كتب : محمد علي محسن
في اللحظات القاسية هنالك صنف من البشر ، يمنحونك القوة ويشعرونك أنك لست وحيدآ ، وأن دربك هو دربهم أيضًا ، فمهما أستعصت عليك الحالة حتمًا ستجدهم بجوارك يشدِّون من أزرك وينفخون في روحك شيئًا من التفاؤل والأمل والصبر .
وما أحوج الإنسان لهذه الطاقة الجبارة المادة له بإكسير النجاة والمقاومة ، وفي وقت طغى فيه الخذلان والانكسار والقهر والجبروت ..
صديقي ورفيقي وزميلي” أبو مطيع ” ، كان من هذه العينة من الرجال الذين تجدهم جنبك في الوقت العصيب ، وحين تظن ذاتك وحيدًا وبلا رفاق أو وجهة أو مكان يكتنفك .
أول معرفتي به إبَّان القهر والإنكسار والجبروت الذي سُلِّط على رقاب الخَلق ، وتحديدًا في العام التالي لحرب صيف ١٩٩٤م ، كُنَّا نلتقي في مطعم المعلِّم الراحل أمين صالح ، رحمة الله تغشاه، نتبادل الأحاديث ونناقش سُبُل الخلاص من الضيم الجاثم فوق صدورنا جميعًا .
كان منطلق كفاح الرفيق محمد منظمة الحزب الاشتراكي في مديرية الضالع ، ومن ثم مجلس تنسيق أحزاب المعارضة ، وتاليًا في اللجنة الشعبية التضامنية ، فالحراك السلمي الجنوبي وسواه من المسميات السياسية النضالية التي ظل أسمه محوريًا ومؤثرًا وحاضرًا وفي كافة الأحداث والمنعطفات .
حين أنتدبت للعمل كمدير لإدارة إعلام مديرية الضالع ، قبيل إعلان المحافظة في ٢٨ يوليو ١٩٩٨م زادت معرفتي به أكثر .كان يمد وكالة ” سبأ ” بالأخبار الرسمية شبه يومية من خلال اتصال هاتفي من مكتب مدير عام المديرية المناضل صالح احمد صالح الشاعري ، الرجل الصلب الذي يحسب له ضمنا لطاقمه ودونما إعتبار لتلك الأصوات الهادرة وما أكثرها .
توالت اللقاءات وتعددت الأحداث ، وفي كل نازلة وجدت محمدًا يماثل هذه الجبال الشامخة المحيطة بقريته ” الوبح ” ، صلابة وقوة وشموخآ ، فلم يثنه شيئًا عن خياراته وقناعاته الراسخة .
فهو من النوع الذي لا يهن أو ينكسر مهما كان الخطب قاسيًا ومؤلمًا ، وفي مقابل هذه الجَلَد والصَلَد رأيته إنسانًا بسيطًا لينًا حين يشاطرك فرحك أو ترحك ، أو عندما يكون في بيته وبين أبنائه وأهله .
أتذكر أنني ما نطقت يومًا البيت الشعري القائل : يا الوبح ما بنت لي مُسلم ولا أنك يهودي عجيب أصلك منين ؟! إلَّا وأرتجل مجيبًا دونما يتسنى لي إتمام الزامل الشهير : أصلي انا شاعري .
عرفته رجلا شهمًا وشجاعًا لم يداهن قط في مواقفه ، وهذا الثبات والجسارة أجزم كانا سببًا في حرمانه من وظيفة مدير عام فرع وكالة الأنباء اليمنية ” سبأ ” في محافظة الضالع ، فحين علمت برغبته في شغل الوظيفة ، طلبت من المحافظ الراحل صالح قاسم الجنيد ، رحمة الله تغشاه، إعفائي منها والإكتفاء برئاسة تحرير صحيفة الضالع .
وللأمانة والإنصاف قَبِل المحافظ طلبي وزاد أن رشحني لوظيفة مدير عام الإعلام في المحافظة وتم تزكية قراره من الهيئة الإدارية ممثلة بالأمين العام للمجلس المحلي بالمحافظة صالح أحمد صالح والأستاذ محسن احمد الربوعي والصديق الجميل محمد الوداد والعميد عبد الرحمن المفلحي .
لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه ، فلقد حوصر المحافظ الجنيد بسدنة جهلاء ومزايدين وبمعلومات واتصالات تأتيه من كل حدب وصوب ، ولأن الضالع بقت فيها جذوة المعارضة للنظام السابق مشتعلة ؛ فلا أبو مطيع رضي عنه وعيُّن لقيادة الوكالة أو أن العبد الفقير دام وأستمر في منصبه ، فكلانا أسمان غير مرغوب بهما ؛ فلا يعقل أن نكون نبضًا لشارع يغتلي وفي ذاك الوقت نكتب للقمع والطغيان .
واقع الحال هكذا ، فالإعلام وظيفته ينبغي أن لا تحيد عن الخطوط المعتادة ، وقد سمعتها من الوزير وحتى الغفير : لا مكان للكلمة المناوئة للحُكم في وسائل إعلام الدولة ‘ عدنا لملازمة البيت ، ويقينًا أن كرامتنا بقت محفوظة ، وهذا هو الرأسمال الكبير .
تعززت علاقتي به كثيرًا ، فبعد مغادرة المحافظ الجنيد ومجيء البديل المحافظ عبد الواحد الرُبيعي ، عدنا الإثنان ، فلقد صدر قرار تعييني بعد ثلاثة أيام فقط من تعيين المحافظ الجديد ٣يناير ٢٠٠٣م وبعد فورة مفاوضات أقتنع المحافظ بتنفيذ قرار رئيس الحكومة وبعد نصائح واشتراطات .
ما يؤسف له أنه جيء بزميل آخر لشغل منصب مدير وكالة سبأ ، وبقى الراحل يأتي في أوقات متفرقة وكلما أستدعت الحاجة له لتغطية أخبار قيادة المحافظة .
أعوام توالت وأحداث عظام وقعت ومحمد هو ذاك الإنسان الشهم الناضج المنافح بقوة عن مبادئه وقيمه وقناعاته ، بل وكل ما يراه صحيحًا وصائبًا ، وبلا تفريط أو إساءة أو خصومة مع رفاقه الآخرين أو مع المناوئين .
فلم يكن إطلاقًا من الفئة النازعة لتأجيج الخلاف أو العنف ، بل رأيته إنسانًا مرنًا ومنصفًا وماقتًا للغة الاستعلاء والبغض والتعصب الأعمى .
خلال أعوام ما بعد تحرير الضالع ٢٠١٥م لم التق به ، فلقد فرقتنا السُبُل ، ومع هذه الجفوة سررت بوجوده ضمن فريق الرائع العميد عبدالله مهدي رئيس انتقالي الضالع ورفاق آخرين تشاركنا معًا سنوات الجمر والألم .
كنت موقنًا أن أبا مطيع لن يخذلنا أبدًا ، فهذا ديدنه وأين ذهب وحل ؟ إنه نسخة صافية نقية من ذاك الرعيل الأول ، فأيًا كان اختلافي معه ؛ إلَّا أن ثقتي به بلا حدود ، فهو لا يغدر ولا يفجر ولا يبغض .
فعلى اختلاف مشاربنا وتعدد طرقنا وغايتنا يجب القول إنه كان إنسانًا شجاعًا ودودًا متسامحًا وفيًا صادقًا ، فليس من شيمته المكر أو الكذب أو الغدر أو النكران ، فهذه جميعها مفردات لا يضمرها مناضل بوزن أبي مطيع ، فالثورة في مفهومه سلوكًا فعليًا لتمثُّل قيم كفاحية عظيمة منحازة للحق والعدل والانصاف .
يرحمك الله صديقي وزميلي وصاحبي ، محمد صالح سعيد الشاعري ، ويغفر لك ذنبك ويسكنك الفردوس الأعلى ، وعظم الله أجرنا جميعًا ، وطنا وشعبا .