معرض باريسي لأعماله الشعرية ضم 400 قصيدة ومخطوطات تشكيلية
انطوان جوكي
في النهاية، تشكل كل الفنون فناً واحداً. يمكننا أن نكتب لوحة بكلمات، كما يمكننا أن نرسم أحاسيس في قصيدة”. جملة كتبها الفنان الإسباني بابلو بيكاسو، وتشكل خير مدخل لولوج عمله الإبداعي، الذي لم يقتصر على إنجاز رسوم ولوحات ومنحوتات تشهد على ابتكاره أو استثماره مختلف أساليب عصره الطلائعية، ما يجعل منه أحد أهم وجوه الحداثة الفنية في القرن العشرين، بل تجاوز التشكيل في اتجاه الشعر الذي مارسه بانتظام، كما تشهد على ذلك مئات القصائد التي كتبها ويجهلها معظمنا.
من هنا ضرورة التوقف عند معرضه، “بيكاسو شاعراً”، الذي ينظمه حالياً المتحف الذي يحمل اسمه في باريس، ويهدف إلى كشف مدى أهمية الكتابة الشعرية في مسعاه الإبداعي. أهمية تتجلى حين معرفتنا أن بيكاسو ترك خلفه أكثر من 400 قصيدة، أو حين نطّلع داخل المعرض على مخطوطاته الشعرية، التي تسمح برؤية الروابط الوثيقة الموجودة بين كتاباته وأعماله الفنية الأخرى، وبملاحظة كيف ــ وكم يتجاوب الثراء الذي يميز عمله على نصوصه مع ذلك الحاضر في سيرورته التشكيلية. أما المضمون “السيرذاتي” لنصوصه الأخرى، التي تشكل “دفتر يوميات حسي وعاطفي في الوقت نفسه”، فيُنير الظرف التاريخي الذي نشط الفنان خلاله. وبالنتيجة، يستكشف المعرض، في صالاته السبع، مصادر ذلك الرابط بالكتابة الشعرية، الذي حافظ بيكاسو عليه طوال حياته، وعملية ولادته، والتطابقات الموضوعية بين نصوصه ولوحاته، إضافة إلى حسه الابتكاري الفريد الذي مكنه من قولبة تلك “العجينة” اللغوية، بالقدر نفسه من الحرية الذي قولب فيه الوسائط الفنية الأخرى.
علاقة بالشعراء
في الصالة الأولى، يتبين لنا أن نزوع بيكاسو إلى الكتابة والشعر يعود إلى سن الطفولة، وهو ما أشار إليه بنفسه في دفاتر رسمه الأولى، قبل أن ينطلق في استخدام حروف وكلمات داخل تشكيلاته التكعيبية عام 1912 كمواد بصرية وأيضاً كمفردات ذات دلالات متعددة. من جهة أخرى، يظهر البعد الخطي (calligraphique) لكتابته الشعرية منذ اختباراته التشكيلية الأولى، التي تقع بين المرئي والمقروء، كجملة “إنها تثلج في الشمس” التي دوّنها بطرق مختلفة على الورق وبخط ينبسط تحت أنظارنا ويتحول إلى وجوه وأطياف.
في الصالة الثانية، نرى كيف أحاط الفنان نفسه طوال حياته بالشعراء والكتّاب، أو بأعمالهم، بدءاً بمواطنيه الإسبان الذين بجّلهم، مثل ثيربانتس، ولويس دي غونغورا، وخوان ماراغال، وصولاً إلى الشعراء الفرنسيين، مثل ألفرد جاري، وستيفان ملارميه أو أصدقائه الحميمين، غييوم أبولينر، وماكس جاكوب، وأندريه بروتون، وبول إيلوار الذين غالباً ما زين دواوينهم وأعداد مجلاتهم برسومه. نشاط بدأه عام 1901 في مجلة “الفن الفتي” الإسبانية التي أسسها مع فرنشيسكو دي أسيس سولر، ويضع كل عمله الفني اللاحق تحت شعار الشعر.
الصالة الثالثة مرصودة للرسوم التي أنجزها في شكل يومي عام 1936، أثناء إقامته في قرية جوان لي بان (جنوب فرنسا)، عبر إسقاط كل واحد منها على جانب من ورقة مطوية، وإرفاقه بنص له على الجانب الآخر. رسوم ـ قصائد، غالباً ما استبق النص فيها الرسم المقابل له، وتعكس عمق الرابط بين الكلمة والصورة في عمله.
