العنود المهيري
سرقوا أعمارنا ثم اعتدلوا.
قد تسمع هذه العبارة من إماراتي عايش تغوّل الإخوان المسلمين، ومنعهم للموسيقى ورياضة الفتيات والتمثيل في المدارس، ثم إذ به يرى بعض الحزبيين السابقين يتناسون إرثهم، ويسلخون عنهم جلود التشدد.
أو من سعودي شهد عقود الصحوة، وسطوة “هيئة الأمر بالمعروف”، مثلما يشهد الآن ركوب بعض “المطاوعة” موجة الانفتاح، وادعاءهم الوسطية.
أو من مغربي تلقى مواعظ محمد رفيقي حينما كان الإمام السلفي متهما بالتحريض على الإرهاب، قبل أن يتحول ويفتتح مركزاً لنشر التنوير.
أو من مصري، أو دنماركي، أو باكستاني، أو بريطاني، جنّده ماجد نواز لمصلحة حزب التحرير، وفاق اليوم ليجد نواز يؤلف كتاباً بالشراكة مع الملحد سام هاريس.
ستسمع هذه العبارة كلما رصد الناس داعية متنطعا بالأمس، أو حزبيا مؤدلجا، وقد ظهر حليق اللحية، أو حضر حفلا غنائيا، أو ابتعث ابنته إلى “الغرب الكافر”. ببساطة، إذا مارس أيا مما كان يستهجنه ويحرّمه عليهم. “سرقوا أعمارنا ثم اعتدلوا”، يقولونها بحقد، وكأنما ينتظرون قبلة على الأنف من المتشددين التائبين، مثلما جرت عادتنا في الخليج عند الاعتذار.
وإلى أن يخترع ظلاميو الماضي آلة للسفر عبر الزمن لإصلاح مفاسدهم، أعتقد أنه يجب أن تصدر كلمة “آسف” من أفواهنا نحن.
لا أشك بأن الكثير من غضبنا من المتطرفين السابقين هو غضب من ذواتنا؛ تلك التي أطاعتهم، وعطّلت عندهم عقلها، وتركتهم ليتحكموا بحياتها كشخصية في لعبة “ذا سيمز”.
وذواتنا لم تكن بريئة تماماً، ففي مجتمعاتنا البطريركية التقليدية، كان التسلط الديني يتبّع تراتبية واضحة. إن “سرقة الأعمار” التي طبّقها أعلى الهرم، كالوزير الإخواني الانتماء، أو المفتي المتعصب، كان يتناولها ويمررها الألوف من تحتهما، كمديري الجامعات، والمعلمين، والخطباء، ومسؤولي مراكز تحفيظ القرآن، وناشري المجلات، ومعدّي البرامج، حتى تصل إلينا.
وهنا يجب أن نعترف بأن “سرقة الأعمار” حدثت أيضاً “بالتفويض” في عقر البيوت، وبأننا من أنجز بقية “المهمة القذرة”.
فلقد كُلّف بها الآباء والأمهات تجاه أبنائهم، والذكور تجاه شقيقاتهم، والفتيات تجاه شقيقاتهن الأصغر سنا، والأزواج تجاه زوجاتهم، وذوو الأزواج بما تحفظه لهم البطريركية من مكانة تجاه زوجات الأبناء، وكل معيل عموما تجاه عائله.
كما كُلّف بها “المتعلم” تجاه الأقل حظاً من الأدلجة، لتجد الابن أو الابنة المتشربين للتشدد عبر مقاعد الدراسة يفرضان تطرفهما على والديهما الباقيين في “الجاهلية”.
بل وفي بعض مجتمعاتنا، لقد تسلّح بها الأقارب والجيران ضد أي “شاذ عن القاعدة”، فالجميع كان مخوّلاَ بممارستها متى ما تسلمها في “أبسط” نسخها.
ربما نحنق بشدة من “أرباب” التشدد البائد لأننا حانقون سراً على “الصنم” المصغّر الذي كنا نتمثّله في دورنا ومجالسنا وغرف نومنا، ونُخضع له كل من يقعون تحت سيطرتنا المحدودة.
فقبل أن تطالب باعتذار متأخر، صارح نفسك: هل سرقت بدورك عمر أحدهم ثم اعتدلت؟
نقلاً عن “النهار” العربي