كريتر نت – العرب
يعكس التصعيد التركي المستمر ضد أوروبا إصرارا من قبل الجيش على مواجهة عسكرية شرق المتوسط قد تندلع قريبا، لاسيما مع التعنت الأوروبي الذي تعكسه مواقف فرنسا واليونان الرافضة بشكل مطلق للأنشطة التركية غير القانونية لاستغلال ثروات النفط والغاز الطبيعي على حساب بقية دول المنطقة، وخاصة اليونان.
وحملت التدريبات العسكرية الجوية من فوق جزيرة غاليبولي رسائل تهديد للأوروبيين وتذكيرا بمعركة غاليبولي الشهيرة خلال الحرب العالمية الأولى، عندما منيت فيها قوات التحالف (بريطانيا، أستراليا، نيوزيلندا، فرنسا) بهزيمة مدوية وفشلت في غزو إسطنبول عاصمة الدولة العثمانية آنذاك ومن ثم الدخول إلى الجزء الشمالي الشرقي من تركيا لمساندة روسيا ضد القوات الألمانية.
ولدى الأتراك حساسية استثنائية تجاه أي تحالف يوناني – فرنسي، إذ تمكن هذا التحالف بين عامي 1919 و1922 من السيطرة على مناطق واسعة من تركيا، مما دفع الزعيم التركي كمال أتاتورك إلى شن حرب حيث جمع خلفه الشعب التركي وتمكن من هزْم التحالف بعد أن وصل إلى أبواب أنقرة.
وشنت قوات الجيش التركي حملة تطهير عرقي عام 1922 قادت إلى حرق أجزاء كبيرة من الأحياء المسيحية في مدينة أزمير، وكان من نتائجها تأسيس تركيا الحديثة.
ونشر وزير الدفاع التركي خلوصي أكار صورة مشحونة بالتحدي يظهر فيها وهو يجلس داخل طائرة مقاتلة من طراز أف – 16 في قاعدة جوية عسكرية في مدينة إسكيشير غرب تركيا، خلال رحلة تدريبية فوق شبه جزيرة غاليبولي.
وتعزز تلك الصورة التحليلات التي تقول إن القادة العسكريين المتشددين في تركيا هم من يحرك الرئيس رجب طيب أردوغان أكثر مما هو يوجههم، خصوصا أن العقلانيين منهم تم استبعادهم بدعوى شبهات التورط في محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو 2016.
وقال الكاتب السياسي التركي إلهان تانير “كان أردوغان طرفا في التحالف مع الضباط العسكريين المتقاعدين المتشددين والمناهضين للغرب. وهم أنفسهم الذين كانوا يدافعون عن سياسات توسعية في بحر إيجة والبحر المتوسط والبحار الأخرى، ويروجون للاتفاق البحري مع ليبيا. وتعتبر هذه العلاقة مفيدة للطرفين؛ حيث ينال أردوغان مصادقة على سياساته في ليبيا ويحصل العسكريون المتقاعدون على الاعتراف والتأثير والشهرة”.
وأضاف في تصريح لـ”العرب”، “منذ محاولة انقلاب 2016، تمكن أردوغان من قمع المعارضة في وسائل الإعلام والجيش والدولة. وعندما أصبح رئيس الأركان السابق خلوصي أكار وزيرا للدفاع، أصبح باستطاعة أردوغان السيطرة على الجيش أكثر. لذلك، لم يعتمد أردوغان أسس الضوابط والموازين في الرتب المدنية أو العسكرية”.
وتوقّع هنري جي باركي، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة ليهاي الأميركية، أن تتصاعد المواجهة البحرية إذَا أصر الأتراك الذين يملكون قوات بحرية وجيشا قويا في المنطقة على موقفهم فيما يخص الثروات الموجودة في شرق المتوسط.
ولم يستبعد باركي، الذي يشغل مساعد كبير الباحثين لدراسات الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، أن يكون الخطاب التصعيدي لأردوغان يهدف إلى محاولة أن يتم التفاوض معه حول نصيب كل طرف من تلك الموارد، الأمر الذي يصعب تصوره، لأن القانون الدولي في صف اليونان.
وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الخميس إن دول المتوسط السبع تريد “حوارا بِنيّة حسنة” مع تركيا التي تقود سياسة توسعية في البحر المتوسط. وأشار إلى “الرغبة في إطلاق حوار مسؤول وإيجاد سبل للتوازن (…) دون أي سذاجة وبنيّة حسنة”.
وبدأ زخم التحركات الدولية يتعاظم من أجل التصدي لأنقرة بمجموعة من الخطوات انطلقت برفع الولايات المتحدة حظر التسليح عن قبرص، وصولا إلى بدء اليونان التفاوض بشأن شراء طائرات مقاتلة من فرنسا.
وقال خلوصي أكار الخميس إن رفع واشنطن حظر الأسلحة عن قبرص التي يديرها القبارصة اليونانيون سوف يؤدى إلى طريق مسدود.
وأضاف “إذا رفعت الحظر وحاولت الإخلال بالتوازن بهذه الطريقة، فإن هذا سيجلب الصراع وليس السلام”، وهو ما عكس تهديدا واضحا بالحرب.
وكان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو قال إن بلاده رفعت القيود المفروضة على بيع سلع وخدمات دفاعية غير فتاكة لجمهورية قبرص للسنة المالية القادمة، وهو ما أثار غضبا تركيا كبيرا.
وسبق أن أكد وزير المالية اليوناني خريستوس ستايكوراس أن بلاده مستعدة لإنفاق جزء من احتياطياتها النقدية لشراء أسلحة، وغيرها من الوسائل التي ستساعدها على زيادة “قوة الردع”، بعد أعوام من تقليص الإنفاق الدفاعي.
وفي منتصف شهر أغسطس الماضي أرسلت فرنسا طائرتين من طراز رافال، بالإضافة إلى طائرة دعم، إلى جزيرة قبرص، في رسالة فرنسية موجهة إلى تركيا، وحطت الطائرات في قاعدة أندرياس باباندريو الجوية في منطقة بافوس، في إطار الاتفاقية العسكرية بين فرنسا وقبرص، والتي تم تفعيلها مؤخرًا.
ويعتقد مراقبون أن بؤرة الأزمة الآن تحولت بالكامل نحو النقطة الحقيقية وهي المساحة المقابلة لقبرص لتتحول ليبيا التي كانت محور النزاع خلال الفترة الماضية إلى استعراض جانبي.
أردوغان يقترب من حافة الهاوية
توضحت الرسائل لأنقرة: لأردوغان الوقت لإعادة النظر في المسوحات الزلزالية والأعمال العسكرية في شرق البحر المتوسط حتى 23 سبتمبر، عندما يعقد الاتحاد الأوروبي قمته المنتظمة. كما نعلم أن الاتحاد الأوروبي يعد مسودة للعقوبات في حال استمرت تركيا في ممارساتها الحالية التي أججت الخلاف مع اليونان.
يبدو أن واشنطن توافق على ذلك: نقل وزير الخارجية مايك بومبيو رسالة مفادها أن المخرج الوحيد من هذه الأزمة يكمن في وقف التصعيد، أي وقف نشاط السفن التركية.
أصبح أردوغان اليوم في عزلة عميقة: تركت جامعة الدول العربية حكومته لتواجه أزماتها بنفسها، ووصفت إدارة أردوغان بالتوسعية والمثيرة للانقسام في الشرق الأوسط. أما بالنسبة لإسرائيل، فلا يوجد مجال للصلح.
تمر تركيا بما يسميه كثير من منتقدي أردوغان بالمحنة والنكبة لطريقته في الحكم. واستندت خططه إلى السيطرة على جميع مؤسسات الدولة بتطهير الموظفين الأكفاء، واستبدالهم بأفراد مخلصين وغير مؤهلين. ونذكر من المؤسسات الأكثر تضررا وزارة الخارجية التركية التي كانت تحظى بالإحترام، أين تآكل المنطق المؤسسي وسبل العمل الحضارية وذاكرة 160 عاما من النشاط الدبلوماسي. اليوم، أصبحت التصريحات والبيانات الصادرة عن الوزارة نصوصا صاخبة مليئة بالتهديد وذات طابع بلطجي يشيطن الحكومات التي لا تتفق مع تركيا وأردوغان.
