مصطفى عبيد
ونحن نقرأ الروايات العربية المعاصرة قد ننقسم ذوقيا بين من يرى أن لغتها فضفاضة ومترهلة ومثخنة بالسوقية والألفاظ البذيئة و”الشوارعية”، إضافة إلى أن هناك من يرى أنها تحرّرت من قبضة اللغة الخشبية الجافة التي لا تعبر عن الواقع ولا تعكسه. وبذلك تطوّر هذا الجدل من مسألة ذوقية إلى رقابة أخلاقية على النصوص الإبداعية بمحاكمة الكتّاب ومنع مؤلفاتهم. وفي الجهة المقابلة وجد بعض الكتّاب الفرصة مناسبة ليحبّروا روايات لا شيء فيها عدا كلمات نابية قد تلفت نظر الرقيب فتُمنع الرواية ويشتهر الكاتب. لكن أين مصلحة الأدب والقارئ في كل هذا؟
يتجدد الجدل كل حين ليتكرر السؤال القديم الجديد عما إذا كان من حق المبُدع اللجوء إلى استخدام الألفاظ الخارجة عن اللياقة، والكلمات النابية لتوظيفها ضمن نصه الأدبي. وبات من الواضح أن أجيال ما بعد ثورة التكنولوجيا لا تقبل حدودا للغة، وترى أنه في ظل السماوات المفتوحة، وسرعة وسهولة نقل المحتوى الكلامي، لم يعد هناك ممنوع أو مرفوض أدبيا.
وصار صحيحا أن كل حادث منع لنص، أو مواجهة صاحبه قضائيا خارج نطاق الحوار الثقافي، يُخلف توهجا لصاحبه، بعيدا عن مستوى العمل فنيا.
وأمكن لنصوص عديدة أن تلمع وتنتشر وتعلو لمجرد أنها تحتوي على كلمات خارجة عن الذوق العام، وقبيحة، وتُمثل خروجا مكتملا عن آداب وأعراف المجتمع.
إشارات جنسية
لكل شخصية لغتها (لوحة للفنان باسم دحدوح)
استثمر البعض كسر المألوف، وصناعة الصدمة، ومخالفة السياق العام، في لفت النظر، بالاستناد إلى كون الإبداع انسياح وجداني غير مُحدد بسياج، والإيمان بأن الأدب ساحة حُرية، وأصحابه مؤيدون لفكرة أن الواقعية تستدعي الصدق الإنساني، ما يُلزمهم بنقل أوصاف وكلمات، تبدو مُستهجنة ومحل استياء للقارئ، لإيصاله إلى الحالة المفترض التعبير عنها من دون تلميح أو رمزية.
لم يكن غريبا أن يلجأ البعض من الروائيين إلى تداول كلمات جنسية نابية ضمن سياق الحوار المستخدم داخل النص، لتتكرر أسماء الأعضاء التناسلية العامية، وتعبيرات السباب والشتائم، كما في روايات حديثة، ما شكل صدمة لدى المجتمعات المحافظة، وأسهم في نشوء نظرة استفهام واستنكار لدى جانب منها تجاه الأدب والثقافة.
دعاء إبراهيم: الإبداع لا يقاس بمعيار الذوق العام والأخلاق أو ردة فعل القارئ
وسمحت موجة استدعاء لغة العوام أدبيا، لرقباء الثقافات بالانتعاش ومنحهم الفرصة لممارسة دور الوصاية الأخلاقية، ومحاكم التفتيش على الأعمال الإبداعية بحجة حماية الذوق العام، وعدم خدش الحياء.
ولم يكن غريبا أن تُثار بين حين وآخر ضجة هنا أو هناك تجاه نص أدبي ما لاحتوائه على كلمات جنسية صريحة، حتى لو كانت موظفة داخل السياق الأدبي، ما جعل الأمر بمثابة اختيار بين شرّين مطلقين، إما الاستسلام لتقييد الإبداع تماما، وإما الانسياق وراء توظيف الكلمات الخارجة عن معروف الخطاب لجذب الانتباه.
قد لا يحتاج الأمر إلى تصرف أو تدخل، فالسوق الأدبية والانطباعات الشخصية لجمهور القراءة في العالم العربي، تصحح مسارات الإبداع كل حين، والقارئ يكتسب مع الوقت القدرة على استيعاب ما يراه جديرا بوصفه إبداعا مع الوقت، وهو ما تؤكده سوزان مروان، طبيبة مصرية، اعتادت قراءة كافة الروايات الصادرة حديثا في سوق الأدب العربي.
وتقول لـ”العرب” إنها اكتسبت مع الوقت الخبرة الكافية التي تدفعها إلى عدم الانجرار وراء رفض أو قبول عمل ما بسبب انطباعات آخرين أو انتقاداتهم للعمل بذريعة أنه يحتوي على كلمات خارجة عن الذوق العام.
