طاهر شمسان
كيف أمكن لرجل مثل علي عبد الله صالح أن يصبح رئيسا في بلد معقد ومتنوع كاليمن، وأن يظل ممسكا بالسلطة لأكثر من ثلاثة عقود، وهو الذي لم يتلقَ تعليما نظاميا، وبالكاد تعلم أوليات القراءة والكتابة، ولم يعرف عنه أنه كان صاحب حضور عام؟
الملاحظ على هذه الأسئلة أنها مكرورة، وأنها تدور حول الذات وليس حول الموضوع، وأن الانشغال بها يؤدي في الغالب إلى أسطرة الرجل ومنحه صفات ليست فيه. والأسئلة التي تدور حول الموضوع هي: من أين تأتي السلطة في اليمن؟ ولمن تأتي؟ وكيف تأتي؟ وفي اعتقادي أن هذه أسئلة مفتاحية لكل من يريد أن يحصل على معرفة جيدة.
والخبرة السياسية المتراكمة في اليمن الشمالي طوال سنوات العهد الجمهوري تؤكد أن السطلة في هذا البلد لا تأتي من نصوص الدستور، ولا من الإرادة الشعبية، وإنما من مصادر أربعة متفاوتة القوة، لكنها متكاملة ومتخادمة، وهي على وجه التحديد: القبيلة، والسلاح، والمال السياسي، والارتباطات الإقليمية. وبالاستقراء نلاحظ:
1.الرئيس عبد الله السلال وصل إلى السلطة بشرعية ثورية، لكن القبيلة المسلحة عارضته منذ اليوم الأول للثورة، ثم نفذت ضده انقلابا في 5 نوفمبر 1967 متكئة على ارتباطها الإقليمي المبكر بالسعودية.
2.القبيلة المسلحة جاءت بالقاضي عبد الرحمن الإرياني رئيسا للمجلس الجمهوري، وهي نفسها التي هددت بسحبه في شوارع صنعاء ما لم يغادر السلطة.
3.القبيلة المسلحة هي التي زكت إبراهيم الحمدي لدى السعودية ليكون بديلا للقاضي الإرياني، وهي نفسها التي تشددت في معارضته إلى أن تم قتله في مؤامرة تعاضد فيها الدولي والإقليمي والمحلي.
4.أحمد حسين الغشمي كان رئيسا عابرا، أتت عبوة ناسفة على نصفه الأسفل وقتلته في إطار مخطط دولي وإقليمي لإسقاط النظام السياسي في الجنوب، بواسطة الحرب، انطلاقا من الشمال.
5.المخطط الدولي والإقليمي الذي أطاح بالحمدي والغشمي، هو نفسه الذي جاء بعلي عبد الله صالح رئيسا لليمن، لكن الحرب التي أدارها صالح عام 1979 أخفقت في تحقيق هدفها لأن ميزان القوة العسكري كان حينها لصالح الجنوب الذي استطاعت قواته أن تتوغل بسرعة في عمق أراضي الشمال من كل الاتجاهات الحدودية.
وحتى لا يتهمنا أحد بالتحامل على الرئيس السابق صالح سوف نستعين بشهادة موثقة أدلى بها الرجل الذي مات محالفا له، الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، في مذكراته الصادرة عام 2007 صفحة (225-227)، وفيها قال ما يلي:
1. لم نكن نرغب أن يتولى علي عبد الله صالح منصب الرئيس، لأننا من ناحية كنا نعتقد أنه غير قادر على تحمل المسئولية، ومن ناحية أخرى-وهي الأهم-كنا نصر على عودة الحكم المدني لكي نكفر عن خطئنا السابق.
2. لكن علي عبد الله صالح أصر، واستطاع بذكائه وحنكته أن يكسب الجيش ويفرض نفسه.
3.الإخوة في المملكة العربية السعودية جاءوا بطائرة تنقلني إليهم لإقناعي بعلي عبد الله صالح.
4.العميد صالح الهديان، الملحق العسكري للمملكة في اليمن، بذل جهودا كبيرة لإقناعنا بعلي عبد الله صالح.
5. علي بن مسلم جاء من السعودية ليقنعني ويقنع بقية المشائخ بعلي عبد الله صالح، ولم يغادر صنعاء إلا وقد تمت الأمور.
ومن كلام الشيخ عبد الله في (1) نفهم أنه لم يكن في البداية مقتنعا بعلي عبد الله صالح رئيسا للبلاد، وهذا صحيح 100 %.
لكن الشيخ لم يكن صادقا في السببين اللذين أوردهما لتبرير عدم اقتناعه، والصحيح أنه لم يكن يعلم أن علي عبد الله صالح سيكون رئيسا مطيعا لا يفصل في أمر إلا بعد العودة إليه.
