نضال قوشحة
يعرف الجمهور العربي الأعمال التاريخية ويتابعها باهتمام، وتحديدا في الموسم الرمضاني الذي غالبا ما يقدم أعمالا تخص شخصيات تاريخية أو دينية. وعلى مدار سنوات لم يغب العمل التاريخي عن الشاشات العربية. وفي نهايات القرن العشرين وُجدت دراما تاريخية غريبة الشكل والمضمون، سميت بالفانتازيا التاريخية التي استطاعت خلال فترة وجيزة أن تخطف قلوب المشاهدين في العالم العربي، وتقدم دراما تاريخية مختلفة بمقومات جديدة. وراجت تلك الدراما بكثافة حتى وقت قريب. فهل حافظت هذه الدراما على مكانتها أم كانت ظاهرة ذهبت ريحها؟
في تعريف كلمة فانتازيا نجد أنها تعني معالجة موضوع درامي بخصوصية لا تتبع قواعد البحث والتاريخ الموثق، بل تبني لنفسها نمطا حكائيا قوامه الخيال والتشويق والإثارة، من خلال تقديم محفزات للجمهور الذي يستطيع من خلالها متابعة ما يهواه من حكايا البطولة والمغامرات. والكلمة مأخوذة عن الجذر الإنجليزي fantasy.
والفانتازيا وجدت كجنس إبداعي منذ أواسط القرن العشرين في الأدب الروائي، واعتمدت على إطلاق خيال المبدع ومن ثم المتلقي لفضاءات بعيدة الآفاق، معتمدة على الأساطير أو الملاحم وأحيانا القصص الشعبية البيئية. وكانت تتقاطع مع العديد من الأشكال الأدبية الموازية، منها أدب الخيال العلمي أو الأدب الطوباوي.
وظهرت الفانتازيا بوضوح في ما اصطلح على تسميته بالواقعية السحرية في الأدب التي راجت في أميركا اللاتينية خصوصا من خلال كتابات شهيرة لقامات روائية منهم غابريل غارسيا ماركيز وجورج آمادو.
وفي الدراما أعطت الفانتازيا مساحة واسعة للأعمال التلفزيونية التي لاقت شهرة واسعة خاصة في ما قدمته الدراما السورية من مسلسلات ناجحة مازالت إلى الآن تحظى بتقدير كبير رغم انحسارها.
بدايات ناجحة
النظر إلى الماضي لا يحتاج إلى الدقة
بدأ ظهور أعمال الفانتازيا التاريخية في الدراما السورية مع مسلسل “غضب الصحراء” الذي بدأ عرضه في شهر أبريل عام 1989، وهو من تأليف هاني السعدي وإخراج هيثم حقي. وفي العام ذاته قُدم عمل آخر بعنوان “البركان”، وكان أيضا من تأليف هاني السعدي وإخراج محمد عزيزية.
حقق العملان نجاحا كبيرا حين عرضهما واستحسن المتابعون السوريون والعرب هذا الشكل الفني الجديد الذي حررهم من صرامة المعلومات التاريخية وصراعاتها وقدم لهم حكاية تاريخية ناطقة باللغة العربية الفصحى، وتقدم في مكان وزمان افتراضيين. ثم غاب هذا الشكل الفني عن الأعمال الدرامية لسنوات حتى كان العام 1993، وقدم مسلسل “الجوارح”، الذي يعد البوابة الأهم في ترسيخ وجود هذا الشكل الفني في الدراما السورية.
المسلسل كتبه في ثالث تجربة له في الفانتازيا هاني السعدي والإخراج كان لنجدة آنزور الذي كان قادما من نجاح غير مسبوق لمسلسله الأشهر “نهاية رجل شجاع” للكاتب حسن م يوسف والمأخوذ عن رواية لحنا مينة تحمل نفس العنوان. وقد حقق المسلسل بقيادة نجدة آنزور نجاحا كبيرا إذ تمكن من تقديم لغة بصرية مختلفة في الدراما السورية والعربية.
نجاح آنزور في عمل “نهاية رجل شجاع” دفع مركز دبي للإنتاج إلى التصدي لتقديم مسلسل “الجوارح” الذي كان علامة بارزة في تاريخ الدراما العربية بوجود حشد من الفنانين الكبار في العمل وما رافقه من دعم إعلامي كبير وترويج فني صحيح. وجعل هذا المسلسل المحطة الأهم التي رسخت الفانتازيا التاريخية الدرامية في سوريا وصارت مطلوبة من الشاشات العربية، فاستغلت شركات الإنتاج هذا النجاح وقدمت سلسلة من الأعمال التي تندرج في هذا الصنف منها “الكواسر” و”البواسل” و”الجمل” و”المحروس” و”الموت القادم للشرق” و”العوسج” و”المسلوب” و”رمح النار” و”تل الرماد” وغيرها من الأعمال التي شكلت ظاهرة فنية استمرت سنوات وحققت وجودا مطلوبا لدى شرائح واسعة من الجمهور العربي الذي تلقفها باهتمام.
