، والمجتهد الفرد يجب أن يكون جزءا من المختصين المكلفين بالاجتهاد الجماعي، ما يقضي على حرية الفكر والرأي والتعبير والاجتهاد في المجتمع ويجعل رجال الدين محتكرين للمشهد.
ويعتقد متابعون للمؤتمر أنه بعث برسائل محبطة لدعاة الفكر والتجديد والعصرنة والباحثين في الشأن الديني باعتبارهم كانوا أكثر انفتاحا وعقلانية وواقعية من غالبية رجال الدين الذين لا يزال لديهم قائمة خطوط حمراء تجاه كل ما يرتبط بالثوابت والتراث اللذين يستغلهما المتطرفون لنشر التشدد في المجتمعات.
سامح عيد: الاجتهاد الفردي ليس عيبا أو سببا في التطرف
صحيح أن الاجتهاد الجماعي مطلوب لحسم قضايا دينية شائكة لا تزال فيها خلافات فقهية بين المؤسسات الرسمية نفسها، ولا يعني ذلك إقصاء المفكرين والباحثين ودعاة التجديد وتكميم أفواههم لأن الاشتباك الفكري بين المجددين الأفراد وبين رؤوس المؤسسات الدينية يوسع دائرة وأفق التجديد والاجتهاد.
وخلصت جلسات المؤتمر إلى أن الاجتهاد الجماعي المؤسسي حائط صد ضد الجماعات المتطرفة التي تجيد اجتزاء النصوص الدينية، وأن العصر الحالي يحتاج إلى اجتهاد جماعي متعدد الرؤى من خلال علماء المجامع الفقهية لا الاجتهادات الفردية لأنها كثيرا ما تكون فوضوية وصادرة عن غير متخصصين.
وقال محمد مختار جمعة وزير الأوقاف المصري إن الاجتهاد أصبح ضرورة العصر بعد عصور طويلة من الفتاوى الشاذة، ولا يمكن استمرار غير المؤهلين وغير المتخصصين وتجرؤهم على الإفتاء والذهاب إلى أقصى الطرف تشددا وتطرفا وانحرافا لأن هؤلاء يريدون هدم الثوابت تحت دعوى الاجتهاد أو التجديد.
ودعم محمد الضويني وكيل الأزهر رؤية الأوقاف بتأكيده أن العصر الحديث يحتاج إلى اجتهاد جماعي متعدد الرؤى، لأن الواقع يفرض التخصص والمؤسسية والجماعية في الاجتهاد، لافتا إلى أن غير المؤهلين يتصدرون للكلام باسم الدين فيسيئون إليه، مع أن الاجتهاد ضروري في كل زمان.
وصدّق شوقي علام مفتي مصر على رؤية الأوقاف والأزهر وأن الاجتهاد الجماعي المؤسسي هو الاجتهاد الآمن الذي يحقق مفهوم الفتوى الآمنة التي تدعم الأمن والاستقرار، والضمانة الحقيقية لوحدة المجتمع من هجمات الفتاوى الشاذة والمتطرفة، لذلك لا بديل عن تكريس الاجتهاد الجماعي للقضاء على مشروع الإرهاب الجماعي.
ومضى على النهج نفسه ممثلو المؤسسات الدينية المختلفة الذين شاركوا في المؤتمر من دول عربية وإسلامية بتدعيم فكرة الاجتهاد الجماعي، على اعتبار أن الرؤى الفردية قد تنحرف عن مسارها على مستوى الفتوى أو الاجتهاد والسعي نحو التجديد، وهو ما تستثمره جماعات متشددة بالدخول في مواجهة دينية تأتي في صالحها.
ويرى مراقبون للمشهد أن فرص الوصول إلى بصيص أمل في مسألة تجديد الخطاب الديني والاجتهاد، صارت بعيدة المنال في ظل محاولات المؤسسات الدينية المختلفة فرض الوصاية على المجتمع، وحظر الاقتراب من الملف الديني لباحثين أو مفكرين، لأن هؤلاء هم الأمل في تنوير بصيرة المؤسسات لقضايا فقهية مسكوت عليها.
وأكد سامح عيد الباحث المتخصص في الشؤون الدينية وجماعات الإسلام السياسي لـ”العرب”، أن الاجتهاد الجماعي لن يحل إشكالية تضارب الفتاوى، طالما لا توجد تشريعات صارمة تحاسب شيوخ السلفية، وبعض رجال الدين المتناغمين معهم، كما أن هناك اختلافا في الرؤى بين المؤسسات الدينية نفسها بشأن بعض القضايا، لكن الاجتهاد الفردي ليس عيبا أو سببا في التطرف.
