كريتر نت – العرب
هل طرأ تغيّر على ملف مكافحة الإرهاب الذي كانت الولايات المتحدة رأس حربة فيه طيلة العقود الماضية؟ فعلى الرغم من النجاحات التكتيكية التي حققتها في إحباط الهجمات وإلقاء القبض على الإرهابيين أو قتلهم، إلا أن الواقع الإستراتيجي يقول إن المساعي الأميركية لم تحقق النتائج المرجوة منه. والواقع الذي جعل واشنطن تبحث كالعادة عن حلول في الخلفية، يؤشر إلى احتمالية كونها غيّرت تعريفها للمشروع بأسره.
وإدارة بايدن نحت باتجاه إعادة تقييم شامل لكيفية تصدي الولايات المتحدة للإرهاب والتطرف العنيف، خلال عامها الأول في السلطة، سواء على الصعيد المحلي أو في الخارج، علما أن البلاد لم تشهد عملية تحول جذري مماثلة في موقفها إزاء مكافحة الإرهاب منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر.
ويقول ماثيو ليفيت، مدير “برنامج راينهارد للاستخبارات ومكافحة الإرهاب” في معهد واشنطن في دراسة نشرها معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، إن الإدارات الأميركية كافة تمر بفترات تتراجع فيها سياساتها لتنتقل بعدها من تنفيذ سياسات الإدارة التي سبقتها إلى تطبيق سياساتها الخاصة، غير أنه عندما يتعلق الأمر بمكافحة الإرهاب، كان التحول الذي أحدثته إدارة بايدن جوهريا أكثر من عهد أي رئيس آخر خلال السنوات العشرين الماضية.
لقد نجم تركيز إدارة جورج بوش الابن على محاربة الإرهاب عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر وليس من عملية مراجعة السياسة. لكن قبل ذلك، خطط الرئيس بوش خلال الأيام الأولى من عهد إدارته للتحول نحو آسيا، ثم غيّر له تنظيم القاعدة تلك الخطط باستهدافه الولايات المتحدة.
أما إدارة بايدن فقد جاءت بهدف واضح يتمثل في إعادة تحديد مفهوم التصدي للإرهاب. وشمل ذلك على المستوى المحلي مواجهة الارتفاع الكبير في التطرف العنيف الذي تمارسه الجهات الفاعلة من المتعصبين البيض والمعادين للحكومة وغيرها من “الجهات المتطرفة العنيفة ذات الدوافع العنصرية والعرقية”، والحرص في الوقت نفسه على توخي الحذر من التهديدات المستمرة التي تطرحها الجماعات الإرهابية الدولية على غرار تنظيمي داعش والقاعدة، والجماعات التي يلهمها هذان التنظيمان.
منافسة القوى العظمى
◙ إعادة تقييم واشنطن لعمليات مكافحة الإرهاب حول العالم تأتي على جانب كبير من الأهمية متجاوزة المعايير البيروقراطية والميزانية
إعادة تقييم الولايات المتحدة لعمليات مكافحة الإرهاب حول العالم التي طال انتظارها، تأتي على جانب كبير من الأهمية متجاوزة المعايير البيروقراطية والميزانية. وهذا يعكس الانتقال نحو منافسة القوى العظمى التي تحدّد مفهومها في عهد الإدارات السابقة ولكنها لم تطبق فعليا إلا في عهد بايدن.
وانبثقت أيضا عن إدراك أن تبرير السياسة الأميركية لمكافحة الإرهاب كان ضروريا من أجل تخصيص الأموال اللازمة لمعالجة مجموعة كبيرة من قضايا الأمن القومي التي لا تقل أهمية، بدءا بصعود الصين وروسيا قبل غزو أوكرانيا، ومرورا بالتغير المناخي، ووصولا إلى حاجات البنية التحتية وقضايا الصحة العامة وغيرها محليا.
