كتب الدكتور حمود العودي، عالم الاجتماع اليمني المعتقل في سجون الحوثيين منذ الليلة الماضية، نصًا يفيض وجعًا ووعيًا.
استهله بتأمل في عالمٍ يتقدّم بالعقل والعلم والديمقراطية، حيث يمكن لابن حضرموت أن يصبح رئيسًا لأكبر دولة في العالم، ولشابٍّ هنديٍّ مسلم أن يُنتخب حاكمًا لمدينة نيويورك، ولرجلٍ باكستاني أن يكون عمدةً لعاصمةٍ كانت يومًا رمزًا للإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس.
لكن ما أراده الدكتور العودي لم يكن المقارنة بيننا وبينهم، بل الإشارة إلى الفارق الجوهري في الوعي: فبينما يحرر العالم عقله من العصبيات، ما زلنا نحن نغرق في مستنقع الطائفية والعقائد المغمورة بالدم.
في الفقرة الثالثة من كلماته، وضع إصبعه على الجرح حين قال:
“هل يتّسع صدر شخصين في بلدٍ واحد، أحدهما شيعي متطرف والآخر سني متعجرف، ليقرّ أحدهما للآخر أن يحكمه عبر صندوق الاقتراع؟”
ثم أجاب بنفسه:
“بالتأكيد لا، لأننا أسرى شيطنة التشيع والتسنن السياسي.”
إنها جملة تختصر مأساة أمةٍ ضاع منها جوهر الدين حين جعلت منه أداةً للهيمنة لا وسيلةً للهداية، ونسيت أن أول مبدأ أعلنه الوحي الإلهي للإنسان هو الحرية: حرية الفكر، وحرية الاختيار، وحرية الإيمان.
تبصر أعينهم قوله تعالى: «إن الدين عند الله الإسلام»، لكنها تتعامى عن قوله: «لا إكراه في الدين».
وذلك ناتج عن غياب الإدراك للمعنى الحقيقي لـ«الإسلام»؛ فهو في جوهره تسليمٌ حرٌّ لله عن وعيٍ ومحبةٍ واختيار، لا خضوعٌ قسريٌّ لسلطة أو مذهب.
عندما قال الله تعالى في محكم كتابه:
«لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي»،
أسّس بذلك منهجًا إلهيًا عظيمًا يؤكد أن حرية المعتقد ليست منّة بشرية ولا ترفًا سياسيًا، بل حقٌّ إلهيٌّ أصيل وشرطٌ لصدق الإيمان نفسه.
فما قيمة الإيمان إن لم يكن نابعًا من حرية؟
وما معنى العبادة إن كانت قسرًا تحت سيف الخوف أو فتاوى الكراهية؟
إن ما نسميه اليوم “التشيع السياسي” أو “التسنن السياسي” ليس إلا صورةً من صور احتكار الإيمان وإخضاع الضمير البشري باسم الله.
إنه إلغاءٌ لحق الإنسان في أن يختار، وتحويلٌ للدين من علاقةٍ حرةٍ بين القلب وربه إلى نظام ولاءٍ وخضوعٍ لجماعةٍ أو إمامٍ أو فقيه.
وحين يُلغى هذا الحق، تموت روح الدين ويُستبدل النور بالظلام، فيتحول الوطن إلى حقل ألغامٍ مذهبية، وتُسفك الدماء دفاعًا عن “الله”، بينما هو المنزّه عن ظلم عباده.
وفي اليمن، نعيش ذروة هذا الانحراف.
فجماعة الحوثي تقدّم نموذجًا بالغ الخطورة لتديين السلطة وتسييس العقيدة، تُخضع الناس باسم “الولاية”، وتزجّ بالمخالفين في السجون باسم “الحق الإلهي”.
وفي الجهة المقابلة، يردّ التطرّف السني بتكفيرٍ مضاد، لا يرى الخلاص إلا بإقصاء الآخر.
وهكذا يدور الوطن في دوّامةٍ لا تنتهي من الدم والعذاب، بينما تُغتال حرية المعتقد في صمتٍ يشبه القبر.
وباغتيالها يغيب المشروع الوطني الذي ينبغي أن يكون الإنسان محوره وغايته، لأن أسمى غاية لوجود الإنسان هي حريته.
ووسط هذا الجنون، يذكّرنا صوت الدكتور العودي بالآية الجامعة:
«إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».
فالتغيير الحقيقي لا يبدأ من الأنظمة ولا من السلاح، بل من داخل النفوس حين تستعيد حقها في التفكير، وفي الإيمان الحر، وفي أن تقول “لا” لمن يحتكر الله لنفسه.
إن استعادة حرية المعتقد ليست مطلبًا فكريًا فحسب، بل ضرورة وجودية لإنقاذ الدين نفسه من التسييس والاحتكار.
فالله لا يحتاج إلى وكلاء يفرضون الإيمان باسمه، ولا إلى جماعاتٍ تقاتل دفاعًا عنه، بل إلى قلوبٍ حرةٍ تعرف أن الإيمان لا يُفرض، بل يُختار.
لقد آن لنا أن نغادر هذا الكهف الذي وصفه العودي، وأن نكفّ عن شيطنة بعضنا البعض باسم المذاهب.
فحين تتحرر حرية المعتقد، يُولد الإيمان من جديد، ويتحوّل الدين من ساحة حربٍ إلى منبع رحمة، ويستعيد الإنسان كرامته التي وهبها له الله منذ البدء.
إنهم قد يعتقلون الأحرار، لكنهم لن يعتقلوا الوعي.
فالكلمة التي كتبها الدكتور العودي ستبقى شاهدةً على أن من يطالب بحرية الفكر والمعتقد لا يُطفئ النور، بل يشعل فجرًا جديدًا في أمةٍ أرهقها الظلام.
الاستاذ / وليد صالح عياش
رئيس مؤسسة نداء للتعايش والبناء













