منير أديب
تنبأت بعض الكتابات العربية بتحول حركة “الإخوان المسلمين” إلى تيار فكري عام على خلفية الصراعات التي ضربت التنظيم أخيراً وأثرت بصورة كبيرة في بنيانه، فضلاً عن المواجهات الأمنية والعسكرية والفكرية التي تعرض لها خلال العقد الأخير.
الكتابات التي تنبأت بسقوط التنظيم وتهاوي بنائه الهيكلي لم تجب عن سؤال مهم يتعلق بخطورة هذا التحول، بل هناك من إعتقد أن تحول التنظيم إلى تيار فكري هو انتصار لاستراتيجيات المواجهة؛ هذا الكلام صحيح من الناحية النظرية غير أنه غير دقيق من الناحية العملية؛ فخطر “الإخوان” في أفكارهم وليس في تنظيمهم، التنظيم أشبه ببيت العنكبوت “وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ۖ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ”.
خطر الجماعات الدينية المؤدلجة يكون دائماً في أفكارها وليس في تنظيماتها، تستطيع أجهزة الأمن التعامل مع التنظيمات حتى ولو كانت مسلحة، كما أنها قادرة على تفكيك هذه التنظيمات حتى تختفي نهائياً، ولكن الأمر يختلف مع الأفكار.
ولعل هذا التصور يُجيب عن السؤال المطروح دائماً، لماذا لا تختفي جماعات العنف والتطرف؟ رغم ما تبذله أجهزة الأمن والاستخبارات، وهي جهود كبيرة في المواجهة، والإجابة ببساطة أن المواجهة الأمنية والعسكرية تقضي على التنظيمات ولكن لا بد من أن تستتبعها مواجهة فكرية تعمل على تفكيك الفكرة المؤسسة.
ويبدو الأمر صعباً بعض الشيء في التعامل مع الأفكار، وهنا نرى خطورة التيار السلفي عن تنظيم “الإخوان المسلمين”، رغم أن الأول بلا تنظيم ولكنه يلعب على تغيير أنماط التفكير وبنية العقل، خياراته منحازه إلى الكراهية، وهي أرضية خصبة للعنف، من خلفية الأفكار تنشأ التنظيمات ولا يحدث العكس.
ما لا يستوعبه البعض أن أفكار العنف تنشأ على هامش التيارات الدينية وليس التنظيمات، هذه التيارات توفر البيئة والمناخ والفكرة التي تجد من ينطلق بها في ما بعد، وهنا تبدو الخطورة في الفكرة والتيار الديني، أكثر ما تكون في التنظيم.
التنظيم مرئي ومرصود وتمكن مواجهته في أي وقت، وأجهزة الأمن مدربة على ذلك، أما الفكرة أو التيار الديني فلا أحد يواجهها، والتيار الفكري حريص على الحفاظ على حالة اللاصدام مع الحكومات وأجهزة الأمن، ولكنه يستمر في نشر أفكارة التي تمثل ركيزة للتنظيمات الدينية، الابتعاد من الصدام هدف استراتيجي للتيارات الفكرية ليس كرهاً في الصدام ولكن حباً في البقاء.
“الإخوان المسلمون” نجحوا في فترات سابقة في نشر أفكارهم، حتى باتت لهم أرضية في الشارع العربي، فهناك من يتبنى أفكار التنظيم وهو لا يدري، وقد يدافع عنه من دون أن يفهم ما يقول ولا مرامي أطروحاته، هؤلاء نجح التنظيم في التأثير فيهم، فباتوا أبواقاً له وهم لا يدرون.
انقسم تنظيم “الإخوان المسلمين” إلى نصفين؛ جبهة يقبع إبراهيم منير على رأسها في معبده في لندن، تحت رعاية أجهزة الأمن والإستخبارات البريطانية وحراستها، وقد استضاف عدداً كبيراً من “الإخوان المسلمين” المصريين وغير المصريين، وجبهة محمود حسين التي حطت في حضن الاستخبارات التركية، ولم تر مانعاً في التعامل معها مقابل دعمها في الصراع الدائر مع المناوئين في لندن.