في الصالة الرابعة، نعرف أن بيكاسو انطلق في كتابة الشعر عام 1935 فوضع قصيدته الطويلة الأولى بلغته الأم، قبل أن يتنقل بيُسر بين الفرنسية والإسبانية في نصوصه التي كان يدونها على ركائز مختلفة، دفاتر صغيرة، دفاتر رسم، وقصاصات ورقية متفرقة، ومغلفات… وحتى ورق تواليت. نصوص شديدة التنوع تتراوح بين قصائد طويلة جداً ذات إيقاع متواصل، وقصائد على شكل حلقات، وقصائد متسلسلة، وقصائد عمودية مقفاة، وقصائد نثر، وقصائد متاهية تتمدد وتتفرع في جميع الاتجاهات، كقصيدة “لغة النار” التي اختارها أندريه بروتون كي ترافق مقاله المرجعي حول صديقه، “بيكاسو شاعراً”.
تشابك الشعر والرسم
في الصالة الخامسة، نتوقف عند طبيعة شعر بيكاسو الذي يشكل، كما لاحظ بروتون قبل غيره، فضاء لصوته الداخلي، ويعري كيانه الأعمق، وعند موضوعاته التي هي نفسها الملاحظة في لوحاته (الحب، والإروسية، ومصارعة الثيران، والصلب، والتضحية…) وتحضر غالباً متشابكة في ما بينها. وبينما نشاهد في الصالة السادسة النصوص التي كتبها عام 1937، أثناء الحرب الأهلية الإسبانية، وفضح فيها جرائم فرانكو وتواطؤ الكنيسة الكاثوليكية معه، تتجاور في الصالة السابعة مجموعة “قصائد ومحفورات” (1949) التي زاوج داخلها نشاطه الشعري بنشاطه الحفري، ومخطوط نصه المسرحي “الفتيات الأربع الصغيرات” (1947) الذي خطه بلون أحمر وبنبرة طريفة. ومخطوط نصه الأخير “دفن الكونت دورغاز” (1957 – 1959)، ذي النبرة السوداء المأساوية، الذي لا ينتمي إلى أي نوع أدبي محدد، على رغم صفته المسرحية، وكتبه الفنان بلغته الأم كتحية أخيرة لإرث موطن ولادته.
في نصها النقدي “بيكاسو أو متعة الكتابة”، تقول الباحثة المتخصصة بفن بيكاسو، أندرولا ميكايل، إن “الكلمات ومعانيها المتعددة، وأحياناً المتضاربة، وإمكانيات نظمها اللامتناهية، شكلت مصدر دهشة ثابتة للفنان، فتلاعب بها وبنظمها بطريقة تتحدى المعنى. لكنه، بخلاف جيمس جويس، الذي قارنه ميشال ليريس به، لم يعبث بالكلمات، بل احترمها من دون أن يعير أي أهمية للأعراف، فدعا إلى كتابة “سيئة” تزعزع أسس النحو (…)، وتبتكر لغة جديدة داخل اللغة عبر ابتكار أبعاد نحوية جديدة لها. وفي هذا السياق، ألغى هاجس ترتيب الخطاب ورفض أي إجراء أو منهج يسمح بالتحكم به. (…) ولأنه كان حساساً للبعد الأدائي في قصائده، استثمر إلى أبعد حد التوترات الثابتة بين الشكل والمضمون، بين الصوت والمعنى، وبين التجريد والوصف، ومارس كتابة في حالة حركة دائمة تعيد ابتكار نفسها بلا انقطاع (…) وتحوِّل اللامعنى الظاهر في نصوصه إلى مقفز يولّد معاني جديدة ممكنة. (…) من هنا التنويع في ترتيب الكلمات الذي يغير معناها، والإيقاعات والتغييمات والتلاعب في الترقيم أو حذفه. وبإعارته انتباهاً شديداً للرابط بين ما نراه وما نقرأه وما نسمعه وما نشعره داخل الكتابة، منح قارئ نصوصه أحاسيس ودلالات غير متوقعة”.
وبالنتيجة، تعتبر الباحثة أن لا مبالغة في مساواة ما أنجزه بيكاسو في كتاباته بما أنجزه في عمله التشكيلي. فقبل أن يصبح مفهوم التفكيك مألوفاً وممنهجاً على يد الفيلسوف درّيدا، مارسه الفنان وفتح بواسطته سبلاً جديدة لمقاربة الأدب، والشعر تحديداً، متجاوزاً القواعد المرسخة، ومبتكراً كتابة شخصية لا معادل لها لدى معاصريه. وبعدم حظر أي شيء على نفسه، وعدم فرض أي حدود على اختباراته الكتابية، أنتج نصوصاً باهرة، تارةً هرمسية، وتارةً سهلة البلوغ، لكن دائماً مبلبِلة في حداثتها.
نقلا” هن أندبندنت عربية