عبدالجبار ثابت الشهابي
تأملت مليا التقرير الذي سلمها إياه طبيبها للتو، لكن عقلها، وقلبها، وحواسها كلها كانت في الحقيقة عند المعهد الذي تعتبره هي معهدها، وعند طالباتها اللواتي كن لا يردنها أن تذهب اليوم إلى الطبيب.. طالباتها اللواتي حولن الفصل الدراسي اليوم إلى مبكى.. في هذا الصباح تمنت الواحدة منهن لو أنها تستطيع أن تخبئها في قلبها من ذلك المجهول الذي يتهددها، من ذلك المجهول الذي قد يخطفها عليهن في أي لحظة
– هذا ما كانت تخشاه الطالبات، و…. ربما ما كنت أخشاه أنا أيضا..
قالت في نفسها، وهي ماتزال تقلب التقرير، ثم مالبثت أن حشته بعنف في حقيبتها كأي تقرير من التقارير السابقة، أو كأي فاتورة كهرباء، أو ماء تتسلمها شهريا في زمن اللارواتب، اللاحقوق، بعد أن ترك لها زوجها عبدالعزيز أمور الإدارة المالية للمنزل إثر تقاعده، وتكريس حياته تماما لخدمتها، وخدمة الأولاد فقط..
شعرت فجأة بسيل متدفق من الثبات الإيماني يجتاح قلبها.. بمدد رباني عجيب.. لم تبك ككل النساء، بل ككثير من الرجال.. الجملة الوحيدة التي كانت ترددها: الحمد لله.. الحمد لله…
قال لها الطبيب:
– هذا ليس تقريرنا.. نحن ارسلنا أكثر من عينة، وأكثر من صورة.. لكن النتيحة- ويا للأسف- جاءت واحدة.. كما ترين..
– وأنا يا أخي قد رضيت بقدر الله منذ داهمني هذا المرض قبل عشر سنوات، وسأبقى راضية.. قالوا حينها سيقضي علي الداء خلال أربع سنوات، وكما ترى.. مازلت أعيش بفضل الله..!!
— التداوي لا يخالف الرضا والتوكل.. السرطان غزا بجحافله المختلفة معظم أجزاء الجسد، ومالم تسارعي سيغزو الآن دماغك، ونخاعك الشوكي.. أي الموت المؤكد..
– ومن أين لي بالملايين يا دكتور..؟! بعنا كل ما نملك، وأنت الذي ماعليك مسؤولية نحونا إلا أنك الطبيب المختص.. بعت من أجلنا بقلبك الطيب سيارتك.. الأعمار بيد الله يا أخي..!!
– لا تنسي.. أنت معلمة بناتي، ومعلمة مئات من بنات عدن، ومحافظات اليمن، وربما الآلاف.. أنا لم أفعل يا أختي سوى الواجب.
– ليت كل البشر مثلك.
– المهم الآن أسرعي..!!
– إن شاء الله..
– الموت لن ينتظر…
– منذ عشر سنوات وأنا أسرع.. لن يكون سوى ما يريد ربنا..
– هذا الأسبوع.. على الأكثر..
– بعد شهرين..!!
– الحالة تزداد سوءا..
– الذي كتب الله لي سيكون..
– لكن التقرير مخيف….
– دعنا من التقرير.. سأمتحن طالباتي، وأطمئن عليهن أولا!! وبعدها قدراتي المادية.. وهذا هو الأهم..
– المسألة تخصك.. أنا بلغتك.. ولو بيدي شيء أفعله لوجه الله لفعلته..
– أخي أنت لست طبيبا.. أنت ملك.. عملت ما عليك، وزدت.. جزاك الله خيرا..
قطعت الحديث.. نهضت من كرسي المعاينة.. ثمة شعور غريب بدأ يجتاحها للتو.. ثمة نشاط يملأ جسدها الرشيق.. جسدها الذي ظلت تحافظ عليه طيلة سنوات عمرها.. جسدها هذا الذي جاء السرطان ليهد جمال بنيانه.. هذا الجسد الذي لم يعترف بتوقيعات السنين القاسية، وظل وردة، متفتحة، عطرة، في غصن بان مياس، وكأنها لا صلة لها بتاريخ ولادتها (26 سبتمبر 1962م) الذي تحتفل به هي وزوجها وأولادها في كل عام، ولا باثني عشر ولدا وبنتا، يقيمون الآن هم وأسرهم في عدد من مدن البلاد، ودول الجوار..
