كريتر نت – العرب
فجرت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون واستخدامه مصطلحات من قبيل التصدي للتطرف الإسلامي وإصراره على نشر الرسوم الكاريكاتورية التي ينظر إليها جزء كبير المسلمين على أنها مسيئة للنبي محمد موجة غضب واستنكار واسعتين في العالم العربي والإسلامي.
وأعادت تصريحات ماكرون المثيرة للجدل وما استتبعها من دعوات لمقاطعة البضائع الفرنسية احياء الانقسام بين التيار المدني والإسلاميين وأنصارهم في تونس.
ويشكل الفضاء الإلكتروني ساحة المبارزة الأولى بين التيارات المدنية وناشطيها وبين أنصار الإسلاميين في تونس.
وقام ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي بتغيير صورهم حاملة شعار “إلا رسول الله”، داعين إلى النسج على منوال بعض الدول العربية التي قامت بحملات تهدف إلى مقاطعة المنتجات الفرنسية لإلحاق خسائر اقتصادية بالبلاد.
وضجّت مواقع التواصل بحالة من الغضب رافقتها صور تستهزئ بالرئيس الفرنسي، كما انتشرت فيديوهات أظهر فيها التونسيون غضبهم من الحملة التي شنّها ماكرون ضدّ المسلمين في فرنسا.
وسجلّت منطقة الزهروني من محافظة تونس العاصمة، وقفة احتجاجية عمد خلالها المحتجون إلى حرق العلم الفرنسي تعبيراً عن رفضهم نشر الصورة المسيئة.
كما تداول نشطاء بشكل واسع قائمة بأسماء المنتجات الفرنسية لمقاطعتها، فيما تداول آخرون صورا لفضاءات تجارية فارغة مع لافتة بعنوان “مقاطعة المنتجات الفرنسية”.
واستغل الإسلاميون تصريحات ماكرون بالدعوة إلى مقاطعة البضائع الفرنسية والاستعاضة عنها بالبضائع التركية في موقف لا يخلو من أبعاد سياسية وأيديولوجية.
ووجد هؤلاء الفرصة سانحة للترويج للبضائع التركية خاصة في ظل تصاعد حملات مضادة لها ودعوات عدد كبير من النشطاء إلى مقاطعتها بعد انتشارها بشكل كبير في الأسواق المحلية خلال الفترة الأخيرة.
وتعتمد تركيا على حركة النهضة حليفتها في الداخل التونسي لترويج المنتجات التركية خلال السنوات الماضية، وهو ما أضر بالمنتج المحلي التونسي، وانعكس سلبا على السوق التجارية والصناعية في البلاد.
ويرى متابعون أن محاولات التأثير التركي الدائمة على الجانب التونسي سياسيا وتجاريا دفعت النشطاء إلى إطلاق حملات المقاطعة حفاظا على الصناعة وسيادة القرار التونسي، واستقلالية الصناعة والتجارة بعيدا عن المؤثرات التركية.
ولم يسلم التيار المدني في تونس من حملات التشويه والتحريض التي يتعرض لها على مواقع التواصل ومهاجمة الفرنكفونية التي يعتبرها الإسلاميون امتدادا للأشكال الجديدة من الاستعمار الفرنسي لتونس.
ويطلق هؤلاء مصطلح “أيتام فرنسا” على المدافعين على مدنية الدولة في تونس ويلصقون بهم تهم الولاء لفرنسا على الرغم من أن حملات التشويه لا تلقى صدى واسعا في الداخل التونسي الذي خبر جيدا أساليب الإسلاميين ومناوراتهم وركوبهم على الأحداث للتسويق على أنهم حماة الدين في تونس غير أن الوقائع أثبتت عكس ذلك.
واعتبر محمد النائب بالبرلمان التونسي عن ائتلاف الكرامة وحليف حزب النهضة الإسلامي أن خطاب ماكرون “استعماري عنصري” يقطر حقدا على الإسلام والمسلمين.
فيما ذهب البعض الأخر إلى حد مطالبة رئيس الجمهورية قيس سعيد بإلغاء القمة الفرنكفونية المبرمجة بمحافظة جربة.
وقال النائب ياسين العياري في تدوينة على صفحته “تنتظم قمة الفرنكوفونية في تونس سنة 2021 (كانت مبرمجة أيام 12 و 13 ديسمبر 2020، تأجلت بسبب الكوفيد).
وقال “هذه القمة ومن ورائها المنظمة التي تشمل أساسا فرنسا و مستعمراتها السابقة تسعى لتدعيم القيم الفرنسية و اللغة الفرنسية عبر “الضغط/التعاون” السياسي و الدراسي و الثقافي والاقتصادي”.
وأضاف النائب المعروف بقربه من الأوساط الإسلامية “أعتقد في وضع تسمح فيه هذه الثقافة باحتقار والسخرية من معتقداتنا، من التضييق على الثقافات المختلفة على أرضها لأسباب سياسية انتخابية، بعيدا عن الاحترام المتبادل، يصبح من الوقاحة قبول هذه القمة على أرض تونس”.
وتعرّف الفرنكفونية بأنّها أحد أكبر المجالات اللّغوية في العالم، حيث يتحدّث بها قرابة 274 مليون شخص موزّعين على القارّات الخمس وفق تقرير نشره مرصد اللّغة الفرنسية عام 2014.
ودخلت الفرنكفونية لغة وثقافة، إلى تونس مع دخول المستعمر الفرنسي سنة 1881. واعتمد التعليم الفرنسي وحده خلال فترة الاستعمار التي امتدّت إلى عام 1956.
