كتب : عبدالستار سيف الشميري
كان مرفأً قريباً من كل الناس، وصديقاً ودوداً، تفرد وتميز منذ البداية.
لم يكن مشهوراً قبل الانقلاب الحوثي، معظمنا عرفه في ذلك التاريخ، والمحن هي من تخرج معادن الرجال.
عرفناه يوم أن اتخذ قرار التحدي ومقارعة الانقلاب في معسكر اللواء 35، واكتشفنا معه نضالات تعز وعبدالرقيب عبدالوهاب ورفاقه، ومعاني الثورات وطريق الأحرار.
لقد كان شيء من كل شيء له معنى أو قيمة، هكذا باختصار شديد.
إنه الشهيد عدنان الحمادي الذي تطل ذكرى استشهاده الأولى علينا، ومن سجل الذاكرة وبعض أرشيف الرسائل، أسرد اليوم باختصار قد يكون مخلا، لكن ما من ذلك بد.
فقد جمعتني به محطات كثيرة يصعب اختزالها منها جلسات واجتماعات أثناء ما كنت في تعز مع القيادات الحزبية والاجتماعية وقيادات المقاومة، ثم لاحقاً عندما كنت مستشاراً لمحافظ تعز.
ولقد اخترت أهم هذه المحطات كونها محطة إنسانية لرجل عسكري كان له انشغالاته لكنه كان أيضا ملجأ وسندا وقت المحن.
وتعود هذه المحطة إلى العام 2017 تحديدا بعد اختطافي من قبل مليشيات جماعة الإخوان في تعز بسبب نقدي لهم واعتراضي على ممارسات السلب والفيد والبلطجة، وكان ذلك عبر وسائل اعلامية وصحف بعد ان فشلنا في اقناعهم بإصلاح مسارهم، حيث كان للشهيد عدنان الحمادي دور كبير في إنقاذي من القتل.
وأجد هذه المحطة أفضل ما يمكن أن اكتبه عنه كوجه من الأوجه الإنسانية التي كانت للشهيد.
ولعل القصص التي لم تروَ عنه في هذا الباب كثيرة أعلم بعضها لكن قصتي ربما من أبرزها وأهمها.
كان الشهيد الحمادي من الذين ضغطوا بكل قوة لإخراجي من معتقل الإخوان، ولم يتم الإفراج عني إلا بعد ضغوط شعبية، ووساطات من بعض القيادات الرسمية والشخصيات العامة.
وتم إطلاق سراحي، لكن جماعة الإخوان كانوا قد أوكلوا ملفي والمهمة المرتقبة لجماعة القاعدة للقيام بتصفيتي.
تلقيت اتصالات التهديد ثم كتابات تفتي وتبيح دمي إلى آخر ما هو معروف وسبق نشره، وعندما أيقنت أن الأمر أصبح قريب التنفيذ، وبدأ تواجد عناصر القاعدة قرب منزلي وتتبعي، وبعد تحذير من الجميع غادرت منزلي ليلا متخفيا، واختفيت في منزل صديق من الحزب الاشتراكي في مكان آمن وغير متوقع.
اتصل بي الشهيد عدنان الحمادي للاطمئنان، وأخبرته أني في مكان آمن، فنصحني بالخروج السريع من تعز وعدم القيام بذلك بمفردي، لأن الأمر خطير، واخبرني أنه سوف يتكفل بذلك بهدوء طالباً مني التريث قليلاً من الوقت.
والإعلان أني أصبحت خارج المدينة، وبالفعل تم تسريب خبر خروجي من مدينة تعز بينما كنت متخفيا، لم تنقض سوى أيام قليلة فإذا به يتصل بي، ويخبرني أنه قد رتب كل شيء، واعطاني رقماً لأحد قياداته كي أتواصل معه.
أرسل الشهيد سيارته المصفحة الخاصة، وخمسة أطقم أو ستة إلى نادي الصقر، وكان قد أرسل قبل الفجر سيارة قديمة بصحبة ثلاثة من أفراد اللواء إلى المنزل الذي كنت متخفياً فيه، ويبدو أن الأمر كشف حيث لاحقتنا الرصاص في الطريق وتحديداً قبل جامعة تعز منطقة تسمى (الحبيل) بعد عشر دقائق من تحركنا، نجونا بأعجوبة وبمهارة السائق، وصلت إلى نادي الصقر والذي يقع نهاية مخرج المدينة باتجاه الحجرية ومواقع اللواء 35، حيث سيطرة الشهيد عدنان على هذه المنطقة التي كانت نموذجا للمناطق المحررة في تعز، ووجدت عدداً كبيراً من جنود اللواء 35 مدرع كانوا فوق الأطقم إلى جانب السيارة المصفحة.
وعندما تحركنا تلقينا بلاغاً من أن هنالك سيارات هايلوكس تتابعنا، وتراقب سير تحركنا، وعليها مسلحون وشخصيات من سماتها “قاعدية” ولكنها عندما رأت حجم القوة التي صرت معها، لم تتجرأ على التحرش بنا، اضطررنا لتغيير الطريق بأمر من الشهيد، للتمويه وتم تعزيزنا بإرسال سيارات إضافية، وتم تقسيم الأطقم والأفراد إلى قسمين اتجه كل قسم في طريق آخر مختلف لتضليل أي ملاحقة محتملة.