يتساءل الكل: ألا “يتراجع” أردوغان؟ حتى الآن، كانت لعبة الرئيس التركي بمثابة دق إسفين داخل الاتحاد الأوروبي والناتو. وحاول اختبار الأوضاع مع ليبيا لكنه لم ينجح في نيل مراده. ففي البداية، بدت تصرفات إيطاليا غير متسقة، وبدت خطوات مالطا متعرجة.
ولكن، عندما اجتمعت مجموعة السبع الأوروبية مؤخرا في كورسيكا، بدا الجميع متحدين ومتفقين على أن ضرورة أن تُقابل ممارسات تركيا في شرق المتوسط بحزم. أما فيما يتعلق بالنزاع مع اليونان، فإن ألمانيا هي الوحيدة التي بقي أمل أردوغان قائما عليها. لكن، يتضح أنه من أجل الحيلولة دون سابقة خطيرة لروسيا التي وضعتها أعينها على دول البلطيق، قررت المستشارة ميركل احترام معاهدة لشبونة التي تفرض دفاعا مشتركا عن حدود الاتحاد الأوروبي وأراضيه.
يضع هذا أردوغان في موقف حرج. فقد يكون أدرك أنه لم يعد يستطيع مواصلة تكتيكاته التي تزرع الخلاف بين دول الاتحاد الأوروبي، خاصة مع خطط باريس التي يبدو أنها قررت وضع إستراتيجية جديدة إزاء تركيا التي اعتبرتها تهديدا لاستقرار المنطقة، ووحدة الاتحاد الأوروبي والناتو.
وتكبّلت يدا أردوغان فيما يتعلّق بحشد الدعم الخارجي، أو حتى التعاطف. لذلك ، بدأ يرسل إشارات حول التحول إلى مرحلة مختلفة. ومن شأن أي تحرّك عسكري متسرع تقرره اليونان، وإن كان ردا على أنشطة السفن التركية، أن يخلق ذريعة يستغلها الرئيس التركي للرد العسكري. وسيكون هذا بالنسبة له فرصة لترميم صورته محليّا، وتعزيز السلطة حول شخصيته كقائد أعلى، وسيساعده في نيل دعم المعارضة الرئيسية (التي أعلنت بالفعل أنها “تدعم الحكومة”) وفرض سيطرته الأعمق على الجيش.
لكن هذا لا يدل على أن أردوغان سينجح على المدى الطويل. فنحن ندرك نقطة ضعفه التي تكمن في قصر نظره فيما يتعلق بالشؤون العالمية والعلاقات الدولية المعقدة وكيفية إدارة سياسة تركيا الخارجية. ويرى هذه القضايا كلعبة مصارعة يكون البقاء فيها للأقوى. ونظرا إلى كيفية اندلاع النزاع بين اليونان وتركيا فجأة، هناك ما يكفي من البيانات والأسباب التي جعلت أردوغان “مقتنعا” بعقائد مجموعة من الأدميرالات المناهضين لحلف شمال الأطلسي وللغرب ومتبنّيا ما يعرف باسم “الوطن الأزرق”.
وقرر أن يراهن على هذه العقيدة متجاهلا بُعد المفاوضات المستمرة مع أثينا، بعد إضعافه محليا وإصابة كبريائه بسبب تحركاته غير المنتظمة في سوريا وليبيا. وكلما سمح أردوغان للآخرين بجره إلى عمق عاصفة “الوطن الأزرق”، كلما وجد نفسه في تيار لا يستطيع أن يسيطر عليه كثيرا. وربما لأنه خُدع من قبل شريحة من الجيش التركي ووصل إلى نقطة ليس لديه مجال للمناورة و”التراجع” فيها. وإذا قرر ذلك الآن، فسيخسر أكثر. ومثل راكب دراجة، يجب عليه الآن أن يواصل التقدم حتى لا يقع. لكن المسار محفوف بالمخاطر بالنسبة لتركيا. وفي حالة فشله، قد لا يجد أردوغان أي طرف يلومه.
يخبرنا المأزق الحالي أن أردوغان يقترب من حافة الهاوية، ويجر البلاد معه.