كلام الشيخ عبد الله في (2) كله دعاية ظل الخطاب السياسي والإعلامي الرسمي يكررها طوال عهد علي عبد الله صالح “الشجاع الذي حمل كفنه بيده وقَبِلَ أن يجلس على كرسي مفخخ”.
وليس من تفسير لهذه الدعاية سوى أن هذا الرجل لم يكن يتوفر على شرعية تبرر وصوله الغير متوقع إلى السلطة، فذهب الخطاب الرسمي، الذي تخلَّقَ من ثقافة القبيلة، يخترع له “شرعية وصول” غريبة على الفكر السياسي اسمها “الشجاعة”؛ وهذا اختراع لا محل له من الإعراب سوى التغطية على الدهاليز والأقبية المريبة التي سلكها علي عبد الله صالح للوصول إلى السلطة في زمن الفوضى الممتدة إلى يومنا هذا الذي نحن فيه الآن.
ومن كلام الشيخ عبد الله في (3) و(4) واضح أن قائد لواء تعز الرائد علي عبد الله صالح هو رئيس اليمن بعد إبراهيم الحمدي بإرادة سعودية قوية، وما أحمد حسين الغشمي سوى جملة اعتراضية ركيكة تم حذفها من سياق النص.
أما كلام الشيخ عبد الله في (5) فيثير ثلاثة أسئلة هي: من هو علي بن مسلم؟ ما الذي اضطره أن يأتي إلى صنعاء؟ وما هي الأمور التي لم يغادر صنعاء إلا وقد أتمها؟
ومن البحث في الشبكة العنكبوتية تبين أنه علي حسين بن مسلم، وأنه رجل ظِلِ يعمل مستشاراً في الديوان الملكي ومسئولاً عن السياسة اليمنية الغير علنية، وأنه مدير النفوذ السعودي في اليمن، والمكلف بتوزيع الموارد المالية (المال السياسي) لضمان الولاءات.
وقد جاء بن مسلم إلى صنعاء لإقناع شيوخ القبائل بعلي عبد الله صالح حسبما أوضح الشيخ عبد الله الأحمر في مذكراته. وما لم يقله الشيخ عبد الله أن بن مسلم أتي على متن طائرة محملة بملايين الريالات.
أما المهمة التي لم يغادر بن مسلم صنعاء إلا وقد أتمها فهي تنظيم العلاقة بين علي عبد الله صالح ومرشح الشيخ عبد الله للرئاسة.
من بديهيات الأشياء أن شيخ القبيلة “التي تصنع الرؤساء” لا يمكن أن يظهر عدم رغبته بعلي عبد الله صالح دون أن يكون لديه مرشح آخر. في البداية كان مرشح الشيخ للرئاسة هو القاضي عبد الكريم العرشي، وعندما قيل للشيخ إن الرئيس المطلوب لهذه المرحلة يجب أن يكون شخصية عسكرية، أشار إلى رجل السعودية الأول في الجيش اليمني، المحارب السابق في صفوف الملكيين ضد الجمهورية، العائد إلى صنعاء بعد مصالحة سبتمبر 1970، أركان حرب اللواء الأول مدرع، علي محسن صالح الأحمر.
ويبدو أن الشيخ عبد الله عندما رشح علي محسن لم يكن قد أدرك بعد أن علي صالح هو الخيار السعودي الوحيد والنهائي، وأن أوراقه عند المملكة أقوى بكثير من أوراقه وأوراق علي محسن، على الأقل في تلك اللحظة وفي ذلك الوقت. وفي الوقت نفسه لم تكن المملكة مستعدة لأي تصرف يمكن أن يكسر بخاطر رجلها الأول في اليمن الشيخ عبد الله الذي تعلمُ أنه باع “إمام المذهب لإمام الذهب” وأن ولاءه أصبح خالصا لها.
ولهذا بعثت علي بن مسلم إلى صنعاء لترتيب العلاقة بين علي عبد الله صالح وعلي محسن الأحمر.
ولتطمين الشيخ عبد الله تبوأ علي محسن مكانة رئيس ظِلْ، واللواء الأول مدرع أصبح الفرقة الأولى مدرع.
وهذا ترتيب سعودي جاء في وقت لم يكن فيه علي عبد الله صالح قادرا على ممانعته.