ما يلفت الانتباه أن أغلب الفتاوى الشاذة تصدر عن شخصيات منتسبة إلى المؤسسات الدينية المفترض أنها معنية بالاجتهاد الجماعي، ثم إن الإبقاء على التراث كما هو دون تنقيح سيجعل من الرؤى الفقهية القديمة سائدة ومنتشرة بما يتناقض مع متطلبات العصر الراهن، وهي إشكالية لم يتطرق إليها المؤتمر من قريب أو بعيد.
وأخفقت المؤسسات الدينية في مصر على مدار سنوات طويلة في إعداد قائمة بالشخصيات الدينية الوسطية المنوط بها مخاطبة الرأي العام من خلال إصدار الفتاوى أو التحدث في وسائل الإعلام، ما أفسح المجال أمام شخصيات متشددة للسيطرة على المشهد، سواء أكانت من الأزهر أو الأوقاف ودار الإفتاء أو حتى من التيار السلفي الذي يقدس التراث.
الكثير من المفكرين ودعاة التجديد يطرحون فكرة إعداد جيل جديد من العلماء تكون لديهم رؤى فقهية معاصرة تعي ضرورة حداثة الاجتهاد
ويشير مؤيدون لفكرة الاجتهاد الجماعي إلى أنها بحاجة إلى المزيد من الآليات لضمان نجاحها على أن تكون أول خطوة لمراجعة التراث والمناهج الدينية التي يتم تدريسها في الأزهر، وإسكات صوت التشدد الذي ينسب نفسه إلى المؤسسة الرسمية، ويثير الجدل ويروج لأفكار وفتاوى شاذة، لكن المعضلة تكمن في توظيف هذه الشخصيات لمناكفة دعاة التجديد والاجتهاد.
وذكر الباحث سامح عيد أنه لن يكون هناك اجتهاد حقيقي قبل تنقيح التراث من النصوص الجامدة التي لم تعد مناسبة للعصر، لأن المفتين حتى لو كانوا جماعة قد يستندون في أحكامهم إلى التراث المتضمن فقها قديما، وكان الأولى أن يبدأ الاجتهاد بالنظر إلى النصوص التي لم تعد مناسبة كبداية لمخاطبة العصر، ودحض كل الأفكار التي يسوق لها الفكر المتشدد.
وإذا كانت توصيات المؤتمر قد شددت على حتمية مواكبة علماء الدين لزمانهم في ضوء مستجداته الحضارية ومشكلاته الجديدة عبر التفكير والبحث العلمي وإعمال العقل في فهم صحيح للشرع، لكن تظل هناك إشكالية مرتبطة بسيطرة الجمود على غالب رؤوس المنظومة الدينية، حيث لا تزال هناك قضايا عصرية محل خلاف، وعلى رأسها تحريم فوائد البنوك.
ويطرح الكثير من المفكرين ودعاة التجديد فكرة إعداد جيل جديد من العلماء تكون لديهم رؤى فقهية معاصرة تعي ضرورة حداثة الاجتهاد، وتتعامل بحكمة وعقلانية وواقعية مع الأحداث والوقائع الجديدة بالمجتمعات لتبحث عن حلول شرعية لا تستند فيها إلى الماضي أو التراث، لكن لا يزال هذا الطرح يواجه رفضا من داخل المؤسسات الدينية نفسها.
ويقول هؤلاء إن التعويل على الاجتهاد الجماعي فقط في مواجهة خطاب التطرف، لن يفضي إلى تفكيك الفتاوى الشاذة طالما أن نفس الجهات المنوط بها التجديد والاجتهاد، هي نفسها التي تتعامل بحساسية مفرطة مع الملف، وتعتقد أن تنقيح التراث من النصوص الفقهية المتحجرة ضد تعاليم الإسلام، وهناك قيادات دينية تتعامل مع الطرح وكأنه استهداف للدين.
وبرغم اتفاق العلماء المشاركين في مؤتمر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية على حتمية تجريم الفتاوى الفردية في قضايا الشأن العام لغير المتخصصين، إلا أنه من المستبعد أن يقود هذا التجريم ولو صدرت له تشريعات قانونية إلى وقف فوضى الفتاوى الشاذة، طالما أن بعض المتشددين يدافعون عن وجهات نظرهم بأنهم جزء من المؤسسة الدينية، أي أنهم متخصصون وتخرجوا من كليات ومعاهد شرعية، ما يفرض على الحكومات أن تتدخل لضبط المشهد الديني بعيدا عن التوصيات والمؤتمرات لتحدد جهة واحدة للفتوى الفردية أو الجماعية.
المصدر العرب اللندنية