كتب : سميرة رجب
يحوز الخليج العربي على درجة عالية من الاهتمام والتنافس في كل نظام دولي؛ وقد كان أمن الخليج يحظى باهتمام ورعاية، بشكل وبآخر، من القطب الرأسمالي في فترة الحرب الباردة من القرن العشرين، أمام تنافس الأقطاب الاشتراكية للولوج إلى المنطقة، والذي اتخذ منه الغرب مبرراً لإحكام القبضة الأمنية على دول الخليج وشعوبها وبحارها وفضائها. ورغم أن الرخاء الأمني والاقتصادي الخليجي الذي بدأ في تلك الفترة كان صناعة غربية يهدف بها خلق نموذج فريد لمجتمع الرفاه والاستهلاك، لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية للمعسكر الرأسمالي، في مواجهة الدول الاشتراكية التي حرمت شعوبها من هذا النوع من الرخاء، فإن ما حظيت به المنطقة من ثراء، واستقرار وأمن نسبي حينها، كان من أهم عوامل التنمية والرفاهية التي تقطف دولنا الخليجية اليوم ثمارها في مواجهة العواصف السياسية والأمنية وعجيجها، التي تهب على العالم العربي. وقد ثبت من خلال هذا العجيج أن مع انتهاء الحرب الباردة انتهت صلاحية الاستراتيجيات الأمنية الغربية القديمة في الخليج، ودخلت المنطقة عصراً أمنياً مختلفاً.
منذ بدايات تسعينات القرن الماضي، أثبتت مؤشرات الأحداث أن استقرار أمن الخليج لا يحقق مصالح بعض أقطاب النظام الدولي الجديد، والذي تتربع على عرشه اليوم الولايات المتحدة الأميركية والصين. لقد تبنت الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ انتهاء الحرب الباردة (1990) استراتيجية الحروب والصراعات والفوضى وعدم الاستقرار الأمني والسياسي والسيادي في العالم عموماً، وفي العالم العربي خصوصاً. وإن فوضى الحروب والصراعات والخلافات البينية وسياسات تهديد الأنظمة بشعوبها وصعود التيارات المتطرفة، بمختلف أشكالها، واحتلال منابع وطرق وإمدادات الغاز والنفط، وتفكيك الدول والأقاليم إلى دويلات صغيرة متصارعة، هي الاستراتيجية الأميركية (الصلبة والناعمة) للبقاء كأقوى قوة عالمية، في حرب المنافسة أمام تقدم الصين وامتدادها الاقتصادي في أرجاء العالم، انطلاقاً من مبدأ أن نجاح سياسات الصين الخارجية يعتمد على توافر الأمن والسلام، وأن مناطق الحروب، والمهددة بصراعات داخلية وخارجية، وغير المستقرة أمنياً، لا توفر لها البيئة الآمنة التي هي من مقومات تفوقها التنموي والاقتصادي.
توطين الإرهاب وعدم الاستقرار
كانت البداية مع الحرب العراقية الإيرانية (1980 – 1988) ثم حرب الخليج الثانية (1991)، وإدارة الولايات المتحدة لهذه الحروب، التي حتى اليوم لم يتم دراسة تفاصيلها الدقيقة برؤية عربية، رغم ما ظهر خلالها من مؤشرات خطيرة حول التوافق العسكري والسياسي الأميركي – الإيراني – الإسرائيلي، الذي رمى بتبعاته على أمن المنطقة لاحقاً.
وجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، لتكشف عن رؤية أميركية جديدة، ومختلفة عما سبقها، تجاه أمن الخليج في مشروع “الحرب على الإرهاب”.
الواقع الجديد الذي تمر به منطقة الخليج العربي اليوم سيرمي بظلاله الثقيلة على مشاهد المستقبل المنظور
ومن ثم كان احتلال العراق الذي أدخل المنطقة في عصر جديد، وأدخل أمن الخليج، إقليمياً ودولياً، في عصر المقايضة وسياسات الترهيب والترغيب، والابتزاز، والصفقات والإملاءات، والتدخل الخارجي المباشر وغير المباشر في الشؤون الداخلية، والزج في مشاريع الحروب بالوكالة. ومن ثم كانت حركات “الربيع العربي” التي كشفت عن مدى هشاشة الأمن الإقليمي والقومي العربي بعد ذلك الاحتلال، في مقابل الاستراتيجيات الأمنية الأميركية الجديدة الداعمة لصعود تيارات التطرف الديني السياسي في المنطقة.
خلال العقدين الأولين من القرن الجديد، أُرسِيَت ركائز استدامة الفوضى وعدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط إلى أمد غير منظور. ومن أهم تلك الركائز التي برزت مباشرة بعد الاحتلال الأميركي للعراق هو، أولا: توطين الإرهاب، وتمكين تيارات الدين السياسي المدعومة بالميليشيات والعصابات في المنطقة؛ ثانياً: دخول إسرائيل إلى الخليج من بوابة الدبلوماسية؛ ثالثاً: تعزيز أدوار إيران وتركيا وإسرائيل كقوى رئيسية في معادلة الأمن الإقليمي والقومي العربي، وخروج العرب من المعادلة.