شخصية علي عبد الله صالح:
واقع الحال أن علي عبد الله صالح أصبح رئيسا للجمهورية لفترة زمنية استغرقت 66 % من سنوات العهد الجمهوري الممتدة من سبتمبر 1962 حتى خلعه عام 2011، وهذا يحتم علينا البحث في العوامل التي تعاضدت لصوغ شخصية هذا الرجل:
1.الذكاء الفطري:
كل من عرف علي عبد الله صالح عن قرب عرف جيدا أنه ليس رجل فكر، وإنما رجل مهارات مكتسبة ذات طابع عملي وبيئي، وأنه يتمتع بذكاء فطري حاد. ومن مميزات هذا النوع من الذكاء أنه:
1. لا يتطلب تعليما نظامياً أو أكاديمياً.
2. يغتني من التجربة والاحتكاك وحسن التقاط الإشارات من البيئة.
3. ذو طابع عملي يضيق كثيرا بالتنظير حتى في حدوده الدنيا.
4. تكتيكي لا يستطيع أن يمارس فاعليته إلا في القضايا المنظورة التي يمكن مقاربتها بسهولة.
5. عديم الفاعلية عندما يتعلق الأمر بقضايا غير منظورة على المدى القريب وتحتاج إلى تفكير استراتيجي.
2. بيئة الولادة والنشأة:
ولد علي عبد الله صالح عام 1942 لعائلة قبلية عادية في سنحان، حيث القيم القبلية، والتحالفات، والثارات، والدهاء الاجتماعي، مهارات أساسية دونها لا تستقيم حياة الفرد في القبيلة.
وفي سنحان نشأ الطفل صالح يتيما محدود التعليم لأسرة محدودة الموارد، وفي مطلع شبابه المبكر التحق بالجيش باعتباره المجال الوحيد المتاح لأبناء الفقراء، وبخاصة الطامحين منهم.
3.الجيش كحاضنة للتعلُّم:
الجيش في العالم المتمدن والمستقر هو مؤسسة وطنية احترافية، وهو عكس ذلك في بلدان العالم الثالث، مع فروق بينها في الدرجة وليس في النوع.
ولأن الأشياء تعرف بأضدادها، لا مناص أولا من التعرف على سمات الجيش الوطني الاحترافي، وهي:
1. جيش مهني محايد، الولاء فيه للدولة وليس لأشخاص أو مراكز قوى.
2. جيش لا يتورط في السياسة، ولا يخدم أجندات مناطقية أو طائفية.
3. جيش لا يكون طرفا في أي صراع، وإنما أداة لفض الصراعات.
4. جيش يحترم التراتبية القيادية القانونية والانضباط المؤسسي.
5. جيش يخضع لتكوين أكاديمي دائم وتدريب مستمر.
وهذه السمات جميعها لا تتوفر في الجيش اليمني، لأنه لم يكن في يوم من الأيام مؤسسة وطنية احترافية، وإنما كان-واستمر في عهد علي صالح-بنية شبه عسكرية-سياسية، قبلية، مؤامراتية، فيها محاور ومقايضات وصراعات، ويلعب أدوارًا تتجاوز الوظيفة الطبيعية للجيوش (أي الدفاع عن الوطن وسيادته) إلى أدوار اجتماعية وسياسية واقتصادية، حتى أصبح كثير من اليمنيين ينظرون إليه كأداة سلطة وليس كجهاز دولة. أما أبرز سماته بإيجاز فهي:
1. فضاء لبناء شبكات مصالح ونفوذ.
2. فضاء لتعلم أساليب السيطرة.
3. أداة للمقايضة السياسية.
4. فضاء لا يعرف المساءلة والمحاسبة.
وتلك هي سمات المدرسة التي تعلم فيها علي عبد الله صالح وشكلت شخصيته قبل أن يصبح رئيسا.
أما المهارات التي تعلمها في هذه المدرسة فهي:
1. فن القدرة على البقاء في بيئة مؤامرات، أي البقاء في قلب الحدث دون أن يكون في الواجهة: ففي المؤامرة على الرئيس إبراهيم الحمدي كان أحمد حسين الغشمي في الواجهة، بينما كان علي عبد الله صالح في القلب.
2. القدرة على بناء شبكات مصالح شخصية داخل الجيش (وهذا ما فعله لاحقا عندما صار رئيسا حيث بنى جيشا له لا جيشا للدولة).
3. مبدأ: لا تثق بأحد بالكامل، ولا تعادِ أحدا بالكامل.
4. إدارة التناقضات كأداة حكم. ومن هذه التناقضات تعلم لعبة التوازنات.
لذلك رأيناه يمارس الحكم بفوضى منظمة يديرها ويسيطر عليها هو، لا بنظام واضح تديره وتسيطر عليه مؤسسات.