تحديات تلك الفترة هيمنت على أجندة فريق الأمن القومي في إدارة بايدن خلال عامها الأول الذي تخللته أحداث مثل الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، ومجموعة من حملات الاعتقال والمحاكمات المرتبطة بالتمرد الذي شهدته واشنطن في السادس من يناير، والمخططات التي حاكها متطرفون محليون ودوليون على حد سواء.
شرعت إدارة بايدن في إجراء هذه التغييرات الجذرية في موقفها المناهض للإرهاب، وتواصلت مع حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا والمنظمات الدولية مثل “حلف الناتو” لإعادة تأكيد التزام واشنطن بتعددية الأطراف، والتخطيط لكيفية التعامل بشكل مشترك مع تداعيات تراجع حضورها على الساحة الدولية لمكافحة الإرهاب.
أرغم التمرد الذي شهدته واشنطن بحكم طبيعته إدارة بايدن على منح الأولوية للتصدي للمعلومات المضللة والتطرف العنيف المحلي منذ أول يوم لها في السلطة. فقد طلب الرئيس في أول يوم عمل كامل له بعد استلامه منصبه في العشرين من يناير مراجعة شاملة لمدة 100 يوم لجهود الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب المحلي، وهي مشكلة “تطورت لتصبح التهديد الإرهابي الأكثر إلحاحا الذي تواجهه الولايات المتحدة اليوم”، وفق بيان حقائق صدر عن البيت الأبيض لاحقا.
◙ التحول الذي أحدثته إدارة بايدن بمكافحة الإرهاب يبدو جوهريا أكثر من عهد أي رئيس آخر خلال الـ20 سنة الماضية
وبعد ثلاثة أشهر، أدّى ذلك إلى إصدار تقييم عن مجتمع الاستخبارات حول التطرف العنيف المحلي، حيث نشر مكتب مدير الاستخبارات الوطنية ملخصا عن نتائجه بعنوان “ملخص غير سري عن تقييم التطرف العنيف المحلي”، محذّرا من أن المتطرفين العنيفين المحليين الذين تحفزهم مجموعة من الأيديولوجيات وتحثهم أحداث سياسية ومجتمعية مختلفة تشهدها البلاد على التحرك، “يشكلون تهديدا متزايدا للوطن في عام 2021”.
وخلص التقرير إلى أن أكبر التهديدات جاءت من مرتكبي الجرائم المنفردين أو خلايا صغيرة من المتطرفين العنيفين المحليين. وكانت الأشد فتكا بين هذه التهديدات تلك التي نفذتها الجهات المتطرفة العنيفة ذات الدوافع العنصرية والعرقية أو المتطرفون العنيفون من الميليشيات، إذ تنفذ هذه الجهات هجمات تُسبب إصابات وضحايا جماعية، وتستهدف المدنيين، في حين تستهدف الميليشيات على الأرجح الموظفين الحكوميين ومسؤولي إنفاذ القانون.
خلال 90 يوما فقط أصدر البيت الأبيض أول “إستراتيجية وطنية لمكافحة الإرهاب المحلي”، سلطت الضوء على حماية الحقوق والحريات المدنية كضرورة حتمية للأمن القومي، وشددت على الحاجة إلى برامج بقيادة المجتمع تهدف إلى منع الأفراد من الوصول إلى مرحلة ممارسة العنف الإرهابي.
وشملت أبرز مصادر القلق بالنسبة للمسؤولين الأميركيين الخلافات المجتمعية حول قيود الصحة العامة التي فرضها مرض “كوفيد – 19” ومساعي المتعصبين البيض إلى إشعال حرب عرقية، والجهود الرامية إلى غرس بذور الاضطرابات المدنية وفتح المجال أمام أعمال العنف بهدف تسريع وتيرة الانهيار المجتمعي، أو ما يُعرف بمبدأ التسريعية. وما يثير القلق بشكل خاص هو التحذير الذي أطلقه مكتب التحقيقات الفيدرالي بشأن نزعة المتطرفين العنيفين المحليين إلى شن هجمات على أهداف مدنية سهلة، بما فيها دور العبادة ومتاجر البيع بالتجزئة والتجمعات العامة.