كان احتلال العراق، ولا يزال، يهدف إلى فرض الحضور الأميركي الدولي انطلاقاً من مراكز الثقل في العالم، التي يشكل العراق فيها مركزاً استراتيجياً يربط بين الخليج العربي ودول الجوار بدءًا بإيران وتركيا، امتداداً إلى آسيا الوسطى والأدنى. وعلى هذا المعيار يمكن تقييم حسابات الاهتمام الأميركي، طويل الأمد، بمنطقة الشرق الأوسط عموماً، رغم كل ما تدّعي عكس ذلك. وعليه يمكن الربط بين حالة التردي والتهديدات الأمنية الخطيرة التي تعم منطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية، وبين المصالح التي تربط بين القوى الإقليمية والدولية التي اجتمعت في احتلال العراق منذ 2003، وعملت على تقويض أركان الدولة والقوة العراقية… والشواهد على ذلك أكثر من أن تسرد في هذه المساحة الكتابية البسيطة.
ما يهمنا اليوم هو الحديث عن المستقبل، وسبل الخروج من المأزق الذي تعيشه المنطقة أمام مصادر تهديدات أمنية تتعاظم وتقترب أكثر فأكثر من العمق الخليجي، وهل فعلاً هناك جهد عربي وطني وقومي مدروس للتصدي والمواجهة، وخصوصاً بعد ما مر على المنطقة من أحداث جسام في “الربيع العربي”؟
من المؤسف القول إنه رغم محورية الحالة العراقية في الشأن الاستراتيجي الأمني الخليجي، وخطورة تبعات احتلال العراق، على حاضر ومستقبل وأمن الوطن العربي عموماً، والخليج العربي خصوصاً، إلا أنها تعد القضية الأكثر تهميشاً في المراكز البحثية والمؤتمرات الاستراتيجية، وفي وسائل الإعلام الخليجية والعربية. وفي ظل التعتيم الإعلامي والاحتكار الغربي للمعلومات حول هذا الاحتلال، وما سبقه من أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وفي ظل حرب المعلومات والتضليل الإعلامي وتجاهل البحث والدراسة، ومنع التداول الفكري الحر والمباشر في هذا الأمر الأهم الذي غيّر وجه المنطقة، ولازال مستمراً في تحويلها إلى المزيد من الفوضى والخراب، فإن أمن الخليج العربي سيبقى مرهوناً بيد القوى الإقليمية، وعالقاً بالصراعات الدولية، وستبقى الأنظمة العربية رازحة تحت ضغوط الحرب الباردة البازغة، وسيبقى مستقبل المنطقة مهدداً على المديين القصير والطويل.
أمن الخليج مستقبلا
الولايات المتحدة تحلق قريبا من دول الخليج
لقد بدأت حرب باردة جديدة، تشنها واشنطن ضد خصومها عموماً وبكين خصوصاً؛ وليس في هذه الحرب أيّ اعتبار للتوازن في علاقات الدول مع القطبين الشرقي والغربي. بل لواشنطن منظور جديد وعابر لكل قواعد العلاقات الدولية سابقاً.
إن الحرب الباردة الجديدة التي تديرها الولايات المتحدة اليوم غير ملتزمة بمعايير المنافسات السياسية والاقتصادية، بقدر التزامها بمعايير القوة والفرض والترهيب، والحروب بمختلف أنواعها، العسكرية الصلبة، والإعلامية الناعمة، والتكنولوجية الذكية… هذا إضافة إلى أن البيت الأبيض بات أكثر صراحة ووضوحاً في الإعلان عن أولوية المصالح الأميركية، دون مبالاة بمصالح الآخرين، ولا اعتبار لمبدأ الصداقة بين الدول، الذي لم يعد موجوداً في القاموس السياسي الغربي.
إن النظام الرأسمالي الأميركي الذي وصل إلى أعلى مراحله الإمبريالية، يعبر عنه البيت الأبيض بإعلان الحق الأميركي “المطلق” في الفعل ورد الفعل الزاجر والمدمر ضد أيّ دولة في العالم، عملاً بمبدأ جورج بوش “مَن ليس معنا فهو ضدنا”، الذي أطلق يد الولايات المتحدة للانتقام العنيف بحسب ما ترتئيه سياساتها “الاستباقية والوقائية” لحماية “الأمن القومي الأميركي”… والحروب الانتقامية الأميركية، السيبرانية، وبالوكالة، هي اليوم الأسهل والأسرع والأرخص، ودون تبعات سياسية.
لربما من المهم هنا الإشارة إلى أن القمة الافتراضية “من أجل الديمقراطية” التي نظمها الرئيس الأميركي جو بايدن يومي التاسع والعاشر من ديسمبر 2021، كانت مجرد عملية إعادة تنظيم الصفوف ووضع حجر الأساس لقواعد الأيديولوجية الأميركية في الحرب الباردة الجديدة، حيث قسّمَت الولايات المتحدة العالم في جبهتي الحرب، إلى مجموعة “الدّيمقراطيّات” من جهة، ومن الجهة الأخرى مجموعة “الأنظمة الاستبداديّة” تتصدرها روسيا والصّين ومن يتعاون معهما التي ستواجهها، وستحتسب مواجهتها “فرض عين” على منطقة الخليج.