وهذا هو “الرقص على رؤوس الثعابين” بحسب تعبير علي صالح نفسه.
لكن أهم شيء تعلمه صالح هو، أن الجيش ليس أداة بيد الدولة، وإنما هو الطريق إليها، وأن من يتقن لعبة الجيش يمكنه أن يصبح رئيسا، حتى ولو كان بلا تعليم، وبلا مشروع وطني، وبلا رؤية؛ وتعلم أيضا أن الرضا والدعم الإقليمي هو أهم مصادر السلطة في اليمن.
ومنذ اللحظة التي أدرك فيها صالح هذه الأمور بدأ يفكر بالسلطة بواقعية حادة تغلب المصالح على المبادئ، وببرجماتية متطرفة لا تقيم وزنا لأية حسابات إنسانية أو أخلاقية أو وطنية.
وفي المحصلة، تشكلت شخصية صالح في الجيش على النحو التالي:
سياسيا: البراغماتية، التحالفات المتقلبة.
أمنيا: توظيف الجيش والمخابرات لحماية السلطة وليس لحماية الدولة.
اجتماعيا: اللعب على التناقضات القبلية والمناطقية.
نفسيا: الحذر، الشك، التحكم الكامل بكل مفاصل القرار.
اقتصاديا: فهم كيف تُدار المصالح.
وقد انسحب هذا التكوين العسكري الشبكي لشخصية علي عبد الله صالح على طريقة حكمه، فعندما أصبح رئيسًا عام 1978، لم يكن رجل دولة بالمعنى المدني أو المؤسسي، بل كان رجل ميدان، وشبكات، ودهاليز سلطة. لذلك انتقل من “فن البقاء داخل الجيش” إلى “فن البقاء على رأس الدولة” بنفس الأدوات تقريبًا، وهي:
1. الحكم بالشبكات لا بالمؤسسات.
لم يهتم علي صالح ببناء مؤسسات حقيقية، بل بنى شبكات مصالح.
ففي الجيش: ألوية وقادة موالون. وفي القبائل: مشايخ يحصلون على امتيازات مقابل الولاء. وفي الاقتصاد: رجال أعمال ومقاولون مرتبطون بالرئاسة لا بالدولة.
وفي إدارة الشأن العام: الصلاحيات الفعلية مركزة في مكتب الرئاسة، أو عند شخصيات مرتبطة أمنيا بالرئيس.
2. إدارة الدولة كأنها ساحة عمليات.
كانت طريقة حكم علي صالح تشبه إدارة العمليات العسكرية.
فالقرار: يصدر من أعلى دون نقاش. والمعلومات: مركزية لا يشرك فيها أحدا إلا للضرورة. والمفاجأة: جزء من التكتيك.
وأهل الولاء: مقدمون على أهل الكفاءة.
3. الحكم عبر التوازنات لا عبر القوانين.
بدلاً من فرض نظام قانوني صارم يسري على الجميع، أبقى علي عبد الله صالح كل القوى في حالة توازن هش: فلا قوة تسيطر بالكامل، ولا قوة تضعف تماما، وكل طرف يظل دائما بحاجة لحماية الرئيس من خصومه الفعليين أو المحتملين.
4. احتكار المعلومات والقرار.
مثلما في المؤسسة العسكرية، كان صالح يتحكم في كل مفاصل الدولة بمستوى شخصي: يعرف ما لا يعرفه حتى الوزراء؛ يعين ويقيل بناءً على تقييمه الشخصي لا وفق آلية مؤسسية؛ يفتح ويغلق الملفات حسب ما يناسبه، حتى أن البرلمان شرَّع له قانونا يقضي بأن يسلم الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة ملفات الفساد لرئاسة الجمهورية.
5. تسييس الجيش واستعماله كسلاح داخلي.
لم يكن الجيش في عهد صالح مؤسسة وطنية، بل كان: سلاحًا سياسيًا وذراعا أمنيا لفرض الهيبة، وأداة لمعاقبة المناطق الخارجة عن الطاعة بأوامر من الدائرة الضيقة، لا من مؤسسة الدفاع الوطني (قمع الحراك الجنوبي وحروب صعدة مثال على ذلك).
وقد ترتبت على هذه العقلية في الحكم نتائج خطيرة: فالدولة كل شيء فيها يدور حول شخص الرئيس، ومؤسساتها شكلية يديرها أهل الولاء، والفساد تطاول وأصبح الوسيلة الأهم في الحكم والإدارة.
وفي ظل التوازنات الهشة والمصطنعة كانت البلاد تعيش في حالة احتقان مزمن وصل ذروته في العام 2011.
ولم يكن الربيع العربي سوى القشة التي قصمت ظهر البعير.
