كتب : محمد الثريا
لطالما كانت المؤشرات الدالة على الفوارق القائمة في الموارد السياسية والاقتصادية والاجتماعية في ستة أقاليم تدعم خلاصة مفادها ان عناصر مؤثرة من المناطق الجبلية المحيطة بصنعاء تقوم باستغلال موارد الاقاليم الاخرى لمصالحها الخاصة وبالنتيجة تزداد الفوارق في المكتسبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتتصاعد الهويات المناطقية التي تفضي في نهاية المطاف الى تقويض عرى الوحدة الوطنية ( المتخيلة ) في اليمن .
والأمر ذاته لازال ينطبق على الواقع الذي رافق يومها وحدة الشطرين وأدى بالنتيجة الى حرب صيف عام 94م ،وبالتالي إهتزاز صورة الوحدة النرجسية في مخيلة الشعب بالجنوب.
الجرم التاريخي والخطيئة تلك تظل هي مربط الفرس وحجر الزاوية لمعظم الخلافات والصراعات المتجددة باليمن منذ فجر الوحدة بين الشطرين وحتى اليوم،كما انها تجسد وبوضوح عقدة اللإستقرار والإخفاق الذي شاب معظم الاصلاحات والرؤى السياسية التي جاءت كمعالجات صورية يعزى اليها التخفيف من وطأة ضرر المركزية المقدسة لحكام صنعاء .
بل حتى ان مشروع الرئيس هادي نفسه وكما اشرنا واجه ذات الحائط السلطوي المقيت وهو ما يؤكد مجددا ان اي محاولات ساعية لإحياء الوحدة وتصحيح مسارها كانت دائما ما تجهض من قبل هضبة الشمال فيما كانت وبكل أسف توجه أصابع الاتهام زورا صوب الجنوب الثائر بوجه جلاديه تحت مبرر (دعوات انفصالية تهدف الى تمزيق الوطن)..الوطن الذي حولته هيمنتهم الفئوية الى إرث عائلي تحكمه عقلية الاقطاعية والقبيلة.
والحقيقة ان الجنوبيين الذين سلموا يومها دولة بكامل مقوماتها واركانها وبعد ان وجدوا انفسهم فجأة مجرد شعب مهمش بالكاد يحضى بحقوق المواطنة من الدرجة الثانية قد اجبروا حقا في الدخول الى مواجهة مع ذلك الواقع الغاشم واعلان الثورة عليه بحثا عن حياة كريمة ومستقبل آمن ليس إلا .
لذا ليس من العدل اليوم نفي مسؤولية كل تلك الاخطاء والتراكمات عن سطوة وانتهازية القطب الواحد في صنعاء عبر محاولة قلب الحقائق وتصوير واقع اليوم كأنه نتاج طيش ونزغ خلفته مظاهرات الجنوبيين وقفزاتهم الثورية كما يزعمون . فيما واقع الامر اكبر من ذلك بكثير والحقيقة هي عكس ما يدعون تماما .
كما ان صفحات التاريخ لازالت حاضرة ومدونة وبامكانها عرض جميع خفايا منعطفات اليمن الوحدوي وحماقة المنحدرات المؤسفة وكارثيتها التي افضت بدورها الى حالة الانفصال الوجداني تجاه مفهوم الوحدة قبل الوصول الى حالة المواجهة المباشرة مع ادعيائها زيفا.
بالامس خلفت الممارسات القمعية والاقصائية ومركزيات القرار والحكم واقعا محتقنا وناقما باتجاه الوحدة وكل مايمت اليها بصلة بل واعتبارها كابوسا جاثما فوق صدر الشعب وتطلعاته ومن الواجب الانتفاض ضده؛ وبعيدا عن خلافات النظامين السياسيين حينها كانت الاجواء المشحونة بكراهية ذلك الواقع قد تشكلت فعلا ولم تكن مواقف الساسة المعلنة ساعتها سوى تعبيرا وانعكاسا واضحا دفع بالنهاية نحو حرب94م.
