عماد عبد الحافظ
كاتب مصري
أسهم الربيع العربي في إحداث تحولات كبيرة في الحقل الديني في مصر، ومن بين التحولات تلك الخاصة بخريطة الفاعلين في الحقل، حيث ظهر فاعلون جدد، واختفى آخرون وتراجع حضورهم، وآخرون اكتسبوا مكانة أكبر وقدرة على التأثير.
وكأيّ حقل آخر في المجتمع، تدور في الحقل الديني صراعات بين الفاعلين على المكانة والشرعية، حيث يسعى كل فاعل لاكتساب مكانة أكبر والحصول على قدر كبير من رأس المال الديني وتقديم نفسه بأنّه هو الذي يمثل الدين ويتحدث باسمه، ومن ثم يمتلك الشرعية الدينية.
وتتعدد أطراف الصراع بتعدد الفاعلين سواء كانوا من الرسميين أو غير الرسميين؛ فبجانب الصراع فيما بين التيار الإسلامي بمكوّناته المختلفة وبين المؤسسة الدينية الرسمية، يقع الصراع أيضًا بين مكوّنات التيار الإسلامي فيما بينهم، كما يقع بين مكوّنات المؤسسة الرسمية بفروعها الثلاثة؛ الأزهر ودار الإفتاء والأوقاف، وقد ازداد هذا الصراع منذ أحداث الربيع العربي، وازداد بصورة أكبر بعد سقوط الإخوان من الحكم في العام 2013، حيث سعت المؤسسة الرسمية إلى استعادة مكانتها وملء الفراغ الذي تركته الحركة الإسلامية، لكن ظهرت المنافسة والصراع داخل المؤسسة الرسمية ذاتها حول من يقوم بالدور الأكبر ويمتلك الحق في الحديث باسم الإسلام ويمثل الشرعية الدينية.
وكان الخلاف حول الفتوى ومن يملك الحق في إصدارها أحد مظاهر هذا الصراع، وقد تكرر الحديث بشأن الفتوى بشكل متكرر في الأعوام الماضية، وكانت هناك محاولات لجعل دار الإفتاء تابعة للأزهر، ومحاولات أخرى من وزارة الأوقاف للحصول على الحق في الفتوى الخاصة من خلال الأئمة العاملين بالوزارة من خلال إدخال تعديلات على القانون المنظم للوزارة، ورغم موافقة الأزهر على ذلك بعد مرحلة من الخلاف والجدال انتهت بمنحه الحق في إصدار ترخيص لمن يرغب في القيام بمهمة الفتوى من أئمة الأوقاف؛ إلا أنّ الخلاف حول الأمر يكشف عن طبيعة الصراع وأسبابه ودلالاته، وهو ما نسعى في هذه المساحة إلى توضيح جانب منه.
فما أهمية الفتوى لتكون محلًا للصراع؟ وهل يعني امتلاك الحق في إصدار الفتوى امتلاك الشرعية داخل الحقل الديني؟ وهل تمثل الفتوى إحدى أدوات الدولة لضبط الحقل الديني؟
أهمية الفتوى وتأثيرها على المجتمع
تمثل الفتوى أحد أهم الأدوار التي يقوم بها رجال الدين، حيث من خلالها يتم توضيح حكم الدين في أمر من الأمور الخاصة بالعبادات أو المعاملات، ويعرّفها الإمام القرافي بأنّها إخبار عن الله تعالى في إلزام أو إباحة، ويقول الإمام النووي: “اعلم أنّ الإفتاءَ عظيم الخطر، كبير الموقع، كثير الفضل؛ لأنّ المفتي وارث الأنبياء، صلواتُ الله وسلامه عليهم، وقائم بفرض الكفاية، لكنّه مُعَرَّض للخطأ؛ ولهذا قالوا: المفتي مُوَقِّعٌ عن الله تعالى، كما يقول ابن القيم إنّ المفتي مُبلّغ عن الله، والواسطة بين الله وخلقه في بيان الحلال والحرام.
