كريتر نت / بقلم/ مسعد عكيزان
طالما قلت لنفسي ما جدوى ما أقوم به في ظل واقع طارد لا يمنحني ولو القدر البسيط من التغذية الراجعة؟!
هذا ما عانيته كثيرا طوال سنوات في تجربتي المريرة مع الكتابة كعشق تشعر حياله بإحساس مزدوج.
فبقدر السعادة التي تغمرك والراحة التي تسري مع دمائك إلى كل خلية من خلاياك يوازيها ألم يعتصر فؤادك ويغتذي من دمك مسببا قدرا هائلا من الإرهاق نتيجة العصف الذهني الرهيب الذي يقودك في اتجاهات متضاربة لا يجتبيك من حيرتها القاتلة غير الإفضاء بهمومك إلى الورق والبوح بها بلغة صامتة تصبح جزءا منك، وصورة تعكس ما يختمر بعقلك وتهديه غيرك خلاصات لم تدرك في يوم ما أنها أصبحت قدرا لا يمكنك الحياد عنه، ولا تجد وسيلة غير التعايش معه في كل الظروف.
لعنة الكتابة..
هكذا أسميتها في مرحلة من المراحل لم أجد فيها أي صدى لذلك الفيض الذي عانيت من تدفقه كثيرا، وكسرت القلم في محطات كثيرة وعزفت عن السماح باستمرار تدفقه كونه يتخذ مسارات تقوده لصحار ٍ وأراض بور لم تعرف الخضرة يوما.
وكان قدر تلك المسيرة أن تكلل في بداية الألفية الثانية باستكمال أول مشروع قصصي ضم مجموعة من القصص القصيرة حملت اسم (غواية) وهو اسم إحدى تلك القصص التي تقدمت بها بعد ست سنوات إلى مكتب الشباب والرياضة بمحافظة مأرب للمشاركة في جائزة الرئيس، ولم يقتصر الأمر على ذلك؛ بل إني اخترت مجموعة من النصوص الشعرية أيضا لأشارك في مجالي الشعر والقصة.
لا زلت أتذكر تلك الجلسة التي جمعتني بالشاعر والباحث محمد سالم الحداد أثناء المقابلة الشخصية التي كان المكتب يجريها مع المتقدمين.
كان بيني وبين الأستاذ محمد معرفة سابقة ولو أنها سطحية، لذلك كان اللقاء حميما نوعا ما، وطرح علي العدد من الأسئلة استشفيت من خلالها انبهاره من النصوص التي تقدمت بها، واكتشفت لاحقا أنه طرح على بعض الزملاء المتقدمين معي للجائزة في فرعيها (الشعر والقصة) أسئلة بخصوصي وكانت إجاباتهم لصالحي بالتأكيد وضعت أمامه هذا الشاب بصورة مميزة.
بختام الجلسة أثنى الأستاذ على نصوصي وأسلوبي وتمنى لي التوفيق، ومنحتني كلماته تلك قدرا من المعنوية والتحفيز، وظننت أنني ربما وضعت رجلي في بداية الطريق.
أعلنت النتائج بعد فترة وعلمت أني فزت في مجال القصة القصيرة مناصفة مع الزميل والقاص ناصر نمي.
كانت سعادتي لا توصف بذلك الإنجاز، وحلمت إني على خلفية ذلك سأنجز الكثير من المشاريع، وأولها طباعة ونشر مجموعتي القصصية، لكن هيهات في غياب مؤسسات ترعى الإبداع وتساند الشباب.
استهلكت الكتابة من سنوات العمر الكثير، وبالمقابل أنجزت خلالها الكثير دون أن أسمح للإحباط أن يقضي علي أو على آمالي التي كاد الذبول أن ينال منها لعجزي أن أمنح مشاريعي الفكرية الحياة والظهور في مطبوعات تصل ليد القارئ.
في لقاء جاء بمحض الصدفة لم أخطط له إطلاقا جمعني لأول مرة بالأخ الغالي الشاعر والصحفي والكاتب المتميز منصور الأصبحي، وقد جاء ذلك اللقاء على هامش الإعداد لإنتاج فيلم وثائقي لإحدى المبادرات التي تنفذها جمعية الميثاق بدعم من مشروع استجابة.