كثيرا ما تساءل أهل النقد في الدراما العربية عن الأسباب التي أوصلت هذا الشكل الفني إلى هذه المرتبة من النجاح. وكثيرا ما فسر هؤلاء الأمر مستندين على العديد من الأسباب كان منها أن الفانتازيا التاريخية تعتمد أسلوب التشويق والإثارة وتقديم حكاية لاهثة تلاحق تطورات أحداثها بعيدا عن أي شرطية مكانية أو زمانية وبذلك يتحرر الكاتب والمخرج من تقديم شخصيات تاريخية نمطية.
وهناك فريق آخر وجد في الفانتازيا التاريخية نمطا غلبت عليه لغة بصرية معتنى بها، تعتمد على صناعة كادر مليء بالألوان والإضاءة الخاصة، وهذا ما قدم نكهة جديدة في الدراما العربية احتاجها المتلقي وراقت له.
كما أنها نجحت في تقديم حكايات عن قصص عالمية أو مسرحيات بحيث أمكنها أن تحتمل وجود إسقاطات تاريخية وثائقية عن أحداث أو شخصيات بعينها.
كما أنها نجحت في تقديم حكايات عن قصص عالمية أو مسرحيات بحيث أمكنها أن تحتمل وجود إسقاطات تاريخية وثائقية عن أحداث أو شخصيات بعينها.
ورأى فيها البعض الآخر إمكانية الحديث عن بعض الشخصيات التاريخية دون الإشارة إليها، وبذلك يتخلصون من الدخول في صراع الوثيقة التاريخية والبحث عنها، والاصطدام الذي يمكن أن تحدثه صناعة مسلسل عنها، على وجه التحديد عندما تكون الشخصية متمتعة بمكانة سياسية أو دينية متغيرة ومتلونة.
البيئة الشامية
مسلسلات شكلت ظاهرة فنية استمرت سنوات وحققت نجاحا لدى شرائح كثيرة من الجمهور العربي الذي تلقفها باهتمام
بعض صناع الدراما السورية يصنفون الكثير من أعمال البيئة الشامية على أنها من أعمال الفانتازيا؛ كون هذه الأعمال لا تقدم بوضوح مكانا وزمانا محددين وتكتفي بمسرح الأحداث العام الذي هو مدينة دمشق. ويفترضون أن أحداث هذا النمط من المسلسلات هي من نسج الخيال، وأن القصص التي تقدمها لا تخص أيا من الحقائق والثوابت التي وثقها التاريخ.
ويرى بعض النقاد أن هذه الأعمال لا تقدم من البيئة إلا البيوت وأشكال العمارة والحي، بينما تغيب تفاصيل المكان والزمان على وجه التحديد، وهذا ما يتطابق مع مفهوم الفانتازيا التي لا مكان ولا زمان محددين لها.
وما زال هذا الأمر موضوع خلاف بشأن الكثير من مسلسلات هذه البيئة التي لم تقدم مكانا واضحا حدثا محددا إلا من قلة منها، كما في “الحصرم الشامي” الذي كتبه فؤاد حميرة من كتاب “حوادث دمشق اليومية” للبديري الحلاق أو “طالع الفضة” أو غيرهما.
الترفيه والإبهار
عندما بدأت موجة الفانتازيا التاريخية بالظهور استطاعت أن تحقق مراتب متقدمة على صعيد الانتشار وبالتالي كثافة الإنتاج، وصارت نمطا فنيا موجودا في كل المواسم التي يشاهدها الناس، وفي الموسم الرمضاني على وجه التحديد. لكن هذه الموجة أخذت تنسحب تدريجيا بعد ما يقارب العشرين عاما من وجودها ولم تعد تحظى بالأهمية ذاتها التي كانت عليها، لتحل مكانها أنماط أخرى أهمها الأعمال الاجتماعية.
ورغم انحسار الفانتازيا فإنها لم تختف أبدا عن إنتاجات الدراما السورية حتى الأيام الحالية. وفي البحث عن الأسباب التي أدت إلى تراجع مكانة الفانتازيا عن الاهتمام يظهر رأي يرى أن الفوضى السياسية والاجتماعية العارمة التي تهز أركان المجتمعات العربية بعد عام 2011 والتيارات الفكرية العميقة التي أوجدتها هذه الظروف لم تعودا تسمحان بظهور دراما تتحدث عن الخيال، وصار مطلب الناس في هذه المرحلة متابعة أعمال درامية يرون فيها تفاصيل يومياتهم من بؤس وشقاء في ملاحقة لقمة العيش ومتطلبات الزمن.
