حسن داوود
كنت في الحادية عشرة أو الثانية عشرة حين قرأت «الأجنحة المتكسرة». لم أعد أذكر إن كان ذلك بطلب من مدرّسنا؟ أم نتيجة عدوى انتقلت إليّ من فتيان أكبر عمرا مني.
كان «الأجنحة المتكسّرة» واسع الحضور في ذلك الحين، أو بين شبّان ذلك الجيل. اسم سلمى كرامة، وهي الفتاة المعشوقة، كان شائعا ومتداولا.
قرأت حكاية سلمى كرامة وعاشقِها الذي هو جبران نفسه (لكون الكاتب استخدم صيغة المتكلم في روايته لما عاناه العاشقان) كقصة حب رومانسية حزينة الخاتمة.
كان عليّ أن أنتظر سنوات أخرى، أن أصير في عمر الشباب، حتى أعرف أن تلك الوجهة الغرامية التي أخذني إليها الكتاب، ستُستبدل بوجهة أخرى، لتكون غايتها الاحتجاج ضد رجال الدين والإقطاع معا، ممثّلين بالمطران وابن أخيه البيك منصور.
أحببت تلك الرواية الصغيرة في تلك السن المبكّرة، بل ملأتني حزنا وشجنا.
الآن، إذ أعيد قراءة سطور منها أروح أتساءل كيف أمكنني وأنا في ذاك العمر أن أصبر، وأن يستمر وعيي متمثّلا ما تحتويه تلك الجملة: «المرءُ إن لم تحبل به الكآبة، ويتمخّض به اليأس وتضعه المحبة في مهد الأحلام تظل حياته صفحة بيضاء في كتاب الكيان».
الآن أقول إن قراءتي كانت تقفز عن تلك الكلمات المتزاحمة وتتخطاها لصعوبة الذهاب إلى عمق المعنى لكل منها، مكتفية باختصارها إلى أن الإنسان يجب أن يقاسي ويتجلد حتى يستحق الحياة.
هذا التساؤل حول فهمي لما كنت قرأته في أيام ما قبل الشباب، يعاودني على الدوام.
أذكر من ذلك، على سبيل المثال،، قراءتي الثانية المتأخرة لـ»بين القصرين» لنجيب محفوظ، حيث رحت أتساءل كيف أمكنني، وأنا بعد صغير، أن أقرأ تلك اللغة المتمسكة ما تزال بإيحاءات النصوص القديمة.
لم يكن جبران كثير الميل إلى الإرث البلاغي العربي، في مطلع أحد كتبه قرأتُ: «مات أهلي… وأنا أندب أهلي في وحدتي وانفرادي».
صحيح أنني رأيت آنذاك أن هذا من خارج الأدب، أو من خارج ما اعتدته منه، إلا أنه كان مؤثّرا، روحيا ووجدانيا.
في الجامعة دُرّسنا كتاب «النبي» بنصّه الإنكليزي هذه المرّة.
ذاك وضَعَ جبران في أفق آخر مختلفا عما كان يعنيه من قبل.
ذاك أنني، في ذلك الوقت من الستينيات رحت أقرأ، أو أشاهد ذلك الاحتفال الأمريكي بجبران، في أوساط حركة الهيبيين.
أذكر أنني عجبت، في أحد الأفلام الأمريكية، كيف كان مجموعة من الشبان يتكلمون عن جبران وهم متأبطون «النبي» ككتاب هداية روحية ووجودية.
في الجامعة قرأ لنا معلمنا، سهيل بشروئي، مقدّمة الكتاب، بافتتان مماثل، هو المولع بدراسة الأديان على كل حال.
بين ما علق في ذهني من تلك المقدّمة هو قول جبران أن مَن سيقرأونه الآن قليلون، لكن أعدادهم ستتسع بعد ذلك، ويصبح الكتاب دستورا روحيا لقرّائه الكثر.
تلآن، بعد كل هذه السنوات، أجد أن تحقُّق ما قاله يجعله أقرب إلى نبؤة، حيث سمعت أو قرأت أن هذا الكتاب كان بين الكتب الأكثر مبيعا في عالمنا.
كل الكتاب يفكّرون، أو يحلمون بهذا الضرب من الشهرة، لكن لا أحد منهم يفصح عن ذلك، كما فعل جبران في نصّ مكتوب.
لم يكن جبران كثير الميل إلى الإرث البلاغي العربي، في مطلع أحد كتبه قرأتُ: «مات أهلي… وأنا أندب أهلي في وحدتي وانفرادي». صحيح أنني رأيت آنذاك أن هذا من خارج الأدب، أو من خارج ما اعتدته منه، إلا أنه كان مؤثّرا، روحيا ووجدانيا.
عن المدى الذي بلغته تلك الشهرة فاجأني كتّاب صينيون التقيتهم في اتحاد كتابهم في بكين.
قالوا، بعد سؤال مني، إنهم يعرفون اسما واحدا من بين كتّاب العرب جميعهم هو جبران.
ام يتحقّق لأحد هذا القدر من الشهرة ، وذلك كان قد بدأ واتسع في حياته، حسب ما نقرأ في الكثير مما كتب عن سيرته.
ولا غرابة في أن يكون لبنان حاضرا أبدا للاحتفال بجبران ، وقد شاركتُ في ذلك مرّات، سواء ككاتب، أو ضمن نطاق عمل تحضيري لإحياء البعض من هذه الاحتفالات.
لكن، مع ذلك، لم أكن قارئا مداوما لجبران في أحيان أقول إن ذلك راجع إلى أن واحدنا لا يعود إلى قراءة ما كان قد توقّف عن قراءته في فترة سبقت من حياته.
قراءة كاتب هي فترة من العمر الثقافي لكل منا، لذلك أراني مترددا في تصديق ما كان أفصح به كتّاب كبار أنهم قرأوا كتاب ألف ليلة وليلة، أو سواه، عشرين مرّة، أو ربما كان التكريس التام لكاتب ما يحول دون ذلك الفضول الذي يحتاجه القارئ، أقصد القارئ المفتون، وليس القارئ العادي.
لكنني أظل أتساءل دائما إن كانت كتب جبران ما زالت متداولة مثلما كانت في أيامنا.