القصر العَيني وكيف اصبح هرمًا طبيًا وتعليميًا وقصة هروب مالكه واختفاء ابنته ؟!
كتب : محمد علي محسن
زرت مستشفى قصر العَيني ، وهنالك التقيت بالولد الرائع الدكتور، عرفات محمد الوداد ، الذي طاف بي المستشفى الضخم ، ولكم كانت دهشتي بسعة المكان واكتظاظه بزحام شديد من المرضى ، والمرافقين ، والاطباء ، والطلاب ، والعاملين في هذه المنشأة الطبية ؟ . فما قرأته أو سمعته عن هذا الصرح الطبي والتاريخي في استطلاعات صحافية مصورة أو من خلال أصدقاء أو مرضى تعالجوا هنا ؛ وجدته حاضرًا ويستحثني لمعرفة تفاصيل التفاصيل الدقيقة .
تجولت برفقة الولد البار ، فرأيت كيف اصبحت أول مدرسة طبية عربية أنشئت في مصر في عهد محمد علي باشا ؟ فمن مدرسة ملحقة بالمستشفى العسكري في “أبو زعبل”؛ الى قصر العيني ، الصرح العملاق الذي يعجُّ اليوم بألاف البشر ، بينهم المتعبين الباحثين عن دواء يبري سقمهم ، وفيهم الطلاب الدارسين الباحثين عن معرفة تنير عقولهم وتفيد مجتمعاتهم ، ومنهم الموظفون المشتغلون في الادارة والطبابة وحتى النظافة والحراسة .
والقصر العيني ، بشكله وهندسته ومحتواه في الوقت الحاضر يُعدُّ تحفة معمارية وهندسية نادرة الوجود ، فصاحبه ” أسامة شهاب الدين أحمد عبد الحميد بدر الدين محمود العيني “، والشهير ب ” احمد بن العيني ” حين شَّيد قصره عام 1466م لم يكن في حسبانه ان التاريخ سيخلِّده اسوة بالفراعنة القدماء ، خوفو ، ورمسيس ، وكليوباترا ، واخناتون ، وتوت عنخ آمون ، فلقد رحل العيني الى بارئه في المدينة المنورة عام 909هجرية ، ودفن هناك في البقيع ، دونما يتسنى له رؤية مسكنه وقد بات هرمًا يزاحم اهرامات الجيزة .
وكان “أحمد العيني” حصل على أرض هذا القصر كهدية من الأمير المملوكى ” سليمان المهراني ” أيام “الظاهر بيبرس”، وهو يعتبر أول من شيَّد هذه المنطقة ، وعندما اكتمل بناء هذا القصر، دعا صاحبه ، سلطان البلاد السلطان “خوشقدم ” لافتتاحه وزيارته ،فاستجاب السلطان وزار القصر ، وشاهد جمال المكان المطل على اعظم هبة للسماء ” النيل ” فمنح ” أحمد العينى ” رتبة الإمارة العسكرية.
ولكن الزمن تبدَّل فجار عليه الحاكم التالي السلطان ” قايتباى ” الذي ما ان تولى الحكم حتى ألقى القبض على “العيني باشا “واستولى على قصره ، فلم يطلق سراحه إلَّا بعد تعهده بدفع 20 الف دينار شهريًا للسلطان ، واعيد ثانية للسجن ، لكنه هذه المرة افلت وهرب الى مكة ، تاركًا مصر وقصره واملاكه .
وبعد وفاته صار القصر من أملاك الدولة المملوكية التي لم يمهلها الزمن – أيضًا – فسقطت وشنق آخر سلاطينها ” طومان باي ” في باب زويلة ، وانتقلت مصر الى ولاية عثمانية ،واستولى باشوات العهد العثماني على قصر العيني ، وحولوه الى مكان للنزهة ، وتارة للضيافة ،وثالثة الى حبس جبري للأمراء الذين حلَّ بهم عقاب السلاطين المتعاقبين على حكم بلاد الكنانة .