وواصلت الأنظمة التونسية المتعاقبة بعد الاستقلال تعليم الفرنسية إلى جانب العربية واعتمادها كلغة أساسية للمواد العلمية والبلاغات الإدارية حيث صنّف تقرير صادر في نوفمبر 2014 عن المنظمة الدولية الفرنكوفونية تونس الثانية إفريقيًا من حيث استعمال اللغة الفرنسية.
ويدافع أنصار الفرنكفونية في تونس على ضرورة مواصلة استخدام اللغة الفرنسية لمزيد اكتساب الثقافة والقيم التقدّمية ولأهداف اقتصادية تربط تونس بفرنسا.
وكان ماكرون قد أعلن في زيارته إلى تونس في فيفري 2018 عن رغبته في “إعطاء دفعة للفرنكفونية في تونس” عبر مضاعفة عدد متعلّمي الفرنسية خلال سنتين أي حتى انعقاد قمّة الفرنكفونية في 2020.
ويرى قسم كبير من التونسيين أن حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية لا جدوى منها، حيث أن فرنسا الشريك الاقتصادي والتجاري الأول لتونس، ولئن يدينون تصريحات ماكرون المسيئة، إلا أنهم لا يعفون سلوكيات وأعمال بعض المتطرفين الإسلاميين التي ساهمت بشكل كبير في خلق هذه الصورة المشوهة للدين.
وكتب ناشط تدوينة قال فيها: “أنا سيارتي فرنسية سأقاطعها يوم تكون دولتي قادرة على صنعها و بنفس الجودة، أنا لست ضد المقاطعة لكن ضد الشعارات التي لا يرافقها العمل، نبذ الفساد، والعنف، حب الآخر و العمل فالدين في الأفعال و ليس في الأقوال”.
فيما دونت ناشطة على صفحتها ” المعركة اذا ليست صورة بل هي مع صورنا جميعا … مع الصورة التي نصدرها للعالم. صورة الهوان والعجز والتخلف والجهل والخيانة .. أما تلك الصورة فهي تستفز فينا عاطفة جياشة تبحث عن شيء تنتصر له فقد غابت عنها كل أسباب الانتصار.
وتعمل حركة النهضة على استثمار هذا السجال في تونس وتحويله عن مساره خدمة لأجنداتها وهو ليس بجديد عنها.
ووقف الإسلاميون بكل قوة ضد حرية التعبير والفن عندما أمسكوا بالسلطة وهاجم أنصار التيار الإسلامي لفظيا وماديا أعمالا فنية على غرار عرض قناة نسمة للفيلم الإيراني “برسيبوليس” أو قيام متطرفين باقتحام معرض العبدلية للاحتجاج على مجموعة من الأعمال الفنية اعتبروها مسيئة للإسلام.
وكانت “نسمة” عرضت في 7 اكتوبر 2011 فيلم “برسيبوليس” الذي أخرجته الفرنسية من أصل إيراني مرجان ساترابي ويروي الفيلم طفولة فتاة إيرانية من عائلة متحررة عايشت أجواء الثورة الاسلامية الايرانية التي اندلعت سنة 1979 وأوصلت الإمام الخميني إلى الحكم.
وتسبب عرض الفيلم بأعمال عنف قادها متشددون دينيون، استهدفت القناة وصاحبها.
خزان انتخابي ضعيف
وتحتدم في تونس معركة الصراع على الحريات، بين المدنيين والإسلاميين الداعين لاحترام الشريعة الإسلامية بحجة أن الغالبية في البلاد من المسلمين، لكن الخلاف تخطى حدود الحوار في ظل حملات التحريض الكبيرة التي يتعرض لها ناشطوا المجتمع المدني والتيارات العلمانية التي يجاهر الإسلاميون بعدائها.
ويبرز التونسيون حجم عداء حركة النهضة لكل القوانين التي تساهم في تدعيم ركائز المساواة بين الجنسين من خلال تعطيلها الممنهج لمناقشة مشروع قانون المساواة في الإرث الذي طرحه من قبل الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي في 2017.
وأثار مشروع القانون جدلا كبيرا ففي حين يؤكد داعمو مشروع القانون على أن الدستور ينص على المساواة التامة بين الجنسين، يستند معارضوها وعلى رأسهم حركة النهضة على المرجعية الإسلامية للدولة التي يؤكد عليها الفصل الأول من الدستور.
ويجمع حقوقيون على أن المساواة في الميراث خطوة تاريخية لتعزيز حقوق النساء، غير أنها تصطدم على غرار رفض شريحة واسعة من الرأي العام، بمعارضة حزب حركة النهضة الإسلامي ذي المرجعية الإسلامية وذي الثقل السياسي والبرلماني.
ويقول مراقبون إن النهضة عملت طيلة الفترة الماضية على عامل الوقت لإجهاض المبادرة التي أطلقها السبسي ما أدى إلى كشف أوراقهم المزيفة بادعائهم احترام مدنية الدولة والدفاع عن الحريات.
كما لا يخفى على خبراء ان استغلال حركة النهضة لهذه الملفات الحساسة لشد الشارع إليها والحفاظ على خزانها الانتخابي وجمهورها الذي يؤيد منطلقاتها الأيديولوجية والتي تتعارض مع شروط الاندماج في الحياة السياسية التي تقتضي الاعتراف بالحريات الفردية والعامة.
وتتعمق مخاوف النهضة من تواصل ضعف خزانها الانتخابي ومعاقبتها شعبيا في انتخابات البرلمان باعتبارها شريكا رئيسيا في الحكومات التي تعاقبت على الحكم في تونس بعد ثورة 2011 ولم تفلح في تحقيق مطالب التشغيل والتنمية الاقتصادية.