عبدالجبار ثابت الشهابي
أخيرا ؛ لم يبق لديه في كيس الدواء، وعلبة الأنسولين؛ سوى الوصفة العلاجية المصروفة من مركز القلب في صنعاء، وهي الوصفة المتهالكة التي لم تجد طريقا، ولا وسيلة للوصول إلى أي مستشفى، أو مستوصف للتجديد منذ 2008م، تماما مثلما لم يبق لديه من المال بعد نفاد المواد الغذائية في منزله؛ سوى وريقات لاتكاد تكفي اليوم أجرة للسيارات، كان يدخرها كما يقول من آخر قرض استلمه من صاحب الدكان المجاور، أما الراتب الشهري؛ العليل، المسلول، فسجين في مصرف الكريمي منذ ثلاثة أشهر متواليات، وتحديدا في فرعه الوحيد بعدن، الواقع في مدينة الشيخ عثمان، الذي ظل يعمل في محافظة عدن، مع ما في ذلك من تهديدات الحوثة، واحتمال اجتياحهم في أي وقت للمدينة التي بقيت عصية عليهم حتى اندحارهم من المحافظات الجنوبية.
وفوق كل ذلك.. رمضان يوشك على الإنتهاء، والعيد على الأبواب.. وحاجة الأولاد، هم آخر يلقي على هم الدواء، وديون الناس جبالا من الهموم والكوابيس..
– ما العمل إذن؟!
سأل نفسه وهو يقلب كفيه.. الوقت الآن السادسة صباحا.. الصيام، وحر الصيف، وانقطاع الكهرباء الدائم؛ كل ذلك طرد النوم من عينيه، ووحشية العوز، وغطرسة المحتل؛ أكلتا السكينة، لابد من فعل شيء.. الناس أكلوا وجهه -كما يقول.. الدواء، وخصوصا الأنسولين لا يتوفر سوى في الشيخ عثمان.. الوصول إلى الشيخ عثمان في هذه الظروف؛ دونه قلاع عصية، وربما اعتقالات، وسجون حوثية، وتعذيب قد لايحتمله مريض مثله بالسكر، والضغط، والقلب.. الكريمي من جهته لا يقبل إلا أن يأتي الشخص بنفسه، والزحام عليه كيوم الحشر.
تكرر السؤال، وألحت الحاجة.. كان يتحرك كالثعبان في قربة الصياد.. يضرب على رأسه.. يتحرك كالمعتوه من غرفة، إلى غرفة، ومن الشارع المقفر، إلى البيت الخاوي.. وكانت أم الأولاد تصور بعدستي عينيها تحركاته، مكتفية بالتحديق في وجهه المكفهر، فيما كانت الدموع المنهمرة من عينيها تبل قلبها المشتعل بصمت.
– ماهو الحل؟! كيف ستتصرف يا أحمد؟!
قالت له سلمى هي الأخرى، وهي تحاول كفكفة الدموع المنسكبة على خديها اللذين أكلهما الجوع، والهم، والحزن، وأضافت:
– بطوننا، وبطون الأولاد تشكو الخواء، والأهم دواؤك، والأنسولين اللازم لحياتك لم يبق منه شيء.. ماذا نعمل؟
– لا حل سوى بركوب الخطر..
قال أحمد، وهو يجر نفسا عميقا، فيما كانت يداه تمسحان خديها بحنان..
ردت سلمى، وفد شرعت في تجهيز نفسها للخروج:
– إذن، وأنا والله معك.. رجلي برجلك..
– لا.. سأذهب لوحدي.. هذا واجبي.. الوضع خطر..
– وأنا معك.. نموت.. نحيا.. معا.. أنا… معك..!!