هاهي الآن قد شطبت بعناد من حياتها كل سوداوية المرض التي حاولت أن ترتسم بإصرار أمام عينيها.. كل آلام السنين.. شعرت للتو كأنها قد عادت شابة.. ثمة شوق غامر لزوجها.. شوق جارف بدأ الآن يكتسح كل خلايا قلبها.. لذلك الحبيب المرافق لها طيلة العمر، وخصوصا منذ تقاعده من عمله قبل 15 عاما.. طالما نهرته.. طالما شعرت بالضيق من حنانه وخوفه عليها؛ خوفه الذي كانت ترى أنه زائد على الحاجة.. طالما ترجته أن يهتم بنفسه، وبصحته في هذا العمر الذي تجاوز السبعين، واقترب من الثمانين.. لكنه ظل يرافقها كظلها.. يخاف عليها من خطر الطريق.. من مضاعفات المرض.. لكنها في هذه اللحظات نادمة تماما لأنها أبقته اليوم أمام مبنى عيادة الطبيب، ولم تسمح له بمرافقتها.. خرجت من مبنى العيادة مسرعة، كأنها يوم التقته بعد مراسيم عقد الزواج في بيت الجد (والد أبيها، وأبيه) إنها تريد الآن أن تحتضنه.. أن تقبله.. أن تقول له كما قالت له في ذلك المساء البعيد قبل أربعين عاما إنها تحبه.. وإنه لن يفرق بينهما غير الموت.. لكنها… تذكرت كلام الطبيب قبل قليل.. أسرعت، وهي تنادي بكل ما أوتيت من قوة:
– عبدالعزيز.. عبدالعزيز.. عبد العزيز..!!
– خدامك حبيبتي!!
جرت نحوه كأنها طفلة مدللة تريد أن تلقي بجسدها في حضن والدها.. بل كأنها في سباق مع مانع متجبر يريد أن يبعدها عنه.. مع وحش كاسر يريد أن يقطع عليها الطربق.. أن يقضم قلبها، وأوصالها، وتفاصيلها..
– إبشري يا غالية!! أبشري يابنت العم!!
– بشرك الله بكل خير ياوجه الخير!!
– كل أهلنا، وكثير من طالباتك، وفاعلي الخير الكرام، في داخل اليمن وخارجها تحملوا مسؤولية جماعية عن علاجك بالمفتوح، ودون قيود.. فقط..
– فقط ماذا؟!
– أسرعي بتحديد موعد السفر!!
– وما أدراهم؟
– أنا عبد العزيز.. خلال نصف ساعة فقط.. هذا عملي، وتخصصي.. هل تعتقدين أنني كنت جالسا..؟! هاتفي كان يعمل عند الطبيب، وشمالا، وجنوبا، وشرقا، وغربا.. ماتخافي..!! الله معنا… الله معنا..
اغرورقت عيناه بالدموع..
فكرت مليا، ثم قالت:
– سأمتحن طالباتي في المعهد..!! طالباتي أهم من تقارير الأطباء.. فيهن أجد نفسي، وشبابي، وعمري، وصحتي.. وإذا مت، فإني لن أموت حقيقة، بل سأعيش فيهن، وسأحيا بهن أجيالا، وأجيالا لا نهاية لها.
– سيأتين الليلة لوداعك.. المعهد نفسه ضمن الكافلين لعلاجك..
نظرت نحوه، وهي تريد أن تبكي.. قالت له، والدموع تنهمر على خديها:
– كيف أترك طالباتي؟! ومن الذي سيمتحنهن غيري؟! كنت أريد هذا العام أن أخرج دفعة نموذجية قبل أن تقاعدني الوزارة.. لكن.. لاحيلة.. يفعل الله ما يشاء!!
ركبت سيارتها الصغيرة بجانب زوجها.. توجه بها نحو المنزل، لكنها أصرت أن يتجه نحو المعهد.. أن تلقي نظرة أخيرة على طالباتها قبل السفر، وهن في مقاعد الدرس.. توقف عند البوابة.. نزلت من السيارة.. دخلت الساحة، وفجأة وجدت نفسها بين حلقات ضخمة من الطالبات، والمدرسات وقد انخرطن كلهن في نشيج محرق.. حاولت وهي تقبلهن واحدة واحدة؛ أن تهدئ من روعهن، وتطمئنهن أنها بخير، وأنها ستعود إليهن إن شاء الله، وأن الأعمار بيد الله..
قرع الجرس بعد انتهاء فترة الاستراحة.. ودعتهن، وودعت زميلاتها اللاتي لم يستطعن حمل أجسادهن من على الأرض.. تأخرت قليلا وهي تأخذ بخاطر هذه وتلك.. ناداها زوجها.. قال في نفسه: ماذا جرى لها؟! لماذا تأخرت، وقد قرع الجرس، وبدأت الحصة الدراسية؟.