الظروف التي ذكرناها أدت مجتمعة إلى تراجع كمي كبير في طلب الفانتازيا التاريخية، وصارت في نطاق التجارب الضيقة التي تحمل غالبا مقولات سياسية كبرى تناسب ذهنية سياسية أو دولية محددة.
كما يرى البعض أن الإبهار البصري الأول الذي قدمته قد زال تأثيره بعد سنوات من العمل عليه وبعد ظهور جيل من المخرجين السوريين ومدراء التصوير الذين أتقنوا فن اللعبة، وقدموا مستويات بصرية عالية المستوى، جعلت من الشكل البصري للفانتازيا التاريخية شكلا اعتياديا لا يشكل عامل جذب للمتلقي.
موجة الدراما الفانتازية أخذت تنسحب تدريجيا بعد ما يقارب العشرين عاما من وجودها ولم تعد تحظى بالأهمية ذاتها
لم يقبل البعض من الجمهور أعمال الفانتازيا واعتبروها ضعيفة فكريا تقدم فنا للترفيه وتتطلب الإبهار البصري، ورأوا أنها مهرب من إمكانية تقديم أعمال تاريخية تقدم معلومات تمثل تيارات فكرية أكثر عمقا.
وكثيرا ما تحدث بعض نقاد الفن عن أن الفانتازيا تلغي الحوار الذي يمكن أن يسببه طرح عمل تاريخي محدد الملامح والمرجعيات من حيث تناقض الأفكار، وبالتالي الحوار الذي يمكن أن ينشأ بعده. وأن الأعمال على هذا الشكل تكون باردة كونها تقدم حكايا لا تنتمي إلى مكان أو زمان محددين، وكل ما يمكن أن تقدمه من أفكار سيكون تحت عنوان أن هذه الأحداث خيالية ومفترضة لم تعتمد على وثائق تاريخية.
ويشير هؤلاء النقاد إلى ضرورة أن تكون للعمل الفني ضوابط فكرية وتاريخية محددة، وأن يكون مرتبطا بنسيج تاريخي مدروس وأن يقدم مقولة فكرية محددة، وإلا فإنه سيكون عملا ترفيهيا لا قيمة كبيرة له.
وعلى عكس هؤلاء يرى قسم كبير من متابعي الدراما العربية والسورية خصوصا أن الفانتازيا التاريخية شكل فني غني، شكّل بوجوده قفزة نوعية كبرى إلى الأمام، وأن الدراما العربية من خلال هذا النمط تمكنت من طرح مقولات فكرية هامة لم يكن باستطاعة الدراما التوثيقية أن تقدمها بسبب هيمنة أجهزة الرقابة المحلية التي توجد في كل التلفزيونات العربية.
واستند داعمو الأعمال الفانتازية إلى التراث العربي الذي لعبت فيه حالة الفانتازيا دورا كبيرا في وجود آثار عربية كبرى سارت على هذا المنهج، وأشهر هذه الأعمال حكايات “ألف ليلة وليلة” و”كليلة ودمنة” و”حي بن يقظان” والعديد من القصص والأعمال الأخرى.
الفانتازيا لم تغب
رغم تضاؤل حضور الدراما الفانتازية العربية على الشاشات فإن هذا الشكل الفني لم يتوقف تماما عن الظهور، إذ مازالت الدراما السورية تنتج أعمالا في الفانتازيا، والبعض منها على مستوى الإنتاجات الكبرى.
في عام 2017 أنتج مسلسل “أوركيديا” الذي كتبه عدنان عودة وأخرجه حاتم علي في محاولة نادرة له في مجال الفانتازيا. قدم فيه صورة عن صراع شرس بين ممالك مختلفة والمؤامرات التي تحاك من قبل الملوك والوزراء الذين يشكلون دعائم هذه الممالك.
ومن الأعمال الحديثة التي أنتجتها الفانتازيا مسلسل “وحدن” 2018 الذي كتبته ديانا كمال الدين وأخرجه نجدة آنزور، والذي قدم حكاية افتراضية في مكان وزمان افتراضيين عن جماعة تعيش في مكان وزمان ما، تعترض حياتها مخاطر من عصابات سكنت في الجوار، وكشف أيضا عما قدمته النسوة خلال تلك الحرب من أعمال قتالية.
ثم أنتج بعده عمل “الحرملك” عام 2019، كتابة سليمان عبدالعزيز وإخراج تامر إسحق، وهو المسلسل الذي شارك فيه فنانون عرب كبار، وقدم آخر فترة الدولة المملوكية في مصر والشام وسيطرة الدولة العثمانية. وقدم العمل مرحلة الحروب والمكائد التي كانت تجري بين الأمراء وأصحاب القرار وصدامات السلطة التي حدثت آنذاك. والعمل مؤلف من تسعين حلقة وسيظهر في جزأين لاحقين للأول خلال العام الحالي والقادم.
نقلا” عن العرب اللندنية