من هنا تتضح أهمية الفتوى كما تتضح المكانة التي يحتلها القائم بهذا الدور، فمن يملك حق الإفتاء يملك مكانة كبيرة وسلطة كفاعل داخل الحقل الديني وفي المجتمع بشكل عام، فهو يفسر النصوص ويوضح مراد الله منها ويستنبط الأحكام الشرعية، وهو بالتالي كأنّه يملك الحديث باسم الإله، أو كما وصفه ابن القيم بأنّه موقّع عن الله، فالفتوى تمثل في نظر الناس الدين وليس اجتهاد البشر في فهم الدين.
ونظرًا لمكانة الدين في المجتمع، وقدرته على التأثير، وكونه مكوّنًا أساسيًا من مكوّنات الهوية؛ فإنّ الفتوى قادرة على توجيه الأفراد وتحديد خياراتهم، وهي قادرة على الإسهام في دفع المجتمع إلى الأمام، أو وضع العثرات في طريقه وإصابته بالجمود وإدخاله في دائرة من الصراعات، كما أنّ الفتوى تسهم في تشكيل ثقافة الأفراد ورسم تصوراتهم تجاه العالم، والفتوى أداة من خلالها يتمدد الحقل الديني في المجتمع ويصبح له تأثير كبير في المجال العام. فمن خلال البيانات التي تصدرها دار الإفتاء سنويًا وتوضح فيها عدد الفتاوى التي تصدرها ردًا على الطلبات التي ترد إليها، سواء في المركز الرئيسي أو فروع الدار في المحافظات؛ فإنّ الفتاوى تبلغ كل عام تقريبًا أكثر من مليون ونصف مليون فتوى، هذا بجانب آلاف الفتاوى التي يتم نشرها على صفحات ومواقع سلفية ردًا على طلبات من الأفراد، والكثير من تلك الفتاوى يكون في جوانب المعاملات والأمور الحياتية التي تحتاج إلى استشارة متخصصين في علوم مثل علم النفس والاجتماع والطب… إلخ، حيث لا تتعلق باستيضاح الحكم الشرعي، ولكن طلب نصيحة من الشيوخ القائمين على تلك الصفحات، كما أنّها تعكس الحرص الشديد على معرفة حكم الدين في كل تفاصيل الحياة، ممّا يوضح مكانة الدين في المجتمع والسلطة والمكانة التي يتمتع بها رجال الدين سواء من الرسميين أو غير الرسميين، كما تأتي خطورة الفتوى وأهميتها في ظل الصراع الدائر بين الدولة وبعض الحركات الإسلامية وفي ظل الأحداث التي تقع على المستوى المحلي والإقليمي؛ من أنّه يتم توظيف الفتوى من جانب تلك الحركات لتمرير أفكارها ومشروعاتها وتصفية حساباتها مع الدولة والتأثير على استقرار المجتمع، فكثير من ممارسات الحركات الإسلامية التي استخدمت العنف يتم تأسيسها على فتاوى شرعية وفق تفسيرهم للنص الديني، وهو ما تعمل المؤسسة الدينية الرسمية خلال الأعوام الماضية على مواجهته وتوضيح آثاره.