الإنقسام الذي تعرضت له جماعة “الإخوان المسلمين” لم تتعرض له خلال العقود العشر الماضية منذ نشأتها على يد المؤسس الأول في العام 1928، وربما يكون الإنقسام الأخير في حياة التنظيم الذي ما زال منقسماً على نفسه، حيث انضمت جبهة المكتب العام إلى هاتين الجبهتين المنقسمتين، وهؤلاء هم المشغلون للميليشيات المسلحة مثل “سواعد مصر… حسم” و “لواء الثورة” وغيرهما، وهنا بات لـ”الإخوان” ثلاث جبهات تتحدث باسمها.
كل جبهة من هذه الجبهات لها متحدث باسمها ومجالس معاونة فضلاً عن قائم بأعمال المرشد، تشرذم وتشظ يُعبران عن حقيقة التنظيم، وكل منهما يتحدث باسم اللائحة الأساسية للجماعة التي وضعت من أيام الإنكليز وما زال التنظيم يحتكم لها وإليها بعد مرور قرن من الزمان.
أصبح تنظيم “الإخوان المسلمين” غير قادر على التحليق، فجسد التنظيم بات أكثر ثقلاً مما كان عليه في السابق، وباتت أفكار التنظيم نفسها متكلسة خاملة، ولكنها قد تنشط في أي وقت، وهنا تبدو أهمية الاستمرار في المواجهة من دون الانتباه إلى خطر التيار الفكري.
لا بد من مواجهة الأفكار وتفكيكها، فعند القضاء على الأفكار لا يمكن للتنظيم أن يحيا بأي صورة كانت، موت الأفكار يعني موت التنظيم، وموت التنظيم لا يعني موت الأفكار، وهنا تبدو خطورة الأفكار والتيار الفكري.
تعيش الجماعة حالة من السيولة نظراً الى الضربات التي تلقتها سواء الخارجية أم التي تعرضت لها من داخلها وما زالت، الضربات الأمنية هذه خلقت حالة من عدم الوعي للتنظيم وأدت إلى سيوله لا يُدرك معها التنظيم طبيعته، ولكن لم تتحول هذه السيوله إلى تيار فكري بعد.
ولذلك من المهم الانتباه إلى خطر التيار الفكري والاستعداد لمواجهته، والبحث عن آليات مواجهة ذات جدوى للخطر القادم، مخطئ من يظن أن “الإخوان” قد انتهوا بانتهاء التنظيم، النهاية دائماً تكون على عتبة تفكيك الفكرة المؤسسة.
تنشغل الجبهات المناوئة داخل حركة “الإخوان المسلمين” بالحروب التنظيمية، كل جبهة تُريد أن تثبت لنفسها وللجبهة الأخرى أنها تعمل وفق اللائحة الأساسية لـ”الإخوان”، وانشغلوا جميعاً عن الدعاية والتجنيد أو نشر أفكارهم، همهم الوحيد هو استقطاب أكبر عدد من الجبهة المنائة داخل التنظيم وليس نشر أفكارهم بين “الغرباء”.
وهنا لا بد من أن توضع استراتيجية للحرب القادمة تستهدف أفكار التنظيم، حتى لا نقع في إشكالية التيار السلفي، الذي ترك بصماته في عقول الكثير من النّاس، فحول هذه العقول إلى آلات متطرفة أو مشاريع للتطرف، وكلاهما يمثلان خطراً على العقل الجمعي للمصريين.
قراءة الخطر والتنبؤ به مهمان في مواجهته، وهنا نضع إشارة الخطر ونعلقها في عنق المجتمع، أن انتبهوا واستعدوا للمواجهة الشاملة، فالمواجهة القادمة هي أخطر أنواع المواجهة على الإطلاق وأهمها في الوقت نفسه.
نقلاً عن “النهار” العربي