محمد أبوالفضل
“الصعايدة”.. ليسوا من كوكب آخر، فهم يعيشون ومنسجمون ومنصهرون على أرض مصر، وساهموا بشكل فعال في البناء والتطوير على مدار التاريخ القديم والحديث، ولا تخفي الإساءة من أحد المذيعين لهم عن مساهمتهم المتجذرة والناجحة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمصر.
أنا كصعيدي أضحك على من يرددون نكتة أن أحد الصعايدة اشترى الترامواي في القاهرة، لأنها تعكس حجم السذاجة والفكاهة والصورة النمطية السائدة عن سكان الصعيد، وهم من يقطنون جنوب مصر، بدءا من محافظة بني سويف وحتى محافظة أسوان على طول نهر النيل جنوبا، مرورا بمحافظة الفيوم في جنوب غرب القاهرة.
انتشرت قصة الصعيدي والترامواي منذ عقود طويلة كرمز على عفوية السكان، حيث قيل في الأثر الشعبي إن أحدهم عندما حط في القاهرة لأول مرة ومعه مبلغ من المال عرض عليه أحد سكانها الخبثاء شراء الترامواي، وهو ملك للدولة، وكان وسيلة مواصلات رئيسية في ذلك الوقت، حتى تمكن القاهري من سرقة الصعيدي.
قللت الحداثة من وقع هذه النكتة وغيرها على أصحابها الأصليين، لكن لا تزال تتردد من حين لآخر لدى من كوّنوا صورة نمطية عن الصعايدة، ولم تطأ أقدامهم أرض الصعيد “الجواني”، والمقصود به سكان محافظات أسيوط وسوهاج وقنا.
الحداثة ربما أخفقت في تغيير الصورة السلبية عن سكان جنوب مصر، لكنها نجحت في صهر غالبية السكان في نسيج وطني
عادت إلى الواجهة نغمة الصعايدة مرة أخرى عندما أشار أحد المذيعين إلى أن رجالهم يتزوجون لينجبوا أطفالا، ثم يقومون بإرسالهم إلى القاهرة للعمل كخدم في البيوت، وهو ما أثار ضجة، انتهت بتوقيفه عن العمل وسحب رخصة مزاولة المهنة منه.
دعك من التعميم الأبله الذي تفوّه به، فأنا كصعيدي مقيم منذ أربعين عاما في القاهرة، درست فيها وأعمل بها وأقيم في حي من أفضل أحيائها، لم يصادفني النموذج الذي يتحدث عنه الإعلامي الشهير، ولدي شاب وفتاة يدرسان في أرقى أنواع التعليم بمصر، هكذا غالبية عائلتي وأصدقائي ومعارفي، ولم أشاهد النماذج التي تحدث عنها المذيع، كي يثبت أن الصعايدة هم سبب أزمة السكان في مصر، متصورا أنه ينافق السلطة، والتي لم تقبل نفاقه، وقامت بمعاقبته.
ودعك من تكرار مشاهد رسختها بعض الأعمال الدرامية حول الصعايدة، بوصفهم أحيانا “كائنات جاءت من كوكب آخر”، في الغلظة والبلاهة وعدم المسؤولية.
وركز على أسماء كبيرة تنتمي إلى صعيد مصر، بدءا من رئيس الجمهورية الراحل جمال عبدالناصر والكثير من الوزراء والمسؤولين على مدار تاريخ مصر الحديث والمعاصر، وحتى الثقافة والفنون والآداب والعلوم، والقائمة طويلة بصورة يصعب حصرها، وعندما نبغت وتبوأت أسماء وقيادات عديدة مناصب عليا لم يكن ذلك بوصفهم ينتمون لإقليم الصعيد، بل بوصفهم من المصريين الشرفاء.
