سالم فرتوت
غادر المسجد ليلتقيها شاكرا الإمام الذي ربما بدون أن يقصد اعلمه بوجودها .مضى باتجاه باعة البيرة خلف سوق القات القريب من المسجد. وهو ماجعل الإمام يطلب من المصلين عصر ذلك اليوم البقاء ليستنكروا الأمر او ليعلم الحاضر الغائب من يدري؟
نهض الرجل العجوز الذي صلى أخيرا، بعد ان منعت سلطة المحافظ الجديد لأبين بيع وتناول الخمور فيها، أوائل سني التسعينيات، فمن أين له بقارورتي بيرة اعتاد احتساءها منذ أن كان شابا. قبل الاستقلال وبعده ؟
هكذا كان لايزيد على القارورتين إلا يوم الراتب.إذ يضيف إليهما ثالثة ،لكنه يكاد يسكر !ولكي لا يهذي ويؤذي احدا ينسحب باتجاه بيته يتناول عشاءه، ويضحك زوجته وأقاربه كعادته فإنه ظريف طيب .لم تنل قارورتي البيرة من احترام الناس له.فهي تهبه شيئا من الارتياح وتيسر له النوم.
وجاء شمالي ،محافظا لأبين ومنع بيعها فيها.
وفي اجتماع بالمواطنين حضره هو خصيصا ليسأل هذا المحافظ عن السبب.
عندما سمح المحافظ للحاضرين بالكلام. ارتفع صوته :(يامحافظ وراكم على المسكينة)؟!
تساءل هذا:(أيش يقول هذا الحاج)؟
:(قول لك أيه سوت بكم المسكينة منعتوها علينا).(أي مسكينة)؟
همس أحد مساعدي المحافظ في أذنه:(يقصد البيرة )، وتوجه إلى الرجل:(خلاص بعدين المحافظ يباك).
ويعد ان انتهى الاجتماع لم ينس أن يذكر المسؤولين بمسكينته ،إذ اخذ يسير إليهم بجسده البدين ويشير بيده:(يامحافظ، يامحافظ)!
مضى إلى جانبه والحرس ببنادقهم من حولهما .قال :(انا مش أقدر اعيش من غير المسكينة !كيف سوي)؟!
(روح عدن)!
(منين لي كرى البابور).
(أديك امر للنقل تركب مجانا).
وتجشم ا الذهاب إلى عدن ليعانق المسكينة -على حد وصفه-لكن المسكينة كانت حزينة ، واجمة !لم تعد تبعث ذلك المرح والسرور في نفسه.إنه يتجشم السفر إليها والأياب من عندها ساعات .لو كنت روح لها برضاي! من زمان بريطانيا والسلاطين هيه دي كانت تجيني برضاهاآه انا فدوش يالمسكينة!ويضيف وهو يخاطب معارفه، ويضحك هؤلاء:(حجبوش علينا يبو يبيعوش في الخفاء كما عندهم.)
ونصحه معارفه:(خلاص ياعبدالرحمن ،بطلها وصلي).
وصلى ..وغياب المسكينة يحزنه .قارورتان في اليوم تنفرج فيها أساريره ،يجلس إما على الارض أو على كرسي إلى طاولة مع ثلة من معارفه ،يمسك بقارورة البيرة ،ويقول:( المسكينة حيا صباحش )!ورشف منها ويتوقف لحظات ..ويذهب بعيدا عن المكان .ترى فيم يسرح؟!
وعاد إليها ويقول كأنه يستأذنها:( عادش قبين يامسكينتي.)ويرفعها إلى فمه وتفعل فعلها فيه ..تستكين عيناه وينبسط وجهه ..ويقول لأحد الجلوس بهمس مصطنع :(بكرة اجزع علينا المكتب بانحول بزايد ناقص ).ويتضاحك الحاضرون ويتصنع هو الجد .منذ 30 عاما ويزيد وهو والمسكينة حبايب .لم تفضحه يوما .فإنه يأبى أن يسكر فيزعج الآخرين.
وجاء المحافظ الجديد ليفرض عليها الحجاب لكي يتاجروا بها في السر كما هو الحال عندهم.
:(خلاص صلي، يارجل)!
صلى ..وماهي إلا يومان حتى اعلنه إمام المسجد بعد صلاة العصر بأنها تباع ليس بعيدا عنه .
استبقى الإمام المصلين ليلقي فيهم خطبة ،حول ذلك الأمر .وكان هو يجلس واجما :(وفجأة يدوي في سمعه قول الخطيب:(ياعباد الله،إنهم يبيعون الخمرة ليس بعيدا عن بيت الله،ولكن هنا هنا خلف سوق القات.)نهض فرحا ورفع ظاهر كفه إلى جبينه قائلاًً للإمام:(اشكرك) -بضم الكاف والراء- ومضى إلى الباب المؤدي إلى المكان الجديد الذي تنتظره فيه. اتجه إلى بائعها .سلمه قيمة قارورتين ،رأى مجموعة تجلس تحت شجرة مريمر ،ناداه أكثر من شخص :(يامسكينة ،تعالي ).
ابتسم وقال:(أنا المسكينة والمسكينة أنا. )أيه حيا صباحش وقبل القارورتين ،وفتح المسكينة بالمسكينة فصدر صوت منها حبيب إلى سمعه.وتمنى ألا تفارقه مادام حيا.
6 مايو 2020