وبعد ساعات طويلة شاقة وصلت مدينة التربة، كان الشهيد قد رتب محل إقامتي في التربة في منزل أحد الأصدقاء لفترة أيام ثم كلف من يوصلني إلى عدن بأمان.
عندما التقيته لاحقاً قال لي: بإمكانك البقاء في عدن سالما، وسوف أوفر كل شيء تحتاجه.
شكرته على ما صنعه، وأخبرته أني قررت السفر إلى القاهرة كي أستطيع هناك التحدث في القنوات والعمل الإعلامي للقيام بدور ما لأني في عدن سوف أكون محصورا ومقيدا، لكن في القاهرة سأعمل بكل حرية.. وقد سره ذلك.
استمر بعد ذلك التواصل بيننا دون انقطاع سواء بالمكالمات الهاتفية، أو عبر واتساب، وكنت أعلم بكل ما يتعرض له من مضايقات.
بعد ذلك التقيته مرتين في عدن قبل شهر من اغتياله، وكانت معنوياته عالية قال لي: تعز تحتاج إلى تحالف قوي يجمع شتاتها، وينبغي أن تعملوا على ذلك.
كنت قد استقبلت الشهيد أكثر من مرة في منزلي في تعز.
عندما كان يزور المدينة كان مقيله المفضل مجلسي وما كان يعرف منتدى الشبزي، وكنا نتبادل الأحاديث، وكنت حينها مستشارا لمحافظ تعز.
وكنا قد بدأنا ارهاصات تجميع القوى السياسية في تكتل مدني لمواجهة صلف الإخوان وعدوان الحوثي، وعندما التقيته في عدن كان يحمل هكذا هم لجمع شتات النخبة المدنية، وتحدثنا عن بعض التفاصيل في لقائي الأخير معه بعدن.
وفي معرض الحديث وتبادل الأفكار أتذكر أنه قال لي نصا: ونحن في مجلسك في تعز منذ أربع سنوات سمعت منك بيتا من الشعر أثناء المقيل اريد تذكرها، واعطاني مفهوم البيت فتذكرت البيت الذي كان بيتا لشاعر النيل حافظ إبراهيم يقول فيه:
قد يهون العمر إلا ساعة
وتهون الأرض إلا موضعا
قال: أحب هذا البيت وأشعر فيه بحب الأرض.
أخبرني أيضا أنه يستمع أغنية وجع المدينة لأكثر من مرة، وهي أغنية متواضعة من كلماتي عن تعز، ووجعها الكبير.
أخرجت في نهاية العام 2016 تقريبا وكان قد استقبل الفرقة التي أعدت الأغنية بعد اخراجها مباشرة في مقره في التربة، وطلب سماعها مرارا، قال لي مستطردا إنه في أحد الاجتماعات الأمنية ذكروك أنك تشوه الجيش، فقلت لهم صاحب وجع المدينة أول من تحدث وخدم الجيش، اشكروه ولا تقمعوه، تحدث عن الصعوبات في اللواء 35 وبعض الاشكالات والتحرشات به وكذلك بعض تفاصيل كواليس مضايقات الإخوان لبعض السياسيين.
في حديثه الطويل منحني معنويات مرتفعة كان ذلك في آخر لقاء عند زيارتي الأخيرة لعدن، وحاولت أن أمنحه شيئا من ذلك فوجدته ممتلئاً بالإصرار، ولا يؤمن بالهزيمة مطلقا، ومستعدا لأي احتمال، ومترقبا ما يمكرون.
عدت أنا القاهرة، تواصلنا كثيرا وكان آخر تواصل تقريبا قبل يومين من استشهاده وعلمت منه أن دعم اللواء قد توقف منذ آخر شهر سبتمبر من العام الماضي 2019.
ما أزال أحتفظ برسائله.. قال نصا:
سنبقى على تواصل مهما كانت الصعوبات.
لم أكن أعلم أنه التواصل الأخير لرجل سخّر وقته ودمه من أجل اليمن، وأراد لتعز الحياة، وأرادوا له الموت.
سنحتاج وقتا طويلا كي تنجب تعز قائدا بحجمه، وصلابته وتواضعه، وتفانيه في خدمة الناس.
مضى عدنان إلى ربه شهيداً، وقد منح للبطولة معناها، وللحرية قداستها، ومنح الشهادة قيمتها السامية، وللعسكرية شرفها الوطني.
ومن تلك المنح ثمة تاريخ عن عدنان تخلد في قصص سوف يرويها كل منا بطريقته الخاصة حتى يستيقن من يسمع تلك القصص أن عدنان لم يكن قائداً عسكرياً فحسب، بل كان صديقاً للجميع، ومصلحاً اجتماعياً، وقائداً روحياً، وأخاً، وسنداً، ووطناً لمن ليس له وطن.
ذلك هو عدنان الشهيد، المتفرد، الاستثنائي، الثائر، المناضل القوي، اللطيف، الساخط، الواقعي، المتحمس الزاخر بالأفكار وبالمبادرات وبالطموحات وبالأحلام..
كان يشعر بأنه يحمل ثقل أحلام تعز التي كانت تعتبره المعادلة الموازنة لحفظ الأمن والاستقرار.
لذلك تم اغتياله لتسقط هذه المعادلة، كي يؤسس لإمارة الاستبداد والفيد والتطرف!!