واليوم يتكرر ذات المشهد وان بدا بقيادة شخوص مختلفة وخلف عناوين اخرى عدا انه وفي حقيقة الامر سوف لن يخرج كثيرا عن تلكم المسببات والممارسات التي كانت وراء الحرب السابقة.
الكتلة المتسلطة ومن خلفها الدولة العميقة التي اخذت على عاتقها مسؤولية الحفاظ على منجز الوحدة اليمنية بالطريقة التي تراها مناسبة وتحت المبررات التي تعتقد انها صحيحة
هي من افشل مشروع الدولة الاتحادية قبل سنوات ولازالت؛ وهي قبل ذلك ايضا من عطل مشروع الوحدة الاندماجية وانقلب عليه. وهي كذلك من لازال يسعى اليوم وبشتى السبل في افشال جميع المحاولات والجهود الرامية الى ارساء نظام سياسي جديد قد يحقق حالة من السلم والاستقرار شمالا وجنوبا طالما انه لن يمر عبر مفاهيمها الوحدوية القاصرة وقنواتها الوطنية الضيقة.
تلك الفئة الملوثة فكرا وخلقا لازالت كما يبدو تجد صعوبة كبيرة في التخلي عن معتقدات الملكية الخالصة وان الوطن ملك لجميع ابنائه وليس لسلالة بعينها لذا ليس غريبا اليوم ان نشاهد تلك التحالفات الخفية وهزلية تبادل الادوار التي تتبناها قياداتها ظنا منهم بأن مآربها السيئة ستفلح كل مرة.
فواقع اليوم يؤكد ان مشهد الصراع الحالي ومساره السياسي بات مختلفا كلية عن مشهد الامس وان خط سير الاحداث لن يلتق مجددا مع مساعيها الشاذة .
ببساطة لقد دخل الملف اليمني لعبة الحسابات الاقليمية ولم يعد مجرد ازمة داخلية محتواة كما قيل يومذاك في الرد على خطاب الامم المتحدة الداعي الى وقف القتال بين الشمال والجنوب قبل اكثر من عقدين من الزمن .
فمن يقنع هؤلاء ان معايير الصراع وقواعد اللعبة قد تبدلت هذه المرة؟
نرى ان تأخذ هذه النقطة حقها في النقاش والحوار اثناء الحديث عن مسببات فشل الوحدة وذهاب الجنوبيين نحو خيار فك الارتباط وحتى حديثا حينما عادت لتقف اليوم حجرة عثرة امام مشروع الاقاليم عبر انشطة اذرعها هنا وهناك في عرقلة اي حلول سياسية قد تخلص الى توحيد صف المواجهة ضدها بعد ان عمدت قبلها الى سياسية قلب الطاولة وتنفيذ الانقلاب الذي خنق يومها مشروع الدولة الاتحادية في مهده.
وبالفعل تبقى تلكم البينة كافية لوحدها في إفحام اكبر المزايدين والمنافقين الناعقين خلف ستار الولاء للجمهورية والوحدة، اؤلئك الذين باتوا اليوم يرون ويسوقون للجماعة الحوثية على انها سلطة أمر واقع ينبغي التعامل معها والتسليم لها كشريك وطني ومشروع ثوري يتمسك بالسيادة ويلفظ العدوان كما يروج له بينما في الاصل سنجد ان هكذا فكر ومسعى لايبتعد كثيرا عن نوايا تهيئة الشارع الشمالي تحديدا نحو القبول باعادة انتاج واقع بيت الطاعة والتسلط بشكله الهضبوي المعروف وفي الطريق ربما بعدها الى إلحاق الجار الجنوبي مجددا ببوتقة التبعية والتهميش.
لكن ياترى كيف سيقتنع هؤلاء بحتمية فشلهم حال استمروا في هكذا طريق حتى نتوقع عودتهم الى جادة الصواب؟ وهل يفهمون ويدركون أصلا واقع الحال والمحال الذي نتحدث عنه اليوم؟