وفي ظل غياب المؤسسات الحقيقية، انهارت التوازنات الهشة في لحظة، وعوضا عن التغيير الذي أرادته ثورة 11 فبراير حدث التفجير الذي فرضته طبيعة النظام السياسي العصي على الإصلاح.
فعلي عبد الله صالح لم يكن دكتاتورًا تقليديًا، ولا زعيمًا أيديولوجيًا، بل كان “مايسترو” يدير أوركسترا معقدة اسمها اليمن، بإيقاع من الجيش والقبيلة والمال والخوف والذكاء الشخصي. ولأنه بنى كل شيء حول شخصه، كانت البلاد مهيأة للانفجار.
كثيرون هم أولئك الذين يلقون باللائمة على ثورة 2011 ويحملونها مسئولية الانهيارات التي نعيشها منذ عقد مضى، بينما المسئولية يتحملها علي عبد الله صالح الذي بنى نظاما عصيا على أي إصلاح:
1. نظام بدون مؤسسات حقيقية:
لا توجد آلية محاسبة فعلية؛ برلمان شكلي؛ قضاء تابع؛ وزارات ومرافق ومصالح حكومية تعمل لصالح الحاكم وليس لصالح الدولة. ومعنى ذلك أنه ليس بمقدور أي كان أن يصلح شيئا وهو لا يملك أدوات تغييره.
2. رئيس يرفض تقديم أي تنازل لصالح الوطن، ويرى أن أي إصلاح جاد هو تقويض لحكمه، وكل من يطالبه بالتغيير يصنف على أنه عدو أو عميل، أو، في أحسن الأحوال، فاشل وحاقد.
3. حياة سياسية مفرغة من أي مضمون:
الانتخابات مسرحية؛ الأحزاب ممولة من النظام؛ منظمات المجتمع المدني مخترقة أمنيًا. والنتيجة: لا توجد ساحة مدنية تقود إصلاحًا حقيقيًا.
4. بيئة سياسية مشبعة بعدم الثقة:
أحزاب اللقاء المشترك لم تكن موحدة بما فيه الكفاية حول برنامج وطني واضح؛ الحزب الأقوى في المعارضة كان جزءا من النظام نفسه، وعندما تحول إلى المعارضة تحول “مكرها لا بطل” بسبب خلافه مع علي صالح وليس مع نظامه.
نهاية علي عبد الله صالح:
كانت نهاية علي عبد الله صالح على يد الحوثيين في ديسمبر 2017 مشهدا مأساويا لرجل عاش ومات في لعبة السلطة.
والجاني في هذا المشهد هو علي عبد الله صالح نفسه بحكم تكوينه الشخصي.
فحين قرر أن يتحالف مع الحوثيين كان يعتقد أنه قادر على استخدامهم كورقة ضد خصومه والعودة إلى السلطة مجددا.
وعندما استشكل عليه الأمر بدأ يحضر لما أسماه “الانتفاضة” من أجل الثورة والجمهورية والوحدة والديمقراطية، وكل هذه المسميات لم يقتلها أحد مثلما قتلها علي عبد الله صالح.
على طريق التحضير للانتفاضة، فتح علي صالح خطوطا مع الخليج والسعودية-أي مع من قال إنه تحالف مع الحوثي ضد عدوانهم على اليمن- وأطلق العنان لخطابات التحدي معتقدا أن الجيش سيقف إلى جانبه، بينما كان الجيش قد تفتت، وشبكات المصالح كانت قد تمزقت، ولم يعد أحد مستعدا للمغامرة من أجله.
لم يكن لعلي عبد الله صالح مشروع وطني، ولا كان صاحب أيديولوجيا، وبنية سلطته كانت كلها حول شخصه، ومن دعموه في الماضي لم يدعموه لأنهم آمنوا به وإنما لأنهم انتفعوا منه، وبمجرد أن فقد القدرة على المنفعة تخلى عنه الجميع.
لقد عاش صالح مديرا لشبكة مصالح وليس حاكما لدولة. هذه الشبكة كانت فعالة طالما كان هو المحور، وبمجرد اختفائه عن المركز، انهارت معه.
والخلاصة:
أن علي عبد الله صالح كان عبقريًا في اللعب بأدوات “الفوضى المنظمة” لكنه فشل في أن يحوّل هذه الفوضى إلى نظام مستدام، فبنى دولة من الرمال، لا من المؤسسات، ولذلك انهارت مع سقوطه وتحولت إلى ركام، ولا حل سوى إعادة بنائها من الصفر. وهذا موضوع مقال قادم.