قصة مستشفى القصر العيني :
واغلب هؤلاء المرضى يجهلون تمامًا صاحب الفضل الكبير في بروز هذا الصرح العملاق للوجود ، فمن ذا يسأل عن الطبيب الفرنسي ” انطوان كلوت ” ، الشهير ب ” كلوت بك “؟. القلة فقط من الباحثين والمؤرخين هم من يتذكر الطبيب الجراح وكبير الاطباء في الجيش المصري واسهامه الكبير في تأسيس أول لبنة طبابة في هزيع العشرينات من القرن قبل المنصرم .
وبدأت مسيرة قصر العيني مع الطب في عهد الوالي محمد على باشا الذي أنشأ مدرسة حربية عام 1825 م في القصر، سرعان ما تحولت المدرسة الى مستشفى ، كُلِّف لإدارته الطبيب الفرنسي ” كلوت بك ” الذي ينسب له تأسيس مستشفى قصر العيني .
كما ويحسب ل ” كلوت “هو ادخاله للتقنية الطبية الأوروبية فى الجيش المصري ، إذ كان محمد علي باشا عينه كبيرًا للجراحين عام 1825م ليكون أول جراح فرنسي في الجيش المصري يساعده عدد من الأطباء والصيادلة . كما ويرجع له فضل نقل مدرسة الطب من ابو زعبل الى قصر العيني عام 1837م .
وقال اصدقائي المصريين ان ” قصر العيني باشا ” كان مستهله بمدرسة للمولدات ، ولكن مع عودة الطبيب ” كلوت بك ” ثانية الى مصر عام 1848م – بعد عشرة اعوام على استقالته 1838م ومغادرته الى بلاده فرنسا – عادت الحياة مجددًا إليه خاصة بعد اعادة تعينه مديرًا لمدرسة الطب ومستشفى قصر العيني عام 1855م .
واضافوا انه تم ضم المدرسة والمستشفى الى الجامعة المصرية وعين الدكتور ” ولسن ” مديرً لها عام 1925م ، ثم عين الدكتور ” علي باشا إبراهيم ” عميدا للكلية والمستشفى في عام 1929 م ، واستمر رئيسًا لها حتي عام 1940م .
ومنذ ذاك الوقت ، والمكان لا يتوقف نبضه وخفقانه ، ومع جريان الوقت وتقلباته وانفعالاته ظل المبنى يكبر وينمو ويزدهر دونما تأثر به عوامل الزمن او يهرم ويشيخ ، وكأنَّه اشبه بشجرة الميلاد التي تظل خضراء نضرة متحدية فصول السنة الأربعة ، بما فيها الشتاء وقسوته وشدته .
ولم ينسى التاريخ انه وفي عهد الحملة الفرنسية تحول قصر العيني باشا إلى مستشفى عسكري حيث طلب نابليون بونابرت تخصيصه لجنود وضباط الحملة الفرنسية . وعندما قُتل ” كليبر ” على يد سليمان الحلبى نقل جثمانه إلى حديقة القصر ودفن فيها ، ثم نقلوا الجثمان معهم عند جلائهم عن القاهرة .
قصر العيني الحديث :
ومبني قصر العيني القائم الآن تم تشييده مواكبة للتطور العمراني والسكاني والطبي والتعليمي ، إذ تم التعاقد لبناء المستشفى الجديد مع مجموعة فرنسية ” كونسرتيوم ” وهي مكونة من ثلاث شركات : “سوجيا ” و “ايبوتي دي فرانس ” و ” ست فولكييه ”، وذلك في عام 1984م .
أمَّا انجازه وتشغيل المرحلة الأولي فبدأت في عام 1995م ، وفي الثامن من ابريل عام 1996م تم افتتاح مستشفى العيني الجديد من قبل الرئيسين الراحلين المصري ” محمد حسني مبارك ” والفرنسي ” جاك شيراك “. والمبنى الجديد للمستشفى التعليمي – والذي يشغل مساحة كبيرة من جزيرة منيل الروضة – لم يعد يوصف بأنه الجديد ؛ لأن المستشفى الفرنسي أصبح يحمل لقب المستشفى التعليمي .