ولا أبالغ إن قلت إن ذلك اللقاء كان لي بمثابة ولادة ثانية؛ إذ فتح منصور أمامي آفاقا رحبة تلقفت ذلك التائه الذي شاخت أحلامه وتهدلت آماله، وقاطع الكتابة منذ سنوات، ولم يعد يربطه بها غير أرشيف كاد أن يطويه النسيان ويدفنه غبار الأيام الخاملة.
سمعته في ذلك المقيل يلقي على المتواجدين قصيدة حداثية شعرت حينها أنه يخاطبني تحديدا من بين الحاضرين، ولفرط ذكائه لم يفته ذلك إذ انتبه لهذا الشاب الذي راحت جوارحه كلها متوجهة إليه وهو يلقي شعره.
في المساء وأثناء العشاء قال أحد الزملاء مخاطبا منصور:
الأستاذ مسعد شاعر اطلب منه أن يسمعك من شعره.
التفت منصور بخفة روحه المعهودة وبشاشته التي لا تفارق وجهه قائلا بصوت ٍ أقرب إلى الصياح:
أقسم بالله إني عرفت اليوم إنه شاعر من قبل أن يتكلم.
وكانت سهرتنا في ذلك المساء متميزة إذ تعرفنا على بعض بصورة أكبر، وعرفني لأول مرة على العالم الافتراضي من خلال فتح حساب خاص بي على فيس بوك، وعرفني على الكثير من الأصدقاء من الوسط الأدبي من داخل اليمن وخارجه، وساندني كثيرا، وأخرجني من آخر حلقة كانت تقودني نحو الضياع.
في اليوم التالي وبينما كنت أرتب لكتابة افتتاحية لنشرة ثقافية كانت الجمعية تصدرها شهريا، وجدت نفسي دون أن أنتبه أكتب بصورة تلقائية قصيدة كانت لي بمثابة نقطة تحول في علاقتي مع الكتابة، فكانت بحق “ثورة على الذات” كما أسميتها، ولن أحرمكم من قراءة تلك القصيدة التي تقول:
اجلد ذاتك
علك تدري
حجم الآتي
اجلد ذاتك
حررها من قيد الماضي
واخلع ثوب العرف البالي
اجلد ذاتك
واصنع وطنا ..
واخرج من وهم الأسوار..
وشكوى القدر الظالم دوما ..
وابرأ من رِقِّ الإيحاء ..
ومقت الفقر ..
وهدر الفكر ..
وعشق العزلة ..
اجلد ذاتك
***
اجلد ذاتك ..
فالماضي لن يعتق روحك
عش يومك ..
فجر بالواقع بركان الأحلام
دع عنك مقارعة الريح ..
وأفواج القطعان ..
فحبيبة قلبك في ذاتك ..
لم يأسرها ملك الجان
اجلد ذاتك
***
اجلد ذاتك ..
لازالت عندك آمال ..
وجدت من يأسك أغلال
ناضل عنها..
لا تستسلم
زلزل إحباطك..
لا تخضع
وعلى ذاتك ..
أعلن ثورة
فالثورة حتماً زلزال
***
كن أنت ولا تكن الآخر
فأنا أنت ..
و نحن الآخر ..
حين نعيد بناء الذات ..
حين تسافر فينا الكلمة ..
حين تعود طيور النورس
حين نمارس فن البوح..
ولا نخشى الإقصاء
ليولد طفلٌ ..
مكث طويلا..
في رحم الإعياء
***
اجلد ذاتك ..
فالغد آتٍ ..
عد العدة..
كي تلحق بالركب الماضي
فلغير مصيرك لن تحيا
أيقض روحاً ..
بدد فيها الخوف عوالم
كانت للحرف الأفياء
اجلد ذاتك
لقد كانت هذه القصيدة بحق مخاطبة للذات في المقام الأول قبل أن تخاطب المتلقي، لقد ولدت من مخاض المعاناة دون تدخل للشاعر فيها، فجاءت من اللاوعي معبرة عن اللحظة التي يعيشها كصراع داخلي يعصر أحشاءه ويمزقه من الداخل فقد ناله من التعب والإرهاق ما ظن أنه قد أصبح معه عاجزا عن المواصلة ليأتيه هذا الخطاب الداخلي ليبدد الغشاوة التي تكاد تطبق على ناظريه، وتجلي الرؤية أمامه، وتحثه على المقاومة والاستمرار في مسار اختاره ذات ليلة في منتصف التسعينات، وفي حالة تشبه هذه الأخيرة ليدرك أن الكتابة قدره الذي لا مناص منه واللعنة التي عشقها أيضا بكل جوارحه.