كريتر نت – العرب
تبنّي الدولة الكويتية في خطابها السياسي والإعلامي لجهود الارتقاء بوضع المرأة وملاءمة أوضاعها مع ما تقتضيه القوانين الدولية ومنظومة حقوق الإنسان العالمية، لا يواكبه عمل مكتمل على تطوير التشريعات الضامنة لمنح المرأة مختلف حقوقها وإنهاء التمييز ضدّها لمصلحة الرّجل، الأمر الذي أنتج حالة من “الفُصام” تعمّقها سيطرة قوى إسلامية وقَبَلية على مواقع هامّة في الدولة ومشاركتها بفعالية في عملية صنع القرار وسنّ التشريعات، فضلا على سطوتها على المجتمع وقدرتها على تكييف سلوكه وأخلاقياته.
لا يزال وضع المرأة في الكويت، رغم التطورات الملموسة التي طرأت على المجتمع، محكوما بضوابط تقليدية تحرسها وتسهر على حمايتها من رياح التغيير قوى إسلاميةٌ وقَبَليةٌ ذات سطوة وتأثير ليس على المجتمع وحده، ولكن أيضا على الدولة ومؤسساتها وقوانينها، الأمر الذي يفسّر صمود قانون عفا عليه الزمن يشرّع للقتل بذريعة الدفاع عن الشرف، على الرغم من كثرة المطالبات بتغييره.
ويتعلّق الأمر بالمادّة 153 من قانون العقوبات الكويتي الذي يتضمّن تشجيعا غير مباشر على قتل النساء بتهمة الزنى من قبل الذكور من عائلاتهنّ، وذلك بإقراره عقوبات مخفّفة على من يؤتون تلك الجريمة تُظهر أنّ مشرّع القانون تجنّب التعامل مع مثل تلك القضايا كجرائم قتل عادية وحرص على عدم معاملة مقترفيها معاملة القتَلة.
وسلّط تقرير أعدّته لموقع “آراب دايجست” الناشطة الاجتماعية الكويتية المعنية بالقضايا الإنسانية وحقوق المرأة نور المخلد، الضوء على ما تنطوي عليه المادّة القانونية سيئة الصيت من تمييز ضدّ المرأة في بلادها يصل حدّ وضع حياتها رهن ما يعتبره شخص آخر هو الرجل “شَرَفه” الذي يبيح له قتلها “دفاعا” عنه إنْ اقتضى الأمر ذلك.
ولا تتوقّف خطورة المادة القانونية عند تشجيعها على الجريمة وحماية مقترفيها، بل تتعدّى ذلك إلى ما يمكن أن توفره من غطاء لاقتراف جرائم لا صلة لها بـ”الشرف” المزعوم عندما “تُقتل فتاة اعتراضا على عملها، ويُهدر دم أخرى ودم جنينها رفضا لزواجها، وتُضرب أخرى بسبب انشغالها بمواقع التواصل عبر الهاتف حتى تختار الموت وتهون عليها حياتها”، بحسب قول إحدى المدافعات عن إلغاء تلك المادّة.
تشوّه في الخليّة الأولى
يلقى قانون العقوبات الكويتي رغم تأثيره السيّئ على سمعة الكويت التي لا تنفكّ تسعى إلى ملاءمة أوضاعها مع المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، والارتقاء قدر الإمكان بأوضاع نسائها وتوسيع مشاركتهن في الحياة العامّة، سندا من قوى دينية مشاركة في الحياة السياسية وذات تأثير في صنع القرار وصياغة سياسات الدولة وتشريعاتها من خلال تواجدها المنتظم سواء في الحكومة أو البرلمان.
وكثيرا ما يشكو الكويتيون مما يسمّونه تسلّط “قوى دينية متشدّدة” على المجتمع ومحاولتها ممارسة الوصاية عليه، ويقولون إنّ دور هؤلاء ليس عديم التأثير في بعض سياسات الدولة وصياغة قوانينها، محذّرين من أنّ أخطر تأثير لهؤلاء هو ما يمسّ قطاعات حساسة مثل التعليم.
153
رقم مادة سيئة السمعة في قانون العقوبات الكويتي تتضمّن تشجيعا غير مباشر على قتل النساء بتهمة الزنى
ثم إن لعقلية “سيادة الرّجل وفضله” على المرأة جذورا أعمق تمتّد إلى داخل الخلّية الأولى للمجتمع وهي العائلة التي تُربّي أبناءها منذ نعومة أظفارهم على تمييز الأبناء على البنات والتسليم به كأمر واقع وكسلوك طبيعي في الحياة اليومية، فعند الخروج من المنزل – يقول التقرير- يطلب الوالدان من الابن “الاعتناء” بأخته بغض النظر عن عمر كلّ منهما، بدلا من مطالبة كليهما بالاعتناء ببعضهما البعض. كما يطلبان من شقيق الابنة التحدث باسمها أو الدفاع عنها. وأثناء الذهاب في رحلة بالسيارة، سيجلس الابن بلا شك في المقعد الأمامي، كما لو أنه رمز قوي يشير إلى الرجولة. وحتى لو طُبّقت هذه الممارسات دون نوايا، فإنّها تخلق تمييزا خطيرا بين الجنسين، يُلمس بوضوح لدى الأسر الكويتية، وفي المجتمع، وداخل النظام ككل.
