كريتر نت / كتب- عبدالجبار ثابت الشهابي
صعدت الشمس على منبرها في جوف السماء.. تماما ككل صباح.. لكنها اليوم تبدو كما لو أنها غير مصدقة ما ترى.. غير مصدقة ما جرى، وما يجري أمام عينيها حتى اللحظة.. حاولت أن تفكر بعمق.. أن تعيد ترتيب المسائل.
– ماهذا الزحف الرملي، التتري..؟
قالت في نفسها، وكان الريح القادم من جبال الحقد في صعدة؛ يصفر في كل اتجاه.. يعبث بكل شيء.. يعبث بكل مقدس.. يحمل الأشياء .. يرميها فوق الأشياء.. تحت الأشياء، فيما مضت جيوشه المعتوهة توزع حقدها الدموي لاغتيال الزهور والورود، ونسف المساجد، والمدارس، والمنازل، وحرق الحدائق..
– مهلا أيها الريح.. مهلا أيها الرمل!!
صرخت الشمس بأعلى صوتها.. لم يأبه الغزاة لصوتها، ولا لاستغاثات الأطفال، ولا لبكاء النساء، ولا لنداءات الشيوخ، واستعطافاتهم.. فقط كان المعول وحده يتكلم، وحده يفكر، وحده يدبر.
وبعد أن أوقفت الريح جنونها العاتي، خرجت الشمس من صومعتها سافرة، مذهولة، مهرولة إلى الحواري.. لاشيء ثمة غير الرعب.. غير الإرهاب.. غير الإخضاع، والإذلال.. غير التركيع.. نادت بأسماء بعينها.. لم يجبها أحد.. وجهت نظراتها نحو ميناء عدن الثكلى، كانت عدن قد انخرطت في عاصفة من البكاء الساحق، فيما كانت هي كالمرجل مرتعشة الأوصال.. مقطبة الوجه، محمرة العينين؛ كأنها بصدد انفجار عظيم قادم من الأعماق، وكان من يسمون أنفسهم (أنصار الله) قد أوقفوا الحركة، ونصبوا بدلا من الجنازير، وبدلا من أقدامهم المليئة بالغائط.. نصبوا المدافع، وقواعد إطلاق الصواريخ الجهنمية من كل مسمى، ولاسيما تلك التي أخفتها أيادي الخيانة بصفوف الشرعية، في تعيينات الجيش الوطني، الذي صار الآن دون وطن، وبدأوا نهارهم المظلم.. لكنهم اليوم من جبل الساعة، أعلى بنجسار، وبالقرب من قوات الحرس الجمهوري الماكرة، ببث الصرخة المجنونة، وتوجيه سهامهم السامة نحو البحر، ونحو صدور من حاولوا النفاذ من مياهه إلى ساحات النجاة بالبريقة، ثم بدأوا برامج الإنشاد العبثي في أول يوم لهم بعد اقتحامهم مديرية التواهي المذبوحة، المفجوعة، بعد أن غدر بها بعض رمال الصحراء، ونخاسي الجبال الحمراء، على شاطئ حجيف، وعاجورة، ورصيف السواح بدكة الإبكاري.
حاولت الشمس عبثا غسل وجهها بماء شاطئ الإبكاري، ارتعد البحر.. نظر إليها بإشفاق.. نادت بصوت عال:
– يا بحر!! أين الضواحي؟!
– تقصدين التواهي..
– لا فرق.. أين هي؟!
ثمة شريط مصور بدا يظهر في الأفق لمذبحة هذا الصباح في دكة الإبكاري.. هرب البحر بدمائه نحو البريقة..
– سيغتالونك يا شمس!! المجرمون وأعوانهم هنا.. اهربي ياشمس!! المرتزقة في كل مكان!! اسرعي!!
– تعال.. لا تخف!!
ثمة صوت ضعيف يأتى الآن من بيت قديم:
– ياشمس.. أنا هنا..مازلت أعيش.. أنا في بيتي القديم!! لم يعلم بي أحد.
– من أنت؟!
– أنا الضواحي!!
– الضواحي، أو التواهي؟!