هذه هي القواعد التي تحكم الحرب الباردة الجديدة، وما يرافقها من حروب قادمة بأنواعها المختلفة، والتي بدت تتشكل عناصرها تدريجياً في منطقتنا العربية والخليجية، دون أن تملك دولنا خيار النأي بنفسها، ولا “القدرة بأيّ شكل من الأشكال على التأثير في هذه “المنافسة”، حتى بشكل إيجابي” (كما جاء على لسان الوزير أنور قرقاش أمام معهد دول الخليج العربية بواشنطن – الحرة/ دبي 28/12/2021).
فيا ترى أيّ مستقبل سيكون للعرب خلال العقود الثلاثة القادمة، في ظل علاقات دولية يحتد اضطرابها، ويزداد تقسيمها وتصنيفها بمعيار القوة؛ ولا هيبة فيها إلا للأقوى؟
المستقبلات في واقع خطير
☚ فوضى الحروب والصراعات والخلافات البينية وسياسات تهديد الأنظمة بشعوبها وصعود التيارات المتطرفة، هي الاستراتيجية الأميركية للبقاء كأقوى قوة عالمية، في حرب المنافسة أمام تقدم الصين
يذكر الدكتور مازن الرمضاني أستاذ السياسات الدولية ودراسات المستقبلات ورئيس وحدة دراسات المستقبلات في المعهد العالمي للتجديد العربي في مدريد، إن للمستقبل عددا من المشاهد، ولا يمكن اختزاله في مشهد مستقبلي واحد، مهما كانت صورة الواقع متقدمة أو متردية. وتتفاوت مشاهد المستقبلات، التي يمكن التخطيط لها، ما بين الممكنة، والمحتملة، والمرغوب فيها. وإن الأمم تعمل على بناء مستقبلها، المرغوب فيه، بدراسات شديدة الموضوعية والواقعية لتاريخها وحاضرها، كي تتمكن من تشخيص مواقع قوتها وضعفها، ورسم خططها الاستراتيجية، الواقعية، القصيرة والطويلة المدى.
إن أخطر ما تعيشه المنطقة اليوم هو غياب المنظور العلمي في التخطيط للمستقبل، ودخول الأجنبي والهيئات الدولية، مباشرة وغير مباشرة، في رسم الرؤى المستقبلية الخليجية. والأخطر من ذلك هو استمرار وتصاعد الخلافات والصراعات والحروب التي تستنزف ثروات ومصالح عموم دول الخليج واحتياطاتها المستقبلية. ومن المؤسف أن ثروات المنطقة ناضبة، وغير متجددة، ولا يمكن الاعتماد على وفرتها في زمن السلم، فكيف هو الحال في أزمان الحروب، وحروب المعلومات، والحروب بالوكالة، التي ستكون سمة الحرب الباردة الجديدة.
وبرؤية أكثر واقعية، يمكن القول إن هناك خللا في تقييم المنطقة لعناصر قوتها في مواجهة الأخطار الخارجية، والتحديات الداخلية… بل إن هنالك خللا في تقييم التهديدات الأمنية المحيطة بالمنطقة، والتي تستدعي تحشيد القوى، بمختلف أنواعها، لمواجهتها. ولربما علينا التأكيد مراراً بأننا نعيش في عالم جديد، ولعبة دولية جديدة وقودها المعلومات، ولا وجود فيها للثوابت والقيم التي كانت تحكمها سابقاً. وإن منطقتنا باتت مكشوفة، ومنزوعة القوة، أمام دول إقليمية متربصة، تجد فرصتها اليوم في التحالف مع الشيطان من أجل تحقيق مصالحها وأهدافها التاريخية في الخليج والمشرق العربي.
إن هذا التقييم الخطير نابع من قراءة “واقعية” للأحداث، والتي تؤكد أيضاً أن الواقع الجديد الذي تمر به منطقة الخليج العربي اليوم سيرمي بظلاله الثقيلة على مشاهد المستقبل المنظور؛ وما لم تبدأ دول المنطقة بتبني سياسات التقييم “الواقعي” للتحولات الجديدة، وتصنيف الأعداء على قاعدة معرفية أكثر “واقعية”، مع الالتزام بالتخطيط العلمي لبناء المستقبل المرغوب فيه، فإن مشهد أمن المستقبل العربي، والخليجي، المحتمل، سيبقى في دائرة استمرار حالة التردي، التي تزيد دول المنطقة هشاشة، وتزيد دول الجوار رغبة وحماساً للتمدد والتدخل والتهديد المباشر للمنطقة، في ظل واقع دولي سريع التغير، وخال من القيم الإنسانية.
نقلاً عن العربي الجديد