إلتفت إلى وجهها.. انفجرت تبكي.. أرسل وجهه إلى الأرض.. احتضنها.. قبلها.. إنخرطا في نشيج محرق معا.. لأول مرة يشعران بالمرارة.. لأول مرة كذلك يشعران بحاجة كل منهما الشديدة للآخر.. للبقاء معا، وفي أقرب مسافة ممكنة.. قال لها:
– ماذنبك أنت حتى تخاطري بحياتك معي؟!
– لا عيش لي بدونك.. نحيا، أو نموت.. معا..!!
حزما أمتعتهما.. خرجا إلى الفرزة.. ثمة حافلة صغيرة تقف أمام حديقة التواهي، ومبنى شركة زبين المغلق، كمعظم الشركات والمحلات التي تسببت الحرب الحوثية على عدن في إغلاقها، وتشريد عامليها، وتجوبع عائلاتهم.. الحافلة توشك الآن على الحركة.. اقتربا.. كل من هنا هم من الأهل والجيران، بمن فيهم السائق، لكنه اليوم -أي السائق- ليس ككل سائق قد تصادفه في الفرزة.. لقد عزم اليوم كما يبدو على دخول الشيخ عثمان بأي ثمن.. هكذا قال لمن حوله، وهما يصعدان إلى كرسييهما.. الشوق يحرق أحشاءه.. أسرته نازحة هناك، وهو في ذلك على كل حال مثله مثل كل من ركب معه الحافلة.. كل منهم دفعته، بل رمت به حاجته، أو قهره ظرف خاص لركوب مجهولات هذه الرحلة، التي لا يعلم منتهاها إلا الله.
تحركت السيارة قبل أن تمتلئ الكراسي.. أطلق السائق العنان لعجلات سيارته.. كل منهم كان يفكر بهدفه، ويتمنى لو تطوى المسافات.. لو تختزل في بضع دقائق.. بل في بضع ثوان.. كانت السماء متجهمة.. ملبدة بالسحب الصفراء، والهواء متقلب كتقلبات أمزجة حراس النقاط.. ظل الركاب نازلين، صاعدين، نازلين، صاعدين.. وفي كل مسافة ثلاث دقائق على الأكثر.. والويل والثبور لمن يقول: لا، أو حتى يتدخل، أو يعترض بكلمة واحدة.
وأخيرا، وصلت الحافلة مفترق الفيوش/ الشيخ عثمان، من الطريق البحري الوحيد؛ الذي بقي مفتوحا.. توقفت الحركة هنا.. السيارات المتوقفة تزيد الآن على خمسين سيارة، ومازال العدد قابلا للزيادة.. كلها تنقل أصحاب حاجات.. وكلهم يريدون دخول الشيخ عثمان.. أسلحة الحوثة في النقطة؛ كلها موجهة نحو ركاب الحافلة، ونحو كل من وسوست له نفسه اليوم دخول مدينة الشيخ عثمان.
نزل السائق.. صرخ في وجهه العسكري المسؤول، وهو يوجه سلاحه الآلي نحوه:
– الآااااان غادروا الموقع إلى حيث جئتم.. الآن قبل أن يكون لنا كلام آخر..
– يا أخي صلوا على النبي!!
– نحن نعلم أنكم دواعش، وتريدون أن تدخلوا الشيخ عثمان لمناصرة أخوانكم الدواعش هناك.
– يا أخي نحن أصحاب حاجات.. منا المرضى الذين جاؤوا للتداوي، ومنا من جاء لاستلام راتبه المرسل من صنعاء منذ شهور، ومنا من يريد زيارة أهله النازحين إلى المدينة، والدنيا كما تعرف.. على أبواب العيد، وحاجاته كما تعلم كثيرة..
– المهم، لا تكثر الكلام.. لا دخول اليوم.. هذه هي الأوامر الصادرة من السيد..
– والمرضى يموتون؟!
– يموتون.. ما الذي سينقص؟!
– حرام عليكم.. نحن اخوانكم..
– أنتم أخوان الدواعش!!
وفجأة، توقفت سيارة الصليب الأحمر الدولي..