– التواهي كما ينطق النصارى.. لقد نسي أحبابي اسمي.. صاروا ينادونني بلكنة النصارى.
– ولم لم تهربي؟!
– ومن لليتامى؟! ومن لأحبابي؟!
هزت الشمس رأسها.. ثمة دموع حرى تنساب من عينيها.. رفعت رأسها إلى الأعالي.. توجهت نحو البيت.. فتحت الباب.. التف حولها الصغار والعجزة، وكل من بقي في البيت.. وكانت هي تبكي، وتمسح على رؤوس الصغار، وفجأة حملت بندقيتها، وحقيبة معداتها.. ودعت الجميع، ثم قالت بصوت مجلجل:
– انتظروني!! أنا قادمة في أي صباح.. في أي وقت..
– والقيود..؟!
قالت التواهي.
– سنحطمها معا.. انتظروني!!
اتجهت الشمس وقد توهجت نحو البريقة، فيما بقي الجميع ينتظرون عودتها كل صباح.
– أخرجوا يا أحبابي.. لعلنا نجد خبزنا المسروق بالأمس.
قالت المدينة، وهي تمسك برأسها، وتترنح من قسوة الجوع يمنة ويسرة.
– سمعا وطاعة!!
قال الجميع.. ثم تفرقوا في الحواري.. فتشوا.. كان النخاسون الذين باعوا، وذبحت بعضهم خيانتهم بمدفعية الغزاة في حاضنة البحر؛ قد أخفوا كل ما سرقوه في مكان واحد.. حمل الغزاة كل الأسلحة والذخائر الثقيلة، والمتوسطة، والخفيفة، التي ظلوا يقاتلون بها المقاومين فترة طويلة، وحمل المساكين ما قدروا عليه من الخبز، والدقيق، والسكر، والأرز، واللحوم، في حملات متواصلة حتى العصر، وعادوا به إلى المنزل، وحين أقبل الصباح يوقظ الأطفال؛ كان الجميع قد خرجوا، كعادتهم، كل إلى وجهته للقاء الشمس..
وفي هذا الصباح؛ خرج الأطفال كالعادة.. بدأوا حلقة لعبهم اليومية، وفجأة تقافزوا في كل اتجاه.. ثمة طفل مدجج بالسلاح جاء اليوم إلى حلقة لعبهم.. أخذ الطفل يصرخ:
– الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل.. النصر للإسلام!!
توقف الأطفال.. حلقت سحابة من الصمت.. قال أحدهم للقادم:
– هل تلعب معنا؟! نحنا مانحبش أمريكة واليهود.. نحنا نحب الإسلام!!
– عيضربوني الحوثة.
– ماحد بيخبرهم .. تعال نلعب!! لكن خبئ هذا السلاح
– على الله..
اجتمعوا.. بدأوا اللعب مجددا.. مر الوقت، ومرت الأيام؛ حتى كان هذا الصباح.. جاء الطفل يبكي دون سلاح.. لم يكن يقوى على الوقوف.. قال وهو يرتعش:
– يا دواعش خبئوني.. خبئوني!!
– من معه سلاح نحن ام أنتم؟!
– سامحوني هم يقولون..مش أنا.. أنتم أحبتي..هم دواعش.. الحوثة دواعش ارهابيين.. أخذوني عنوة من حضن أمي لأجاهدكم!!
– وليش نخفيك الآن؟
قالت المدينة
– الدواعش واجين!!
– منهم الدواعش؟!
– لا.. لا.. تعودنا، وتعودت اللسان. أنتم أخواني وآبائي
– والذين سيأتون هم أخوانك!
طأطأ رأسه..ارسل عينيه إلى الأرض.. ابتسم، ولم يلبث ان دعا الأطفال للعب كأن لم يكن قد حصل شيء.. وفجأة دخلت القوات رافعة أعلام النصر.. ارتفعت الزغاريد.. فتحت المدينة ذراعيها لاحتضان أبنائها.. احتشد الناس مرددين أناشيد النصر.. كانت الشمس تراقب المشهد عن كثب.. احتضنتهم جميعا بحنان، ثم مضت إلى شروقها الأزلي، لكنها لم تغرب بعد ذلك النهار!!