ويُلمح الدعم المؤسّساتي لهذا التمييز في القوانين التي تمنح الرجال شبكة أمان عند إيذاء قريباتهم أو حتى قتلهن، مثل المادة المشار إليها من قانون العقوبات الكويتي والتي تنصّ على أنّ “كل من فاجأ زوجته في حالة تلبّس بالزنى، أو فاجأ ابنته أو أمّه أو أخته متلبّسة بمواقعة رجل لها وقَتَلَها في الحال أو قتل من يزني بها أو يواقعها أو قَتَلهما معا، يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز ثلاث سنوات وبغرامة لا تتجاوز ثلاثة آلاف روبية (45 دولارا) أو بإحدى هاتين العقوبتين”. ويشير تحديد قيمة الغرامة بالروبية العملة المعتمدة في الكويت قبل الاستقلال وليس بالدينار، إلى مدى قدم القانون.
وبالإضافة إلى ذلك، تتعارض المادة 153 مع الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التي صادقت عليها الكويت، مثل اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وقد سلّطت منظمة هيومن رايتس ووتش الضوء على هذه النقطة باعتبارها مادة إشكالية للكويت. وحتّى بالمنطق الديني الذي يستند إليه بعض المعترضين على تغيير القانون، فإنّ تلك المادة القانونية تنافي الشريعة الإسلامية التي تتطلب حضور أربعة شهود ذكور لإثبات فعل الزنى.
قِوامة بموجب ديمقراطي
نور المخلد: لم يتم تنفيذ العديد من مواد قانون العنف الأسري المصمم لحماية النساء.
قوبلت لجنة شؤون المرأة والأسرة والطفل البرلمانية في الكويت التي تشكلت إثر انتخاب مجلس الأمّة الحالي في شهر ديسمبر الماضي بسخرية واسعة النطاق على الإنترنت، حيث تتكون اللجنة من ثلاثة نواب من الصعب جدّا أن يكونوا متبنّين لقضايا المرأة وقادرين على الدفاع عنها بحكم انتماءاتهم الفكرية والسياسية، حيث ينتمي أسامة الشاهين رئيس اللّجنة إلى الحركة الدستورية الإسلامية التابعة لجماعة الإخوان المسلمين، بينما يمثّل مقرّرها صالح ذياب المطيري قبيلته مطير في البرلمان، أما عضو اللجنة أسامة المناور فينتمي إلى تجمّع ثوابت الأمّة السلفي ذي الطروح المعروفة بشأن حقوق المرأة وحرّياتها.
وكان الوضع الطبيعي أن ترأس اللجنة، امرأة على الأقل أن تحضر في عضويتها، لكنّ ذلك لم يكن متاحا لأنّ البرلمان الكويتي الحالي خلا تماما من النّساء رغم ترشّح ثمان وعشرين امرأة لعضويته من إجمالي 326 مرشحا، علما وأنّ عدد المقترعات النساء يفوق عدد الرّجال حيث تمثّل المرأة 52 في المئة من الهيئة الناخبة في الكويت.
وبقدر ما ينطوي عليه ذلك من مفارقة صادمة، فإنّه يجد تفسيره في العقلية الاجتماعية التي تمكّنت من زرع فكرة تَمَيّز الرجل في ذهن المرأة ذاتها إلى درجة أنّها لم تعد ترى مكانا لها ولبنات جنسها في المواقع القيادية بالدولة، وتُفضّل بدلا من ذلك انتخاب رجال وإيصالهم إلى تلك المواقع ضمن ثقافة “القِوامة” التي تدافع عنها تيارات الإسلام السياسي في الكويت بكل وضوح.
ورغم سطوة القوى المضادّة لتمكين المرأة الكويتية من كافّة حقوقها وتحقيق مساواتها مع الرجل تسجّل الناشطة المخلّد تحقيق تقدم في ملء الفراغ القانوني والاجتماعي والتشريعي الموجود في الكويت من خلال جهود منظمّة إيثار وحملة إلغاء المادة 153، إلى جانب دعم المنظمات غير الحكومية الأخرى، مشيرة إلى وضع قانون للعنف الأسري تم إقراره في أغسطس 2020. ومع ذلك، تستدرك الناشطة، لم يتم تقديم تنفيذ العديد من مواد القانون المصممة لحماية النساء الناجيات من الانتهاكات، بما في ذلك توفير مأوى لهن.