حق الإفتاء والصراع على الشرعية
منذ أحداث الربيع العربي تسعى المؤسسة الدينية الرسمية نحو زيادة مساحة حضورها وتأثيرها في المجتمع، وبجانب الصراع بين المؤسسة الرسمية وبين الحركات الإسلامية حول من يمثل الدين ومن يفهمه على وجهه الصحيح، فإنّ الصراع كذلك قائم بين مكوّنات المؤسسة الرسمية وهي الأزهر ودار الإفتاء ووزارة الأوقاف، وهذا الصراع أو المنافسة ليست جديدة ولكنّها قائمة منذ عقود، فالأزهر هو المؤسسة الدينية الأم، ويعتبر نفسه من يقع عليه عبء الوظيفة الدينية والحديث باسم الإسلام في مصر، أمّا دار الإفتاء والأوقاف، فهما مؤسستان حديثتان مقارنة بالأزهر الذي تأسس في عهد الدولة الفاطمية في العام 970 م، وتأسست دار الإفتاء عام 1895، وكان تأسيسها، كما يرى الدكتور إبراهيم البيومي غانم، جزءًا من سياق عام شهدت فيه مصر سعيًا دؤوبًا لإعادة تشكيل المجال العام وضبطه ووضعه تحت سيطرة مؤسسات مركزية للدولة الحديثة في مختلف مجالات الحياة، وهذه المؤسسات ترجع بداياتها إلى عصر محمد علي باشا في النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي، أمّا وزارة الأوقاف فقد تأسست في العام 1835 كهيئة تشرف على الأوقاف السنّية، التي كانت من قبل خاضعة للأزهر، ويتم صرف جزء من عوائدها على أنشطته، ثم تحولت الهيئة إلى وزارة في العام 1913 لتشرف على المساجد الموقوف عليها وقفًا خيريًا بموجب التعديل الوارد على القانون في العام 1935، ثم في العام 1960 تم تعديل القانون لتصبح الأوقاف مشرفة على جميع المساجد الأهلية، وتوسع دورها بشكل كبير مع مرور الوقت.
وقد ظهرت إلى السطح خلافات متكررة بين الأزهر من جانب ودار الإفتاء والأوقاف من جانب آخر حول اختصاص ودور كل منهم، ومن أبرز أوجه الاختلاف ذلك الذي ظهر في العام 2020 بشأن تعديل القانون المنظم لدار الإفتاء، حيث تم نقل تبعيتها من وزارة العدل إلى مجلس الوزراء، وهو الأمر الذي اعترض عليه الأزهر الشريف من خلال هيئة كبار العلماء، حيث يرى الأزهر أنّه يمثل، وفقًا للدستور، المرجع الأساس في كل الأمور الشرعية التي في صدارتها الإفتاء، والبتّ في كافة الأمور المتعلقة بالشريعة، وإجراء الأبحاث الشرعية المتعلقة بالفتوى، والردّ على الشبهات المثارة، وغيرها من الأمور الشرعية التي تضمنها مشروع القانون، ولذلك يرى الأزهر أنّ الإفتاء حقّ أصيل له ووظيفته التي يؤديها منذ نشأته حتى تأسيس دار الإفتاء، وبالتالي كان يرى ضرورة أن تكون دار الإفتاء تابعة له، وأن تبعيتها لغيره يفقد الأزهر استقلاله.
والخلاف الآخر كان بين الأزهر والأوقاف حول من له الحق في إصدار الفتوى، حيث تسعى الأوقاف إلى زيادة المساحة التي تعمل خلالها وتعدد الأدوار التي تقوم بها، وهو الأمر الذي يعمل الأزهر على التصدي له قدر الإمكان، وقد سعت الأوقاف أكثر من مرة من خلال العمل على إجراء تعديلات تشريعية باكتساب الحق في إصدار الفتاوى الخاصة التي تتعلق بآحاد الناس من خلال أئمة المساجد، وهو ما رفضه الأزهر في البداية باعتبار أنّ حق إصدار الفتاوى قاصر على الجهات التي حددها القانون، وهي هيئة كبار العلماء ومجمع البحوث الإسلامية ودار الإفتاء، لكن تمّت الموافقة في النهاية بعد ضمان الأزهر أن يتم ذلك من خلال منحه التراخيص للأئمة الذين لهم الحق في ذلك، وأن يكون الأمر تحت إشرافه.