– ماذا يريدون يا فندم؟!
انتعش السائق.. شعر كأن الفرج قد جاء على أيدي ممثلي الصليب الأحمر.. حاول أن يوسطهم.. أن يستدر فيهم مشاعرهم الإنسانية التي يدعونها.. على الأقل من أجل السماح للمرضى.. رفض ممثل الصليب التدخل، قائلا بحزم، وهو ينفخ سيجارته ببذخ:
– هذا ليس من صلب عملنا.. هم أخبر بكم!!
صرخ العسكري بأعلى صوته منتشيا بموقف ممثل الصليب:
– ارجعوا وإلا يادواعش.. قيمة الداعشي عندنا لا تزيد على طلقة واحدة من بنادقنا.. احترموا أنفسكم وعودوا بسلام..!!
– يا أخي أما تخافون من الله..؟!
– الآاااااان تحركوا!! الآن..
قالها، وهو يشحن مع جنديين آخرين بجانبه السلاح، الموجه نحو من في الحافلة.. صرخت النسوة:
– ارجع يا سائق.. نريد العودة بسلام!!
رجع السائق.. بدا كمن يبكي.. عشق تروس السيارة.. تحرك ببطء كمن لا يريد العودة.. صرخ العسكر موجهين عددا من الطلقات في الجو.. حرك السائق السيارة مع من تحرك على مضض.. ثم قال:
– والله ما أنام اللبلة ياكلاب إلا عند أهلي في السيخ عثمان..!!
ارتفعت الأصوات:
– كيف..؟ الرصاص وراءنا..
– والله معنا..!! والله ما رجعنا التواهي!! يكون ما يكون.. هل أنتم معي يارجال؟!
– معك.. معك.. بسم الله!!
وفجأة.. وقبل أن يفكر؛ ثمة سيارة صالون تخترق طريقا رمليا كالبرق من أمامهم.. التفت السائق بسرعة للرصاص التي انصبت كجهنم على السيارة الهاربة.. ارتعد.. قال له الراكب في الأمام، وهو بالمناسبة صهره، وسائق متمكن، ومتمرس على العمل في الطرق الصحراوية:
– لا عليك.. لا تخف.. عشق التروسين: الأول والسابع.. الحق السيارة الصالون الآن بسرعة، والذي كتبه ربنا سيكون!!
طار السائق بالسيارة في الصحراء كالبرق، فيما انهمرت الرصاص على الحافلة كالمطر العاصف..
اهتز السائق.. دهمه الرعب.. اختلت حركة السيارة.. صرخ الجميع بصوت واحد، هادر كالرعود:
– لاتتوقااااااااف.. اسرع.. اسرع.. اسرع.. اسرع.. اسرع.. اس…
تواصلت الأصوات بنفس يحترق، اشتدت نبضات القلوب.. تطاير الرصاص دون هوادة في جوانب الحافلة وفوقها..
– لا تتوقاااااااااااف.. اسرع.. اسرع.. الحوثة سيقتلوننا.. اسرع..
امتدت الرؤوس الى الأمام، تواصلت الأصوات الحاثة، ولم تتوقف.
وفجأة؛ قاطعتها تكبيرات السائق:
– الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر ولله الحمد..
توقفت السيارة.. قال السائق، وهو يرسم ابتسامة طفولية على ثغره:
– الحمد لله على السلامة!!
أخيرا، انقطعت أطماع الرصاص الحوثية، دخلت الحافلة منطقة سيطرة المقاومة.. أصبحت الآن بمن فيها على مشارف الشيخ عثمان.. دخلت المدينة.. هنأ الجميع بعضهم البعص، ثم توجه كل إلى حاجته، وكان أحمد يمشي بجانب سلمى، وسلمى تمسكه بحرص، وكان الاثنان يحلمان بغد جميل، مشرق، خال من الرصاص، وبحياة خالية من قهر الإنسان لأخيه الإنسان.
.