ولأن تطبيق تلك المادّة في قانون العقوبات الكويتي لا يزال ساريا ويسمح للرجال بالإفلات من جريمة القتل دون تداعيات تذكر، فقد شهدت الكويت تكرار جرائم الشرف حتى بعد إقرار قانون حماية الأسرة. ففي العام الماضي وحده، أبلِغ عن أربع حالات قتل، وقد قُتلت جميع الضحايا بوحشية على أيدي إخوتهن. ومن بينهن امرأة حامل قتلت بالرصاص في وحدة العناية المركزة، وأخرى كانت تعمل حارسة في مجلس الأمّة ولم تُدن الحكومة ولا البرلمان قتلها علنا.
حرّاس التشدّد
غياب النساء بشكل كامل عن مجلس الأمة الجديد أوجد وضعا شاذّا في اللجنة البرلمانية لشؤون المرأة والأسرة والطفل تمثل في تشكلها من ثلاثة رجال
يزعم بعض الأشخاص بمن فيهم عضو سابق في البرلمان أن المادة 153 هي “ضمانة أخلاقية” ضد الزنى. فبأي معنى يكون القتل العنيف ضمانة لأي شيء؟
وحسب مقال نُشر في إحدى الصحف المحلية الكويتية ذكر الكاتب أن الادعاء بأن المادة 153 قانون تمييزي ما هي إلا مغالطة قانونية واستدلال فاسد، مضيفا أن القانون مفهوم وهو موجود لحماية شرف العائلة، ليعيد بذلك التأكيد على الهوس والاعتقاد بأن شرف الرجل مرتبط بقريباته وأن للرجل الحق في الدفاع عن شرفه حتى لو كان ذلك يعني قتل أخته أو زوجته أو والدته.
ومع ذلك، أصدرت لجنة شؤون المرأة والأسرة والطفل البرلمانية المعينة حديثا بيانا حول وضع حد لجرائم الشرف كأولوية. وتقوض حقيقة بقاء اللجنة مكونة من ثلاثة رجال، كلهم مرتبطون بحركة دينية أو قبيلة، الادّعاء بأن هناك إجماعا على دعم هذه العناصر في المجتمع الكويتي للحفاظ على المادة 153.
وعلى سبيل المثال، فإنّ لتجمّع ثوابت الأمّة السلفي الممثّل في عضوية اللجنة مواقف واضحة من قضية التمكين للمرأة وحقّها في شغل الوظائف وفق معيار القدرة والكفاءة وليس الجنس. فعندما تمت خلال العام الماضي الموافقة على تولّي نساء كويتيات مناصب قضائية لأول مرّة في تاريخ البلاد، لم يتردّد القيادي في التجمّع محمد هايف في إصدار بيان استنكر فيه “التوجه لتنصيب المرأة قاضية لأن القضاء ولاية عامة لا يتقلَّدها إلاّ الرجل، فهو لا يتناسب مع تكوين المرأة ولا طبيعتها”، مضيفا “لذا، فإن التسرع في إصدار قرار دون رأي شرعي يدعمه بتنصيب المرأة قاضية سيكون مخالفا للشريعة ومتناقضا مع طبيعة المرأة وسيفتح باب الطعن في الأحكام الصادرة عن قضاء المرأة ويجعل الحجة قائمة في رد المتخاصمين للتقاضي أمامها، مما يعطل مرفق القضاء ويربك سير العمل فيه”.
وتخلص الناشطة نور إلى أنّ وجود مادّة ضمن القانون الكويتي تشجّع على اقتراف ما يعرف بجرائم الشرف، لا يخلو من تأثيرات سلبية على صورة الكويت ومكانتها التي تسعى إلى تحقيقها في المجتمع الدولي، وتقول إنّ إعلان الأمم المتحدة للبلد مركزا للعمل إنساني في 2014 واعتباره مجتمعا يقدر التنمية والتقدم الاجتماعي، لا ينبغي أن يكون هناك مكان لقانون عفا عليه الزمن يتعارض مع معايير البلاد الأخلاقية والقوانين المنصوص عليها في الدستور بالفعل.
وتسوق نماذج عربية إيجابية في التخلّص من مثل تلك القوانين على غرار ما قامت به تونس ولبنان والإمارات. لكن الجانب السلبي يظل في وجود مستوى مذهل من التأييد لجرائم الشرف في المجتمعات العربية وفق ما أظهره استطلاع أجراه القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي” عام 2019.
ورغم أنّ الكويت حدّدت تمكين المرأة كهدف استراتيجي وأفسحت المجال لتولي النساء مناصب قيادية عليا من ضمنها المناصب الوزارية، كما سمحت للنساء بأن يصبحن قاضيات، فإنّ التمكين والمساواة لن يكتملا دون إزالة الحواجز والآليات التي تضعفهما أولا. وما الذي يمكن أن يكون عائقا أقوى من الخوف من الموت، تتساءل نور المخلّد؟