د.عادل السريحي
ليست التفاهة مجرد كلماتٍ فارغة تُقال أو مشاهد عابرة تُعرض، بل هي أخطر من ذلك بكثير؛ إنها وباءٌ يتسلّل إلى الوعي ببطء، حتى يُخدِّر العقول، ويُميت الذوق، ويُعطّل قدرة الإنسان على التفكير السليم والاختيار الرشيد. وحين تستقر التفاهة في النفوس، تنشأ أجيالٌ لا تُحسن التمييز بين الجد والهزل، ولا بين الحق والباطل، فتتلاشى القيم، وتضعف الأخلاق، ويصبح المجتمع هشًّا أمام أي ريح عابرة.
لكن هل يمكن للتفاهة أن تصنع إنسانًا ناضجًا، أو تبني مجتمعًا واعيًا؟ قطعًا لا. فالنضج لا يولد إلا من رحم المسؤولية، والوعي لا ينمو إلا بشقيه بالفكرة الصافية والكلمة النبيلة. أما التفاهة، فإنها لا تترك وراءها سوى الفراغ، وتحوّل الإنسان إلى ظلٍّ باهت لا أثر له.
ولكي نكسر هذا الطوق المظلم، علينا أن ندرك أن مسؤولية المواجهة جماعية لا فردية. تبدأ من الفرد حين يختار ما يقرأ ويسمع ويشاهد، وتمتد إلى الأسرة حين تغرس في الأبناء حبّ المعرفة ورفعة الذوق، ثم إلى المدرسة والجامعة حين تفتح أبواب الفكر والنقد والابتكار، وأخيرًا إلى الإعلام والثقافة حين تضع معيار الجودة فوق معيار الربح.
إن محاربة التفاهة لا تكون بالصراخ في وجهها، بل ببناء بدائل أرقى منها: كلمة تُحرّك العقل، فكرة تُوقظ الروح، عمل يُضيء الطريق. هكذا فقط نستطيع أن نصنع مجتمعًا محصّنًا من السقوط، ومهيّأً للنهوض.
فلنختر جميعًا أن نكون في صف الوعي لا في صف التفاهة، في صف البناء لا الهدم، في صف الحياة لا الفراغ. فالمستقبل لا يُصنع بضحكاتٍ عابرة، بل بعقولٍ تفكّر وقلوبٍ تحمل رسالة.