ومستشفى القصر العيني التعليمي الجديد يعد نقله نوعية في الطب الحديث ، إذ انه يتكون من 12 طابقًا تضم 1200 سريرًا ، علاوة عن ان تزويده بأحدث الأجهزة والمعدات الطبية فى العالم ، جعله قبلة لألاف الحالات المرضية من داخل مصر ومن خارجها ، فيما أقسامه تتوزع بين الأمراض الباطنة العامة وتشمل ثمانية أقسام ، وأقسام الجراحات الباطنة العامة وتشمل ستة أقسام ، والجراحات المتخصصة وتشمل خمسة أقسام ، والوحدات الطبية المعاونة (الرعاية المركزة – بنك الدم – وحدة المناظير)، والمعامل المركزية، وقسم الأشعة التشخيصية .
أمَّا وحدة العمليات الجراحية فتتكون من 18 غرفة عمليات مزودة بكافة الخدمات اللازمة لها من غرف التعقيم والتخدير والإفاقة ، فضلًا عن تزويدها بكافة أنواع الميكروسكوبات الجراحية ، وأجهزة الليزر، والأشعة التشخيصية ، ويمكن تخزينها على أجهزة الفيديو . ناهيك عن خدمات المصاعد الكهربائية التي يوجد بها 27 مصعدًا كهربائيًا لخدمة المرضى والزوار ونقل الأغذية والأدوات في المستشفى .
وفي الوقت الحالي يوصف شارع القصر العيني بـ “منتجع الأمراء” أو “ساحة الموظفين”، وذلك نظرًا لإحتوائه العديد من المراكز الحيوية ؛ حيث يوجد به مجالس الوزراء والشعب ، ووزارات التعليم والداخلية والإسكان .وكذا المؤسسات الصحفية كروز اليوسف ونقابة الأطباء .
و يوجد بالشارع عددًا من المؤسسات الفنية والثقافية أبرزها مسرح السلام ، والهيئة العامة لقصور الثقافة ، والمجمع العلمي الذي تم حرقه خلال اعتصام مجلس الوزراء في ديسمبر 2011م ، والجمعية الجغرافية المصرية ، التي أنشأها الخديوي إسماعيل عام 1875، وتعد أول جمعية جغرافية في الشرق الأوسط، والجامعة الأمريكية ،وسواها من المنشآت القديمة والحديثة التي صارت جزءًا من تاريخ شارع القصر العيني .
قصة اختفاء دليلة ابنة العيني :
أمَّا قصة اختفاء ابنة العيني داخل القصر ، فتشير الحكاية إلى ما وقع للأب حين اختفت ابنته في ليلة عرسها ؛ فتقول الحكاية التي يرويها الطلاب الدارسين في كلية القصر العيني – ايضًا – ، ان ابنة احمد العيني باشا وتدعى ” دليلة ” اختفت داخل القصر ليلة الحناء ، بينما كانت تلعب مع صديقاتها لعبة ” الاستغماية ” .
وبحسب الرواية المتناقلة كانت الفتاة حسناء الجمال وتقدم لخطبتها اكثر من عريس ، لكنها اختارت شابًا وسيمًا يدعى الحسيني ، وفي ليلة زفافها التقت بفتيات اخريات ممن اردنَّ مباركتها ومشاركتها فرحتها ؛ قررنَّ جميعًهنَّ لعب ” الاستغماية ” ؛ لكن دليلة اختبأت ولم يعثر عليها ليلتئذ رغم البحث عنها من صاحباتها أو من افراد الشرطة لاحقًا .
وبعد عناء البحث ، سرت شائعات عدة ، فقيل أنَّ أعداء أبيها تربصوا بها واختطفوها، وقيل أنها هربت مع عشيقها لأنها لم تكن تريد الزواج من الحسيني ، أو أن العفاريت خطفوها، تعددت الأسباب ولكنها لم تظهر، أمَّا أبيها فقد بقي ذاهلًا عن الوجود فترة حتي قيل انه فقد عقله أو وقف خفقان فؤاده .
فلمَّا أفاق من ذهوله وصدمته لم ينطق بكلمة وترك قصره وانطلق ماشيًا إلي مسجد الحسين ، فرَّق السائل من أمواله على دراويش المقام وارتدي خرقة من الصوف وعمامة خضراء . والى اللحظة ما زالت قصة اختفاء “دليلة” لغزًا محيرًا ، إذ تحول الاختفاء بمضي الزمن إلى أسطورة .