تشعب الجغرافيا وتداخلها
تتشعب وتتداخل الجغرافيا السياسية في الصعيد بشكل يصعب وصفه، فلا أنا أو غيري ممن يعملون في مجال الإعلام يمكن تفرقتهم عن الآخرين، لا في لون البشرة أو اللهجة أو الملبس أو السلوك الحضاري، حتى مسألة ميل سكان الصعيد للبشرة الداكنة (السمراء) نسبيا غير دقيقة، فأنا من عائلة معظم أبنائها وبناتها من ذوي البشرة البيضاء، وهذا لا يدل على عراقة أو بساطة، إنما يدل على عمق الانصهار الاجتماعي لدى سكان الصعيد.
كما أن فكرة الثأر والنعرات القبلية الرائجة تراجعت كثيرا في الصعيد، ولم تعد الصورة التي خلقتها بعض الأفلام سائدة حتى الآن. فقد ألقت الحداثة بظلالها الإيجابية عليها كثيرا، وباتت مشكلات الصعيد تنتمي إلى مشكلات مصر الرئيسية، مثل الفقر والبطالة والأمية، وحتى فكرة الإهمال التي صاحبت محافظات الصعيد قديما، وجعلت عددا كبيرا من سكانها يتجهون شمالا إلى القاهرة، خفت في الآونة الأخيرة، مع زيادة اهتمام الدولة بالتنمية ومشروعات الإسكان الممتدة في صعيد مصر.
تستثنى من معادلة الصعيد كل من محافظة الأقصر وأسوان، بسبب تراجع حدة النعرات القبلية فيهما، ورواج السياحة وما أحدثته روافدها المختلفة من تطورات حضارية على سلوك السكان التي زادت مع نزوح الكثير من العاملين في القاهرة إلى الجنوب، وليس العكس، كذلك من محافظات الوجه البحري، المقصود بها مدن وقرى منطقة الدلتا، شمال القاهرة، ومحافظة الإسكندرية على البحر المتوسط.
تصنيفات وفروقات
فكرة الثأر والنعرات القبلية الرائجة تراجعت كثيرا في الصعيد ولم تعد الصورة التي خلقتها بعض الأفلام سائدة حتى الآن
تبدو مصر كتلة سكانية متماسكة، لكن هناك تصنيفات وفروقات في الأعراف والتقاليد والمخيّلة الاجتماعية، وتفاوت في اللهجات المحلية، يمكن أن تؤثر على الشخص المنتمي لكل منطقة أو محافظة.
وإذا كان سكان الصعيد معروفين بشدة بأسهم وعصبيتهم القبلية والتمسك بالعادات والطيبة لحد السذاجة، فسكان مدن القناة، على طول خط قناة السويس (بورسعيد والإسماعيلية والسويس) يذكرون بصلابتهم التي صبغتهم منذ مقاومتهم الباسلة للعدوان الثلاثي الذي شنته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مدنهم عام 1956.
يتصف سكان المدن الساحلية، مثل الإسكندرية بالتحضر، نتيجة ما ورثوه من ثقافات متعددة (كوزموبوليتانية) على مدار تاريخها الذي انصهرت فيه ثقافات أوروبية متباينة، منحتها ميزة الأفق الواسع والقدرة على استيعاب الآخر، ورغم انتهاء هذه الحقبة ونمو الأفكار السلفية والمتشددة لدى شرائح فيها، فإنها تبقى رمزا للانفتاح.
في العرف المصري، لا تزال منطقة سيناء، في الشمال والوسط، وتستثنى جنوب سيناء التي تحولت إلى منطقة سياحية جاذبة، رمزا للبداوة، مع محافظة مرسى مطروح في أقصى شمال غرب مصر، بالقرب من البحر المتوسط.
يطلق على سكان شمال مصر، دلتا النيل أو دلتا مصر، وتضم المحافظات التي تقع بين فرعي رشيد ودمياط، المتفرعان من نهر النيل، وصاحبهم قديما لقب “الفلاحين”، نسبة إلى عملهم بالفلاحة والزراعة.
تغيرنا كثيرا
وما يؤكد أن وصفي الصعايدة والفلاحين ليسا سبّة في جبين أصحابهما، أوبريت الليلة الكبيرة الشهير الذي جاء فيه “دول (هؤلاء) فلاحين ودول صعايدة”، كلمات صلاح جاهين وألحان سيد مكاوي، والتي لا تزال تلقى رواجا حتى الآن.