حاولت أن تسرع إليه، لكنها شعرت أن الألم اشتد عليها.. تحاملت.. حاولت ألا تجعله يشعر بحالتها.. رسمت ابتسامة عريضة على شفتيها.. لكنها لم تكن سوى رجع أنين مثخن، أسرعت خطواتها متحاملة… نظر إليها بإشفاق وهي مقبلة نحوه، وهو يقرأ مافي عينيها، وتقاسيم وجهها، لكنه مثلها كان يثق مع ذلك برحمة الله، وأن دعوات القلوب المحبة، الطاهرة هي الآن في طريقها إلى مالك السماوات والأرض ومن فيهن.. إلى من يجيب دعوات المضطر إذا دعاه، وحين التقاها في أحضانه الحانية؛ كان هاتفه يرن.. أحس أن ثمة من يلح في الطلب.. أن ثمة بشارة قادمة لا محالة.. نظر في شاشة الهاتف.. المتصل هو الطبيب المختص.
– السلام عليكم.
– وعليكم السلام.. أبشروا!!
– خيرا إن شاء الله يا دكتور..!!
– أسرعوا بالحالة..ثمة أمل كبير في الشفاء.. الآن استلمت خطابا من أحد مستشفيات الهند ردا على خطاباتي التي كنت قد أرسلتها اليهم.. ثمة أطباء توصلوا لعقار فاعل لإيقاف الداء، والقضاء عليه..
– وماذا نفعل نحن الآن..؟
– أنا في انتظاركما في العيادة عصرا..
عادا مرة أخرى إليه.. عيناها كانتا تنظران بفضول يمنة ويسرة، كأنها طفلة في طريقها إلى المدرسة، وكانت الأزهار والورود التي تفتحت للتو على جانبي الطريق، وفي الجزر والجولات تبتسم لها بحنان، وكأنها حلم جميل على أهداب هذا المساء الذي بدأ يلف بعباءته وجه البسيطة.
أستقبلهما الطبيب عند باب المبنى.. دخلوا إلى العيادة.. عرض عليهم المطلوب للرحلة، فيما بشره عبدالعزيز بما كان من تفاعل الكافلين..
قال الطبيب:
– إذن نجهز غدا كل شيء..
– وستبقى حركتنا مرتبطة بموعد الرحلة الذي قد يتأخر..
قال عبدالعزيز، وهو ينظر إليها، فيما اكتفت هي بهز رأسها بالموافقة..
رد الطبيب:
– الرحلة بعد غد بحول الله، وسنعمل معا، قدر المستطاع لتحقيق ذلك..
– إذن اتفقنا، وأجرك أخي على الله.. نحن لن نستطيع أن نكافئك، ولو وهبناك كنوز قارون..
– أنا لا أريد كنوز قارون، ولو أهديت لي لرددتها لقارون نفسه!! أنا لا أريد مصير قارون.. أنا عشت مسكينا، وأحب أن أموت وأحشر مع المساكين..
– نسأل الله لك الفردوس الأعلى..
قالا له، وهما يهمان بالمغادرة..
– هذا هو ما أريد..
رد، وهو يلملم أوراقه استعدادا لمرضى قادمين
استأذنا بالخروج.. قال لهما:
– غدا سنتحرك معا!!
– إن شاء الله..
ردا بصوت واحد، وأضافا:
– تصبح على خير.!!
– وأنتما من أهله!!
خرجا من المبنى.. ركبا سيارتهما مجددا.. اتجها نحو المنزل، وما لبث زوجها أن غير اتجاه السير نحو ساحل أبين.. لم تتكلم.. كأنهما كانا يفكران بعقل واحد.. أوقف السيارة على الساحل بجانب مجموعة من سيارات المتنزهين.. قعدا إلى إحدى الطاولات المنشأة حديثا.. كان البحر الصاعد بأمواجه الهادئة، القادمة من عمق المحيط نحو الساحل يبث نسماته العليلة، الخجولة، الباردة، ويعيد إلى الأذهان، والوجدان قصة عصفورين طالما ألفا هذا المكان، وحكاية ياسمينة كانت منذ زمن طويل تراقص عبق البحر، وتعطر بشذاها مزامير الأمواج المتدفقة.
لم يمكثا طويلا هنا، فقد كان عبد العزيز يعلم أن الوقت الآن قد تأخر، وأن برنامج الغد لا يسمح بالسهر هذه الليلة، لكنهما اتفقا على العودة إلى هذا الشاطئ تحديدا في أول ليلة مقمرة بعد العودة من هذه الرحلة.
أسرعا إلى سيارتهما.. شعرت بأن الآلام تقضم قلبها.. تحرق روحها، وتضيق على نفسها، لكنها تماسكت بكل ما أوتيت من قوة الإحتمال.. كانت الطريق البحرية على ساحل أبين تمتد أمام عينبها كثعبان خرافي، لكنها مع ذلك ظلت صامتة، فيما ظل زوجها يتكلم باستفاضة، وبأمل وردي عن رحلة ما بعد الغد، وعن ذلك اليوم الجميل الذي سيعودان فيه إلى هنا.. دون ألم، ودون خوف..