وتضيف قد يسمح السياق الأدبي في بعض الأحيان باستدعاء كلمات عامية للدلالة على توصيفات بعينها دون أن يُمثل ذلك إسفافا، فالجمهور العربي يتابع مسلسلات وأفلام غربية وينبهر بحكاياتها، رغم احتواء بعضها على كلمات خارجة عن المألوف.
حمدي الجزار: البذاءة هي الخوض في الأعراض والإساءة إلى الآخرين وسبهم
تثور موجات تشنيع على بعض الأدباء بسبب ورود ألفاظ خارجة عن اللياقة في نصوصهم، لكن ذلك يُترجم إلى مناقشات مستفيضة وتقييم فعلي لأعمال هؤلاء، مثلما هو الحال مع الروائي المصري أحمد مراد، حيث تعرض للانتقاد بسبب روايته الأحدث “لوكاندة بئر الوطاويط”، التي تضمنت ألفاظا يعتبرها المجتمع بذيئة، ومستوحاة من أمثال شعبية قديمة.
في تصور البعض من المبدعين، تمثل عملية وضع أوصياء على الإبداع بحجة حماية الأخلاق ردة حضارية لا يجب الاستسلام لها، والرد على الكلمة لا يكون إلا بالكلمة.
ويؤكد الروائي المصري أحمد عبدالمجيد، صاحب رواية “عشق” أنه “من حق الكاتب فعل ما يراه مناسبا لعمله، وإذا وضع على نفسه قيودا من أي نوع، فإن ذلك يقلل من تلقائية ومصداقية عمله”.
ويشير في حديثه لـ”العرب”، إلى أن الروائي في بعض الأحيان قد يقدم شخصيات بذيئة أو متدنية، ويجد نفسه ملزما باستخدام بعض الألفاظ البذيئة، لأن خلفيات هذه الشخصيات تحتم عليه أن يستعمل خطابها بتلك الطريقة، وعليه أن يترك الشخصيات تتحدث كما يتصور وفق البناء الأدبي لها، ولا يتدخل في الأمر.
ويلفت عبدالمجيد إلى أن الكاتب إذا كان متمكنا من أدواته، فبإمكانه أن يجعل شخصياته تتحدث بألفاظ خارجة عن اللياقة دون أن يشعر القارئ بالضيق منها، لأن الأمر يأتي هنا بتلقائية، وفي سياقه المناسب وبشكله الفني، أما إذا شعر القراء أن تلك الألفاظ مقحمة وثقيلة الوطأة على النفوس، فلنا أن نتساءل حينها عن هدف الكاتب من استخدامها، وما إذا كان هناك مبرر فني أم لا، وفي المجمل لا يعني ذلك أن المبدع ممنوع من إبداعه.
ويبدو هذا الأمر واضحا عندما تعرض الروائي التونسي كمال الرياحي لانتقادات واسعة، بسبب ما اعتبره البعض إقحاما للبذاءة والكلمات الصادمة في روايته “عشيقات النذل”، وهو ما جعله يرد بأنه يكتب عن مجتمع لصوص ومجرمين، ومن الطبيعي أن يتحدثوا بلهجة مبتذلة.
المعيار الفني أولا
موجة استدعاء لغة العوام أدبيا سمحت لرقباء الثقافات بالانتعاش ومنحهم الفرصة لممارسة دور الوصاية الأخلاقية
توضح الروائية الشابة دعاء إبراهيم، لـ”العرب”، أنه يصعب قياس الإبداع بمعيار الذوق العام، أو ردة فعل القارئ، أو وفقا للمعايير الأخلاقية، فالمقياس هو جودة النص، فلا يمكن تقديم إجابة مطلقة عن أي شيء في ما يخص العمل الأدبي لأن الأمر يعود إلى كيفية توظيفه لخلق عمل يمتاز بالإبداع.
ولا تجد دعاء إبراهيم كقارئة أي مشكلة في قراءة كلمات نابية في عمل ما، طالما أن ذلك جاء في إطار أدبي تفرضه شخصيات وواقع العمل.
أحمد عبدالمجيد: حسب الشخصيات بذيئة أو متدنية يغير الروائي ألفاظه
لكن المشكلة تكمن في الجمهور العام غير الممارس لفعل القراءة، أو المتابع للروايات الحديثة، مثلما حدث مع فصل من رواية للروائي أحمد ناجي التي نشرت قبل عامين في جريدة “أخبار الأدب” المصرية فاعتبرها غير المُلمين بالأدب تحريضا على الفسوق وخدشا للحياء العام.
وتضمن المنشور من الرواية بعض أسماء الأعضاء الجنسية باللهجة العامية، ما شكل دافعا لبعض الرقباء إلى التقدم ببلاغات لجهات قضائية بإحالة الكاتب على القضاء، وهو ما انتهى بالفعل إلى سجنه لمدة عام.