ويمكن تفسير موقف الأزهر المتمثل في حرصه الدائم على القيام بتمثيل الإسلام وامتلاك الشرعية في الحقل الديني، وكذلك موقف الإفتاء والأوقاف المتمثل في السعي نحو زيادة المساحة والدور الذي يقوم به كل منهما، من خلال أمرين؛ الأوّل هو الصورة الذهنية التي تترسخ داخل الأزهر عن نفسه وعن طبيعة الدور الذي يقوم به، فهو يرى أنّه صاحب الحق الأصيل في الحديث باسم الإسلام في مصر، وأنّه المؤسسة الأمّ، وأنّ المؤسسات الأخرى مستحدثة وسحبت من مساحته وأخذت من مكانته ودروه المنوط به، وكما يقول الباحث في العلوم السياسية ناثان براون: إنّ الأزهر يرى أنّه صوت ضمير المجتمع، وأنّه يلعب دورًا أبويًا يوجّه مصر ويحمي مصالح شعبها، كما يرى الأزهر أنّه يجب أن يحافظ على استقلاله، وأن تكون هناك مسافة مناسبة بينه وبين السلطة، وألّا يكون جزءًا من صراع سياسي، وأنّ مرجعيته يجب أن يكون مصدرها الدين والنصوص الدينية وفق قراءته وتفسيره، وأن تكون مواقفه وفتاواه بعيدة عن مشكلات السياسة.
وهذا يكشف لنا عن الأمر الثاني الذي يتعلق بالأوقاف والإفتاء؛ حيث إنّ السلطة فيما بعد 2013 تسعى إلى ضبط الحقل الديني بشكل تراه محققًا لاستقرار الدولة وحماية المجتمع ممّا يهدده من أخطار، ويرى النظام أنّ الخطاب الديني والأفكار التي تطرحها الحركة الإسلامية سبب رئيسي في الصراع القائم بين الدولة وتلك الحركات، وأنّه سبب أساسي فيما يعيشه المجتمع من أزمات مختلفة، ويرى كذلك أنّ الخطاب الديني بشكل عام بحاجة إلى تجديد يتناسب مع التطورات الحادثة في المجتمع، وقد صرّح الرئيس، في مناسبات مختلفة، أنّ المجتمع بحاجة إلى ثورة دينية، وأنّ المؤسسة الدينية الرسمية تقع عليها مسؤولية التجديد الديني الذي يحتاجه المجتمع، وهو ما لم يجد استجابة بشكل مناسب من الأزهر، ممّا أحدث خلافًا في عدة مواقف بين الرئيس وشيخ الأزهر، وقد ساعد الأزهر في ذلك الموقف مكانته التي يتمتع بها محليًا ودوليًا، وكذلك استقلاله بدرجة كبيرة وتحصين منصب شيخ الأزهر من العزل، بينما على الجانب الآخر، وبحكم كونهما جزءًا من جهاز الدولة الإداري، كانت الأوقاف والإفتاء أكثر استجابة لمتطلبات التجديد وضبط الحقل الديني، خاصة الأوقاف التي قامت بعدة إجراءات في هذا الإطار، منها تشديد الرقابة على المساجد التي تم ضمّها جميعًا إلى الوزارة، ومنع صلاة الجمعة في الزوايا الصغيرة، وإغلاق المساجد بعد كل صلاة، وتوحيد خطبة الجمعة، وضم آلاف الجمعيات الخيرية وجعلها تحت إشراف الوزارة.
الخلاف الذي يحدث بين مكوّنات المؤسسة الدينية الرسمية ليس ناتجًا عن خلاف فكري، لكنّ هذا الخلاف يمكن قراءته في ضوء الصراع حول من يمتلك الشرعية الدينية، ومن له الحق الأصيل في الحديث باسم الإسلام، وفي ضوء سياسة النظام التي تهدف إلى ضبط الحقل الديني انطلاقًا من إدراكه لتأثير الفكر الديني على المجتمع بدرجة كبيرة.
المصدر : حفريات