تصدى مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالات إنفاذ القانون الأخرى للمتطرفين العنيفين المحليين والذين اعتبرهم المكتب وفقا لتقييمه، التهديد الإرهابي الدولي الأكبر الذي يواجه الولايات المتحدة. فهؤلاء المتطرفون يستوحون عملياتهم من “المنظمات الإرهابية الأجنبية”، على غرار تنظيمي داعش والقاعدة، ولكن دون الحصول على توجيهات فردية من هذه الجماعات. وينمي هؤلاء المتطرفون مظالمهم المزعومة من خلال الحملة الدعائية القائمة أساسا التي تشجع على تنفيذ مشاريع إرهابية.
نشرة “النظام القومي للاستشارات حول الإرهاب” الصادرة عن وزارة الأمن الوطني الأميركية حذّرت بدورها من انتشار بيئة تهديدات في جميع أنحاء الولايات المتحدة مع اقتراب موسم الأعياد، على أيدي مرتكبي الجرائم المنفردين والجماعات الصغيرة الذين يستوحون عملياتهم من الأشكال المحلية والخارجية للتطرف العنيف.
العلاقة مع الإرهاب التقليدي
◙ علاقة واشنطن مع الجهات التي كانت تعتبرها ينابيع للإرهاب تطورت حتى وصلت إلى انسحاب مثير من أفغانستان في أغسطس 2021
أما علاقة الولايات المتحدة مع الجهات التي كانت تعتبرها ينابيع للإرهاب، والتي خاضت معها مفاوضات شهيرة في الدوحة، على الرغم من المبدأ الذي تعلنه دوما “الولايات المتحدة لا تتفاوض مع الإرهابيين”، فقد تطورت حتى وصلت إلى الانسحاب المثير للولايات المتحدة من أفغانستان في أغسطس 2021، التي ازداد فيها الوضع سوءا عندما هاجم تنظيم داعش مطار كابول، كاشفا عن بيئة تهديدات أكثر إثارة للقلق. فقد احتفل داعش والقاعدة والجماعات اليمينية المتطرفة على حد سواء بالانسحاب الأميركي، ووصفوه بأنه هزيمة أميركية على يد حركة “طالبان”.
وتعود جذور المشكلة إلى سعي الرئيس الأسبق باراك أوباما خلال فترة ولايته إلى تسليط الضوء على عدد من القضايا تتعلق بسياسة الأمن الخارجي والوطني نظرا إلى أهميتها بحد ذاتها، وليس فقط كنتائج لسياسة مكافحة الإرهاب.
◙ حتى عند إعادة توجيه الموارد نحو التنافس مع الصين وروسيا، فقد كان على بيروقراطية أجهزة الأمن القومي الأميركي البقاء على أهبة الاستعداد لمواجهة مجموعة من التهديدات الإرهابية
لكن الأحداث التي جرت في الداخل والخارج، بدءا بتفجير “ماراثون بوسطن” ووصولا إلى الحرب في سوريا وصعود داعش، أحبطت مساعيه. وجاءت إدارة ترامب لتبدأ في مواجهة التحديات التي تطرحها القوتان العظميان المنافستان، أي الصين وروسيا، فضلا عن التهديدات الإقليمية من دول مثل كوريا الشمالية وإيران، وكان ذلك كله في صدارة قائمة الأولويات بالنسبة للبنتاغون.
وقد أعد رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية الجنرال جوزيف دانفورد في فبراير 2017، إطار عمل “4+1” لمنح الأولوية للتهديدات الدولية والقدرات العسكرية الضرورية للتصدي لها، وشكلت فيه مكافحة الإرهاب “الزائد واحد” بعد المنافسة الإستراتيجية بين الدول. وكما أوضحت “إستراتيجية الدفاع الوطني” لعام 2018، “فإن المنافسة الإستراتيجية بين الدول وليس الإرهاب، هي الشغل الشاغل حاليا للأمن القومي الأميركي”. ولكن فكرة إعادة ضبط عمليات الانتشار الدولية لمكافحة الإرهاب التي تقوم بها الولايات المتحدة منذ عشرين عاما لم تنفذ فعليا إلا في عهد بايدن.