ناهيك عن تقسيمات أخرى داخلية، كأن يوصف سكان محافظتي البحيرة ودمياط في منطقة الدلتا أيضا بالبخل والحرص الشديد وحسن التدبير، أو يوصف سكان قنا بالطيبة الشديدة والجدعنة، وسوهاج بالشطارة في التجارة، بينما يوصف سكان أسيوط بالقسوة الشديدة، وتنتمي المحافظات الثلاث إلى الصعيد.
عند مد الخيط على استقامته نجد صفات ومسميات مختلفة على سكان مصر، لكن كلها تنصهر ضمن نسيج وطني واحد، بحيث يصعب إعطاء فرصة لأي محاولات للعب على الوتر المناطقي الذي راعته جميع الأنظمة المصرية، وحتى البؤرة الساخنة المعروفة بمنطقة النوبة في أقصى جنوب مصر بمحافظة أسوان، بالقرب من الحدود مع السودان، انتبه إليها مبكرا الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.
بين النوبة والأقباط
استغل عبدالناصر التوسعات التي صاحبت بناء السد العالي والبحيرة التي تحتجز كميات كبيرة من المياه، لإعادة توزيع سكانها على مدن مصرية عدة، وتقويض اللحمة الاجتماعية والثقافية المتماسكة التي تميزها، مع ذلك لا تخلو من منغصات يثيرها البعض بسبب مطالبات بالعودة إلى ديارهم ومنطقتهم الأصلية، وهو ما تحاول بعض المنظمات الدولية توظيفه في الضغط على مصر، والإيحاء بأن بها أزمة إقليمية.
تدارك النظام المصري الحالي نمو أزمة في سيناء، بعد أن وجد تسريبات كثيفة أميركية وإسرائيلية للاهتمام بها مؤخرا كوطن بديل للفلسطينيين، وجرى ربطها بالوادي والدلتا، وشق مشروعات تربط شرق قناة السويس بغربها، وزيادة مخصصات التنمية لصهر سكانها في النسيج الوطني، وإنهاء ما كان يوصف بالعزلة كي لا تواجه الدولة المصرية بأزمة ساخنة في ظل إشارات توحي بإعادة تقسيم المنطقة العربية.
تبقى شريحة الأقباط (مسيحيو مصر) من بين القضايا الحيوية التي كانت تطفو مع كل أزمة بين مسلم ومسيحي، وبذل النظام المصري جهدا لتعزيز فكرة المواطنة عقب قيام جماعة الإخوان باستثمار هذه الورقة بعد إزاحتها عن السلطة منذ نحو سبعة أعوام، وبعث الاهتمام بشؤون الأقباط وتلبية جزء كبير من مطالبهم برسائل اطمئنان، وتراجعت حدة الانتقادات بعدم المساواة بين المسلمين والأقباط.
لم تمثل الأزمة مع الأقباط في أي وقت مشكلة مناطقية، لأنهم لا يتجمعون في إقليم واحد على الأطراف، فإذا كانوا يمثلون نحو 10 في المئة من سكان مصر، البالغ عددهم نحو 105 ملايين نسمة الآن، فهذه النسبة موزعة على أنحاء الدولة التي تمتد لحوالي مليون كيلومتر مربع، ولا يوجد إقليم خاص بهم، قد توجد منطقة مكتظة أكثر من غيرها بهم، مثل شبرا في وسط القاهرة، لكن تحيط بهم تجمعات كبيرة للمسلمين.
ربما تكون الحداثة أخفقت في تغيير الصورة السلبية عن سكان جنوب مصر، بحكم الموروثات الشعبية، لكنها نجحت في صهر غالبية سكان الدولة في نسيج وطني، بما يقلص توظيف الأبعاد الإقليمية والطائفية، كما يحدث في دول أخرى، وهذه واحد من عبقرية الزمان والمكان والشخصية التي تحدث عنها المفكر المصري الراحل جمال حمدان في موسوعته التي تناولت الجغرافيا السياسية لمصر على مدار تاريخها.
المصدر : العرب