وكتب ناجي، بعد الإفراج عنه، على مدونته بأن روايته كلها لم تتضمن أي تجاوز للخطوط الحمراء، فليس فيها سياسة، ولا هي مهتمة بالجوانب الدينية، ولا يوجد فيها محتوى جنسي خادش، ولا يمكن مقارنة ما ورد فيها بما هو موجود في الأدب العربي القديم.
ودافع عن حقه كمبدع في استخدام ألفاظ سوقية وفق سياق الرواية، مؤكدا أن للكلمات البذيئة حلاوة على اللسان، وطاقة يدركها الجميع، لذلك عند الغضب تخرج تلك الكلمات لا إراديا من فم الجميع.
في تحليله لنبذ الألفاظ مُجتمعيا يقول “إن بعض الكلمات حجبت ونبذت من الأدب العربي منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن، بدواعي الحشمة وظهور طبقة برجوازية مُتمدنة ومتعلمة مع مشروع التحديث العربي، وأرادت هذه الطبقة التي درست للمرة الأولى في جامعات علمانية أن تخلق لنفسها لغة تستخدمها في الإعلام والأدب تميزها عن الطبقات الأدنى، وتضعها في قطيعة مع التراث الذي تحاول أحيانا التملص منه أو التوفيق بينه وبين متطلبات الحداثة”.
أسامة الشاذلي: أرفض الكلام النابي فمهمة الأديب هي الارتقاء بالسلوك
في اعتقاد البعض من الأدباء أن استخدام التوصيفات أو أسماء الأعضاء الجنسية أو الإشارة إليها لا يمثل خروجا عن الآداب العامة.
ويؤكد الروائي المصري حمدي الجزار، لـ”العرب”، أن مَن يطالع كتب التراث العربي يجد ألفاظا متنوعة تُشير إلى التفاصيل الجنسية على سبيل التفكه، دون اعتبار ذلك من الفواحش، فالبذاءة هي الخوض في الأعراض والإساءة إلى الآخرين وسبهم.
وهناك مشكلة أخرى تتمثل في قيام السلطة السياسية أحيانا في أي دولة برفع سيف الأخلاق لحظر إبداعات لها جوانب وانعكاسات عليها غير مباشرة.
ويتذكر كثيرون قيام السلطة الفلسطينية قبل عامين بحظر رواية “جريمة في رام الله” للروائي الفلسطيني يحيى عباد، بذريعة احتوائها على كلمات نابية، بينما كانت الرواية تتعرض لواقع سياسي واجتماعي قاس.
وقد تلعب المصادفات والانتقائية دورا في التعريض بكاتب وتجاهل آخر دون قوانين واضحة، فالروائي المصري أشرف الخمايسي، الذي يُقدم نفسه باعتباره كاتبا متعاطفا مع التيار السلفي انتقى ألفاظا جنسية صريحة تدعو إلى ممارسة العلاقة الجنسية بألفاظها العامية في روايته “منافي الرب”، لكن أحدا لم يطالب بمحاكمته أو يتهمه بخدش الحياء.
أمير تاج السر: لا أحبذ استخدام الألفاظ الخارجة عن اللياقة في رواياتي
ويبقى على الجانب الآخر مَن يرون أن لغة الأدب يجب أن تبقى جميلة ولا تنزلق إلى مستوى العبارات التحتية المبتذلة، ويرى هؤلاء أن الكثير من المبدعين الجدد يحاولون الظهور، اعتمادا على توصيفات مُخلّة وكلمات نابية، وهو أمر مستهجن لا يعكس جمالا أو ثراء لغويا، ولا تعني واقعية الفن أبدا واقعية اللغة، فالمبدع يمكنه إيصال ما يريده دون إسفاف.
ويرفض الروائي المصري أسامة الشاذلي، استخدام الألفاظ النابية أو الخارجة عن المألوف في القصة أو الرواية، حتى لو كان ذلك تعبيرا على الواقعية.
ويقول لـ”العرب”، إن هذا يمثل انحرافا عن مهمة الكاتب الذي يمارس عملا يُسمى بالأدب، فهو يرتبط ارتباطا وثيقا بالتهذيب والارتقاء بالسلوك والمشاعر الإنسانية.
ويستند الشاذلي إلى أن الأديب الراحل نجيب محفوظ، وهو إمام الواقعية في الرواية العربية، كتب عن الصعاليك واللصوص والمهمشين، وذكر على ألسنتهم شتائم، لكن لم تكن خارج سياق الذوق العام.
ويذكر الأديب السوداني أمير تاج السر، لـ”العرب”، أنه لا يحبذ استخدام الألفاظ الخارجة عن اللياقة في رواياته، وأرجع التوسع فيها لدى البعض إلى وجود رغبة في صناعة الدهشة والاستغراب في الموجات الجديدة من الإبداع، فكل ما يستخدم في مواقع التواصل الاجتماعي يتم نقله على الورق بكل سهولة.
المصدر : العرب اللندنية