خلال السنوات التي أعقبت إعلان وزارة الدفاع الأميركية عن تغيير محور تركيزها، ساد الارتباك بشأن كيفية بلورة هذه الخطوة من حيث تخصيص الموارد أو تحديد أولويات المهمة. لقد بدا واضحا أنه حتى عند إعادة توجيه الموارد نحو التنافس مع الصين وروسيا، فقد كان على بيروقراطية أجهزة الأمن القومي الأميركي البقاء على أهبة الاستعداد لمواجهة مجموعة من التهديدات الإرهابية.
وأدت إستراتيجيات الأمن القومي الثلاث غير المتوافقة إلى حد كبير التي أعدتها إدارة ترامب إلى تفاقم المشكلة. وفي غضون أسابيع بعد تولي إدارة بايدن السلطة، أصدرت الدليل الإستراتيجي المؤقت للأمن القومي الأميركي الذي أشار إلى ضرورة “مواجهة التحديات، ليس فقط تلك التي يطرحها الخصوم الإقليميون والقوى العظمى، بل أيضا الجهات الفاعلة من غير الدول والمتطرفون العنيفون والمجرمون”، إلى جانب مخاطر التغير المناخي والأمراض المعدية وغيرها.
خيارات واشنطن
◙ الولايات المتحدة باتت أمام خيارين، إما الانخراط في منافسة القوى العظمى، وإما خوض “الحروب الطرفية” في دول مثل سوريا أو اليمن
الولايات المتحدة اليوم أمام خيارين، إما الانخراط في منافسة القوى العظمى، وإما خوض “الحروب الطرفية” في دول مثل سوريا أو اليمن، وهما حربان يفترض أنهما من بقايا الحرب القديمة ضد الإرهاب، إنما لا يمكنها فعل الأمرين معا. لكن الحقيقة هي أنه مع القليل من التخطيط الإستراتيجي، يمكن للمجهودين أن يعزز كل منهما الآخر، ولا يستبعد أحدهما الآخر.
وسرعان ما أدرك المسؤولون في إدارة بادين أنه سواء انخرطت الولايات المتحدة في منافسة القوى العظمى أو مكافحة الإرهاب، فقد يتعيّن على واشنطن إعادة إحياء التحالفات الدولية والمشاركة متعددة الأطراف. وسيتعين على المسؤولين الأميركيين تخطي مسألة عدم استعدادهم التقليدي للتعاون مع أبرز شركائهم الأجانب في عملية صنع القرار، في الوقت الذي سيضطر فيه هؤلاء الشركاء إلى التغلب على عدم ارتياحهم التقليدي بشأن تقاسم الأعباء.
يقول البعض إن طبيعة الموقف الأميركي الجديد إزاء مكافحة الإرهاب، أطاحت بالمساعي التي استمرت لعقدين من الزمن بقيادة أميركية لتمكين الشركاء . وستكون العمليات الآن بقيادة الشركاء ولكن بتنفيذ أميركي، حيث يمكن للقدرات الأميركية الفريدة مساعدة الحلفاء على التصدي للتهديدات القريبة منهم، وستكون الولايات المتحدة على استعداد للمساعدة من خلال توفير الدعم الاستخباراتي واللوجستي، والإمدادات الجوية، والتزود بالوقود في الجو، وغير ذلك.
لكن يجب أن يعلم الجميع أن الولايات المتحدة لن تأخذ زمام المبادرة في مهام لمكافحة الإرهاب حول العالم، إلا في الحالات التي تهدد فيها الجماعات الإرهابية أرضها أو مصالحها في الخارج.